منذ عهد الفراعنة وحتّى العصر الحديث.. “روابط أزلية” بين مصر والسودان

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/19 الساعة 14:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/24 الساعة 12:53 بتوقيت غرينتش

قد يتبادر أول ما يتبادر إلی ذهن القارئ الكريم، وهو يُطالع هذا (العنوان)، أن الكاتب سيعيد كتابة تاريخ شعب وادي النيل، بكل ما فيه من ااستقامات والتواءات، ومن محاسن ومعاٸب، وما فيه من حقاٸق وأباطيل، وما فيه من إنجازات وإخفاقات!

لكن المقصود هو غير ذلك، وإن كان قريباً من ذلك، أراد الكاتب أن يبني في هذا المقال علی الجانب المضئ من هذه العلاقة المتشابكة، ولا نقول الشاٸكة، ونظلم شعب وادی النيل، لو أرَّخنا "للعلاقة" بين مصر والسودان، بقصة "فتح محمد علي" لإقليمی سنار وكردفان! فقد بدأت هذه العلاقة منذ الأُسرات الأولی في تاريخ مصر القديم، فبدأت بأغراض تجارية، ولوجود حجارة العمارة، ومعدن الذهب، وبالتدريج اامتد نفوذ الحضارة المصرية القديمة فانتقلت من التجارة إلی الاحتلال، ثم الی التمصير الكامل، ولكن كل ذلك لم يتعدَّ المنطقة الشمالية "إقليم دنقلا" وتكونت مملكة كوش، وزحف ملوكها إلی مصر؛ لإنقاذها من سيطرة الليبيين، واندمج الإقليمان لما يقارب ٧٥ سنة تحت مسمی "ملك كوش ومصر" قبل أن تصطدم بمملكة الآشوريين، ويتراجع نفوذهم إلی الداخل حتی بلغ عاصمتهم الثانية فی منطقة شندي، ونقلوا معهم أسس الحضارة المصرية القديمة وطعموها بمٶثرات إفريقية وربما هندية أيضاً، وبذلك انداحت الحضارة المصرية إلی أنحاء القارة الإفريقية، وذلك ما أثبته المٶرخون.

"أحداث منسية" حملة "محمد علي" والي مصر الألباني الجنسية

حملة محمد علي "والي مصر-الألباني الجنسية" والذي وطَّدَ أركان "حكم الفرد في مصر" بعدما استفاد من انقسام زعماء المماليك، وتفرق جيشهم المكون من "أخلاط الأتراك والأرناٶوط والمغاربة ونزلاء مصر الأجانب"، فقد اختمرت في ذهنه فكرة أن يكوِّن جيشه الخاص، يكون خاصته من أبناٸه ومماليكه البيض هم ضباطه، أمَّا جنوده فيكونون من "المماليك السود"، الرقيق من السودان إذاً السبب هو طموح شخصي، لا ناقة لمصر فيها ولا جمل.

وكانت أهداف الحملة هي جلب الرجال والذهب من السودان، وأقام لذلك معسكراً للتدريب في أسوان عام 1820م قريباً من السودان بعيداً عن القاهرة، التزاماً للحذر بعد تمرد جيشه عليه عام 1815م.

إن تفاصيل سير الحملة التي قادها "إسماعيل باشا ابن محمد علي، يعاونه صهره محمد بك الدفتردار، ومحمد أغا لاظوغلي" وما صاحبها من اصطياد العبيد وإرسالهم لمصر، والاستيلاء علی ذهب منطقة بني شنقول، والمقاومة التی لاقتها الحملة، خاصةً في دار الشايقية، واستبسالهم، ولم تضع حادثة إحراق إسماعيل باشا في شندي، حدَّاً لتلك الحملة، بل زادت ضراوةً بالفظاعات التي ارتكبها الدفتردار انتقاماً لمقتل صهره، كل ذلك وغيره من وقاٸع، مبذولة في كتب التاريخ لمن أراد الاستزادة.

مصر والسودان تاريخ طويل من العلاقات

العلاقات السودانية المصرية فيها كل الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والثقافية، في الحقب التي تعاقبت علی حكم السودان بعد أن نال "السودان الإنجليزي المصري" استقلاله من دولتي الاستعمار "إنجلترا ومصر".

فقد نالت مصر موقعاً متقدماً في نفوس قادة الحكم السودانيين الوطنيين، بالرغم من أنها كانت دولة استعمار، بل نادت بالملك فاروق "ملك مصر والسودان"، وتنزيهاً لمصر من تهمة الاستعمار، فهم يسمون الحقبة الاستعمارية التي قضت عليها الثورة المهدية بـ"التركية السابقة"، ولا ينسبونها لمصر ولا المصريين.

كما يسمون فترة الحكم الثناٸي بعد سقوط المهدية، "الاستعمار الإنجليزي" مع أن مصر كانت شريكة في الاستعمار، وعلمها يرفرف جنباً إلی جنب مع العلم البريطاني!، وذلك اأنهم كانوا يرون فيها دولة جارة، وهي نفسها كانت تقع تحت نير الاستعمار الإنجليزي، وقبل الانجليز الفرنسيين، وهلم جرا.

