مرت سنة 2022 كما تمضي هذه الحياة، سريعة حافلة بالأحداث، على أني لم أنخدع برحيلها، إذ ستبقى آثارها محفورة في نفسي، شأنها شأن كل حادثة وقعت في طفولتي وطفولتكَِ، فتركت بصمتها في قلوبنا وعقولنا ولازمتنا حتى كبرنا وعقلنا، وبقيت ظاهرة في سلوكنا وقناعاتنا.
فإن نحن إلا أيام، وهذه الأيام ترمي على أجسامنا ونفسياتنا وأفكارنا الكثير مما تحمله من: مسؤوليات ومتاعب وواجبات، ومن معلومات وأخبار ومن قصص وحكايا، ومن مشاعر وأحزان تتراكم كلها وتتفاعل، فتصهرنا وتعجننا، وتعيد إنتاج شخصياتنا.
وإن الطفل، ومنذ ولادته تكون له جبلة وصفات وراثية مركزة فيه، وله حواس ومنافذ لهذا العالم الخارجي، وكلما عاش في هذه الدنيا يوماً، حمل منها حزناً وألماً وخوفاً وأملاً، وتَشَبَّع بخبرة أو حكمة، أو تلقى صدمة.
والفكرة، أنه وبمقدار عمر كل منا تحمل النفس الألم والأمل، وحسب عدد السنين تثقل بالجروح، والمشكلة أن جروحنا لا تجد الوقت اللازم لتندمل، حتى توافينا الحياة بجروح أعمق وأوسع، وإنها لجروح معنوية، ولكنها عملياً مثل الجرح الحقيقي: تنزف فنفقد دماً ثميناً، وتؤلم لأيام، وتلتئم أحياناً بطريقة مشوّهة، وقد تُغلق هذه الجراحات على ما فيها من أذى أو قيح أو صديد، فَتُكوِّن خراجات تنفجر ذات يوم، أو تتسبب بأمراض خطيرة. وهذا ما يحدث تماماً داخل النفس البشرية.
ولذا أنصح بامتصاص الأحزان أولاً بأول، وبتصفية المشكلات. أو -وعلى الأقل- منع تراكم الضغائن والمزعجات. فإن لم يتيسر حل المشكلات، وتعسر التغلب عليها: ففي النزهات أو المشي في الطرقات مخرج كبير وجميل، فالمهم الترويح عن النفس بأي طريقة كانت، ولو بنشاط مبهج داخل البيت: للتسرية عن نفسكَِ، إما وحدكَِ بمشاهدة فيلم، أو رؤية صوركَِ القديمة، أو مع عائلتكَِ الصغيرة، بجلسة لطيفة، وأنصح الأم بصحبة رفيقتك الحميمة المتفهمة. فالترويح هو الشيء الأساسي الذي يخفف من وطأة الهموم والضغوط.
وبالنسبة لي روّحت عن نفسي في هذا العام بالسفر، فزرت أختي أروى في البوسنة، في أيام جميلة هنية بهيجة، لن أنساها ما حييت، فقد أغنتني صحبتها عن سائر قراباتي، وأمدتني بزاد من الدعم والحب يكفيني لسنوات، وأتأمل أني بادلتها ذلك الفضل، وهذه كانت الفائدة الأولى.
الفائدة الثانية- إن تتابع الأعوام وسرعة انتهائها، وانتفاء البركة منها وزوالها، علمني أن الساعة واليوم والشهر والسنة؛ لا تقاس بالثواني والدقائق الفعلية؛ وإنما "بمقدار الإنجاز الذي تم فيها". وهذه خلاصة لتجربتي من هذه الناحية:
حيث عشت دهراً بتأنيب الضمير إذا تأخرت بالاستيقاظ صباحاً، أو إذا أسرفت في الترويح عن النفس، أو إذا ذهب مني يوم في قضاء بعض الأعمال الجانبية ولم أقرأ فيه شيئاً مفيداً.
إذ كنت أعتقد أنه يجب -وفي كل يوم- أن يكون لي برنامج واضح ثابت: فأقوم من النوم في وقت مبكر، وأعطي وقتاً محدداً ومسلسلاً لكل مهماتي كأم وزوجة والبيت… فينبغي أن أعيش بنظام يومي واحد متكرر، أعمل فيه كل واجباتي وأوفيها حقها الكامل، حتى اكتشفت يوماً أني مخطئة، لعدة أسباب:
– فالنفس كل يوم هي في شأن، وكل ساعة في مزاج، فإذا مرض ابني، أو جاءتني ضيفة، فلا يمكنني أن أصنع بعض المهام.
