سؤال كان دائماً يراودني ويجول في خاطري، هل العقل هو عضو مثل سائر أعضاء الجسد كالقلب والمعدة؟ أما أنه عملية ضمن جسد الإنسان يقوم بعملية التحليل والتفكير وطرح الحلول من خلال تقنيات يتبعها؟ حتى مكانه غير مُتفق عليه.. فريق يعتقد أنه يتمركز في الدماغ، وفريق آخر يعتقد أنه في القلب، ولكن ليس لديّ جواب واضح، لأن هناك الكثير من الأبحاث العلمية التي تكلمت عن هذا الموضوع دون جواب نهائي، ولكن المتفق عليه أن العقل هو المسؤول عن العمليات الذهنية والنفسية التي يقوم بها الإنسان إرادياً أو لا إرادياً، كما أنّه المنبع لكلّ السلوكيات والتصرفات والأفكار السليمة التي تميّز الإنسان عن غيره من الحيوانات غير العاقلة، فالعقل في اللغة عكس الجهل، والعقل هو الذي يحثّ الإنسان على القيام بعمليات التفكير، والتحليل، والتدبّر، للتمييز بين الصواب والخطأ والسلوكيات والأفكار المقبولة وغير المقبولة. فهو وعاءٌ يولد مع الإنسان منذ طفولته يقوم بتكوين نظامه المعرفي، فهذا النظام يتكون من أربعة مصادر، العائلة والمدرسة والمجتمع والعولمة، وهذه المصادر تكوّنت أيضاً بالطريقة نفسها ومن المصادر نفسها من الجيل الأقدم، بعد هذا التحليل نستطيع أن نستنتج أن العقل ينقسم إلى قسمين، الأول يقوم على الاتباع، والقسم الآخر يقوم على الإبداع، ولكن السؤال، كيف تكون العقل العربي الجديد؟ هل هو عقل تابع أعمى أم هو عقلٌ مبدع، أم هو خليطٌ بين الاثنين؟
ماذا نعني بالعقل العربي الجديد؟
لقد خاض الجابري الفيلسوف المغربي معركته الفكرية والفلسفية من خلال كتبه، مثل تكوين العقل العربي والعقل السياسي العربي، فقام بتقسيم العقل العربي إلى ثلاثة أقسام، البياني والبرهاني ثم العرفاني، كان نقده يقوم على أن العقل العربي توقف عن الإنتاج، أي توقف بشكله البرهاني والتزم مهمته بكونه عقلاً بيانياً بحتاً، فإنه يرمز إلى الجمود والتراجع وأن الحضارة العربية والإسلامية ليست نتاج عقلٍ وعلم، إنما هي نتاج نصوصٍ دينية جامدة غير قابلة للتغيير، فهي حضارة بيانية ونصوصية، لذلك لقد أعطى صفة للحضارة الإسلامية أنها حضارة فقه، ولكن في الحقيقة لا يمكن وصف الحضارة الإسلامية بأنها قائمة على البيان حصراً أو الجمود والالتزام الكامل بالنصوص، فهذا غير صحيح تماماً، فهذه الحضارة حكمت العالم القديم تقريباً، وأنتجت العلوم والفلسفة وهي جزءٌ كبير من العقل البرهاني، ولكن ليس هنا موضوعي، ولكني تطرقت إلى هذا الموضوع كي أميز بين تكوين العقل العربي القديم الذي قصده الجابري، وبين العقل العربي الجديد الذي ظهر بعد الاستعمار، فالعقل الذي تكلم عنه الجابري وغيره من المفكرين هو عقلٌ يختلف عن العقل الجديد، فإن النظام المعرفي ومصادره هو ما كوّن ذلك العقل الجديد الذي كوّن تلقائياً الهوية الرخوة والضعيفة والضائعة وغير الواثقة من نفسها وقدراتها وتتنكر لتاريخها، فهذا العقل هو انعكاسٌ للاستعمار الذي قام بتكوين مصادر نظامنا المعرفي.
إن المشرق اليوم هو انعكاس للغرب، ولكن بشكله السلبي، بمعنى أن الغرب عندما استعمرنا قام بتصدير الجهل والفقر إلى بلادنا، وسلط علينا حكاماً ديكتاتوريين ظلمة حوّلوا البلاد إلى مزرعتهم الخاصة، والناس هم العبيد الذين يخدمون صاحب المزرعة، هكذا نشأت المجتمعات العربية الجديدة بهذا المنطق، وهو المصدر الأول، أما المدارس وهي المصدر الثاني، فإن مهمة الإرساليات كانت أشبه بمراكز للاستشراق والاستشراف، فكوّنت أجيالاً يعادون تقاليدهم وثقافتهم ودينهم وبلادهم بشكلٍ مباشر وغير مباشر، وأصبحوا منبهرين بالغرب بشكلٍ رهيب، أما المصدر الثالث وهو العائلة، وبسبب الرأسمالية المتوحشة، فهي تلهث وراء لقمة العيش والسعي لحياة كريمة، لذلك فلقد كان توجههم مادياً، غافلين عن الجانب الروحي والثقافي والهوية، فتلوثت العائلة تماماً ولم يعد لها تلك القبضة الحديدية على الأولاد. أما الجانب الأخطر وهو العولمة، فلست ضد العولمة بالمطلق، ولكن في ظل هوياتٍ هشة غير متماكسة وفي ظل عقولٍ مثل المعدة تهضم دون أن تحلل، تصبح العولمة كالفيروس المنتشر في الهواء يطال كل من يتنفسه، وفي ظل الثورة في عالم المواقع التواصل، تشوه النظام المعرفي وأصبح العقل أسير تلك المواقع.
لقد تكوّن العقل العربي الحديث مشوهاً، فهو ليس كما صنفه الجابري بين البياني والبرهاني وليس العرفاني، فهو ليس ضمن تلك الثلاثية، ليس عقلاً دينياً وليس عقلاً تحليلياً وإبداعياً أو صوفياً، إنما عقلٌ يهضم كل ما يصله دون أي تحليل، وهنا التحدي الكبير، فلا قيامة للمجتمع العربي إلا من خلال الإبداع، ولكن الإبداع لا يكون بالطلاق من التراث والتاريخ والهوية، فإن التاريخ مرحلة أساسية في عملية تأسيس العقل والهوية، ولكن عندما يعتمد العقل على الاتباع الأعمى يموت الاجتهاد والإبداع والابتكار، لذلك عليه أن يكون خليطاً بين المادة والروح، بين التاريخ والحاضر، بين الاتباع والإبداع، بين الصحوة والتجديد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.