– ولأني أدركت اختلاف الشخصيات: فمنها من تمضي لهدفها بخطوات ثابتة وبطيئة يومية، ومنها من تهمل وتُسوِّف لأيام، ثم تقفز، وفي ساعات تعوض ما فاتها وبكل إتقان.
– ولأن منا من تصحو وتنشط في المساء، ومنها من تنشط في الصباح الباكر.
– ولأن الناس قدراتهم متفاوتة، وهواياتهم متباينة…
فرأيت الصواب أن أعطي نفسي شيئاً من المرونة بالأداء، ولا أجعل الواجبات ثقيلة فوق ثقلها، أقصد حين أجبر نفسي على القيام بها في ساعة معينة وأنا كارهة؛ فلا بأس من تأخير بعضها، وتقريب بعضها الآخر، ومن إسناد شيء منها للأولاد وإهمال الثانوي منها، المهم أن أكون فاعلة وأنجز، ولي ملء الحرية باختيار الوقت والكيفية.
الفائدة الثالثة- لاحظت أن كثيرين، ومن المؤثرين والمشهورين: يعتاشون على نقد الآخرين، ويجلبون المتابعين لصفحاتهم عن هذا الطريق، ويستعملون أسلوب الغمر واللمز أو الاستهزاء المباشر بالأشخاص والأفكار. ولم يتركوا أحداً من شرهم وسلاطة ألسنتهم، وسواء عندهم الأحياء والأموات… فقررت ألا ألتفت لنقد هؤلاء، ولا أتابع هذه الحسابات لأن ما يفعلونه حرام شرعاً، وحرام من باب المروءة ومن باب الإنسانية، لما فيه من سوء ظن وتكبر وتدليس واجتزاء وغش للقارئ، ولما فيه من انتقاص وفضائح. وكم أستغرب من أسلوبهم؛ فتغيير القناعات يكون بالتدريج، وبالكلام الإيجابي، وبطرح عميق (وليس بالشتم والاستهزاء بالمخالف).
والدليل أن سلوكهم أدى للتجرؤ وللانفجار وللوقاحة بالطرح، وزاد من الفساد ومن نشر الأفكار المنحرفة بدل أن يحد منها.
وإني، وبعدما رأيته من تجنٍ وافتراء واتهامات، صرت أكتب ما أشاء، مما أراه صواباً، وأدعمه بالأدلة والآيات، ولا أبالي بجمعهم.
وهكذا قررت ألا أدع النقد المغرض يثبطني أو يحبطني؛ في حين جعلت النقد البناء مرشداً ينبهني لخطئي، ويحفزني لأستمر في مشروعي التوعوي.
الفائدة الرابعة- في هذه السنة، فقد معارفي وأقراني الكثير من أقاربهم وأزواجهم، فعشت معهم آلامهم وانفطر قلبي على مصابهم لحبي لهم، وحرصي على مشاعرهم.
وأما أنا فماتت في هذا العام "علاقات" كنت أظنها -لقدمها ورسوخها- متجذرة وعميقة وقوية، ولكنها انهارت وتدمرت رغم أني جهدت وأفنيت حياتي بالمحافظة عليها ورعايتها وسقيها، وقدمت لها قلبي وعقلي وصفو وقتي، وأوليتها جل اهتمامي، وتغاضيت عن عظائم الأمور والأخطاء التي صدرت من الطرف الآخر تجاهي، وتسامحت وعفوت… ولكنها أبت إلا غيظاً ونفوراً وانفجاراً. فتيقنت أنه، وحين يدخل الحسد والغيرة سوء الظن، فلا بد أن يدمروا أي علاقة، ويسحقوا كل مودة ومرحمة، مهما كانت علاقة القرابة ونوعها… وهذا ما كان.
وفي هذا العام تمتّنت علاقات كنت أظنها في طريقها للفناء، فسبحان الله الذي يأخذ ويعطي.
وإنها لمن علامات آخر الزمان الممتلئ بالعجائب والكوارث والمفاجآت، حيث: تلد الأمة ربتها، وتكثر الزلازل وموت الفجأة. فتوقعوا كل شيء في هذه الحياة، ولا تقولوا: "يستحيل أن يحدث هذا"، فقد رجعنا لزمن المعجزات!
وهنا أفيدكم بنصيحة ثمينة:
"العلاقات من طرفين، ولن تنجح إلا بالتعاون بينهما والتضحية من كليهما، وبالمقابل العلاقات سوف تفشل مهما تفانى أحدهما وتغاضى، إذا تنمّر الآخر وتجبّر وتصرّف بأنانية"، فلا تلوموا أنفسكم لو بذلتم وقدمتم ثم فشلتم، فقد يكون الطرف الآخر هو السبب.
وإن أذى الناس أكثر بلاء يقع علينا في هذه الدنيا، على أنه، وبحمد الله، ليس الأكبر؛ فالصحة أثمن، ودفء الأسرة الصغيرة أدعم، وكلاهما يعوض عن أذى الناس وينسيه، فلا تعطوا الناس أكبر من حجمهم.
وتأكدوا أننا نعيش في عصر الفقاعات، أي: مهما تلقيتم من أذى الناس، ومن كلامهم المؤلم وافترائهم، فهي فترة وسوف تمضي، وينسون. ولكثرة الوقائع المثيرة سينشغلون بقصة أخرى
الفائدة الخامسة- وفي هذه السنة تم استقراري في عمّان بعد طول اغتراب، وتمكنت بعد جهد وتخطيط من ترتيب أغراضي، وإيجاد مكان ملائم لكل قطعة منها، فالبيت في جدّة كان أوسع وأبرح!
ورحم الله تلك الأيام التي كان فيها الحرم والبحر قربي، فهنا كنت أتعبّد، وهناك كنت أتسلى، وكلاهما كان يمدني بالصحة والقوة النفسية والبدنية.
وسكني في الأردن حرمني من صديقاتي في السعودية، على أني استعضت بالكتاب وتيقنت أنه خير جليس، ويلحق بالكتاب "المحمول" و"النت" فهما ممتلئان بالفوائد والفرائد لو أحسن استخدامها، وفيهما مجال كبير للتسلية وللتواصل..
وكل أمر مهما بدا سلبياً فله إيجابيات متعددة؛ فوجودي في عمّان جمعني -أنا وزوجي- مجدداً مع أولادنا في بيت واحد (بعد انفصالهم عنا 6 سنوات بسبب سفرهم للدراسة الجامعية)، وما أحلى الدفء العائلي.
وإن أي بلاء طالما كان خارج البيت، فهو سهل ويمكن حله، فاحرصوا على علاقاتكم من أزواجكم وأولادكم، فهي زادكم وسندكم.
الفائدة السادسة- وفي هذا العام تفطنت لأشياء ووعيت لخبايا، وأدركت أن هناك أموراً سعيت لها وهي سراب، وأمور أهملتها وهي قيمة.
واكتشفت أن هذه هي الجدولة والهندرة الحقيقة التي ينبغي علينا جميعاً القيام بها في كل عام، فنعيد ترتيب أولوياتنا، وآمالنا وطموحاتنا.
– الفائدة السابعة: وعلى الرغم من أن 2022 رقم جميل وجذاب، فإن ذلك العام تلقى الكثير من السخط والنقد كما تلقى سلفه 2020، وكأن المظلومية والبكائيات شغف الناس؛ فكثيرون يتمتعون ويسعدون بإثارة الأحزان والتركيز على السلبيات! ولعلها عادة عربية قديمة، حيث كان الشعراء يبدأون قصائدهم بالوقوف على الأطلال ولكنهم كانوا بعدها ينتقلون لموضوع القصيدة، أما نحن فنبقى نلطم ونستجر الأحزان وأنا لست ضد الانتقاد البناء، ولا شك أن للطرافة وللبكائيات فوائد: فهي تفريج وتحسين للمزاج، ولكني خشيت أن يذهب ذلك بالإيجابيات، ويجعلنا ضعفاء أمام البلاء؛ وإني وحين عرفت معنى التوكل وحقيقة الإيمان بالقضاء والقدر، وأن ما أصابني لم يكن ليخطئني، عشت هادئة مطمئنة، وتعلمت كيف أعيش بتفاؤل، وألا أسمح للأحزان أو المزعجات أن تكسر خاطري، أو تدمر نفسيتي، أو تنال المعوقات من إنجازي، واستمتعت بكل إيجابية في حياتي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.