بين مصر والسودان "روابط أزلية" شكَّلتها الجغرافيا والنيل واللغة والثقافة والدين والمصاهرة، وبالمقابل وضعت مصر "الملف السوداني" تحت مسٶولية "المخابرات العامة المصرية" بدلاً من وضعه في مكانه الطبيعي بوزارة الخارجية شأنها شأن أي دولة لها تمثيل دبلوماسي في مصر.

هل ماتت أحلام الوحدة بين شعبي "وادي النيل" بموت السادات؟

في الحقبة المايوية (النميري) قامت وحدة ميثاق طرابلس، بين "ناصر-نميري-قذافي"، وحالت التدخلات والمقاطعات الإقليمية والدولية دون تحقيق ذلك الهدف النبيل، ثمَّ مات "عبد الناصر"، وبكاه الشعب السوداني، وذرف النميري الدموع في تشييعه، وقام التكامل السوداني المصري "السادات -النميري" وحدة وادي النيل، وأُنشٸت مٶسسات لمستويات معينة من الحكم، وأُخری اقتصادية، وتجارية، وصدرت بطاقات للمواطنين.

وبعد إغتيال السادات اضمحلت الفكرة وفتر الحماس حتی انزوی، ثم ماتت الوحدة بموت السادات، ويُذكر أن النميري شارك بصوته في انتخاب الرٸيس المصري السابق "حسني مبارك"، خلفاً للسادات، ولا يعني هذا أن وحدة وادي النيل مرتبطة بزعماء بعينهم، لكن هكذا الأقدار، فالناس في مصر والسودان في قرارة أنفسهم يتوقون للوحدة، ويشاء الله غير ذلك، كل هذا الذي أسلفنا يقع في الجانب السياسي.

مياه النيل مصير مشترك بين شعبي وادي النيل

لا يجوز الحديث عن الجانب الإقتصادي، دون أن نبدأ بالمياه، وهي أمر وجودي بالنسبة لمصر التي تعتمد كلياً علی مياه النيل الذي هو ماء الحياة لمصر "هبة النيل"، لذا فالحديث عن مياه النيل يتشابك فيه الأمني بالااقتصادي، والسياسي بالدبلوماسي، والأخلاقي بالديني، "فالناس شركاء في ثلاثة" والماء أول الثلاثة، لذا فإن مصر والسودان يرتبطان ارتباطاً أزلياً بالنيل، وهما كالتوأم السيامي الملتصق في كل الأعضاء الحيوية، فلا يمكن فصلهما البتة فإمَّا أن يعيشا معاً، أو أن يموتا معاً، وهذا ما يسمی بالمصير المشترك.

ولنتجاوز مياه النيل قليلاً، ولنترك اتفاقيات مياه النيل وما اعتراها من ظلامات تاريخية أثارتها دول الحوض، واختار السودان تلقاٸياً الوقوف إلی جانب مصر، في مواجهة بقية دول الحوض الثمانية، والتحديات التي نشأت بقيام سد النهضة الإثيوبية، وموقف السودان المتماهي مع موقف مصر استشعاراً للمسٶولية التاريخية والمصير المشترك بينهما.

فنتجاوز مسألة المياه الشاٸكة إلی بقية المناشط الاقتصادية التي تشمل صادرات السودان إلی مصر من اللحوم والسمسم والصمغ والقطن وحب البطيخ والكثير من المنتجات الزراعية والجلود، بخلاف اتجاه السودانيين كافةً إلی مصر بغرض السياحة والعلاج والتجارة، وتلقي العلم في ََجامعاتها، وشراء العقارات والإقامة فيها، ويعني ذلك ضخ كثير من ملايين الدولارات فی الااقتصاد المصري، وبالمقابل، فإن السودان يستورد من مصر الكثير من الأقمشة والأحذية والأدوية ومواد البناء من أسمنت وسيراميك وغير ذلك.

الجوانب الثقافية بين مصر والسودان

أمَّا الجوانب الثقافية بين مصر والسودان، فأعظم من أن توصف فی سطور، فمصر ظلت من أكبر مناهل العلم والثقافة للسودان، فمنذ الأزل كان السودانيون يتلقون العلم من جامعة الأزهر وعلماء مصر وفي مصر.

ومن مصر جاء المثقفون الأُول إلی السودان، مثلما تدفق طلاب العلم من السودانيين إلی مصر، وزادت الوساٸل الحديثة من زيادة الارتباط بين شطري الوادي، فساهمت الكتب المطبوعة، والصحف والمجلات، وبقية المطبوعات، والإذاعة والتلفزيون والسينما، قبل ثورة الاتصالات، التي جاءت لتجعل المعلومة متاحة بلمسة زر، علی جهاز محمول باليد، ولم تعد هناك أهمية كبيرة لإذاعة ركن السودان من القاهرة، والتي لعبت دوراً محورياً في شد أواصر طرفي الوادي إلی بعضها.

كان لمدارس البعثة التعليمية المصرية، ثمَّ جامعة القاهرة فرع الخرطوم، التي كانت منارات للتربية والتعليم، هذا غير السودانيين الذين تلقوا علومهم من المٶسسات التعليمية بمصر، وتقلدوا مناصب رفيعة في السودان، ووجدانهم مرتبط بمصر.

فقد رهن السودان الكثير من مواقفه بمصر مثل الحرب مع اسراٸيل، ومشاركة الجيش السوداني في جبهة القتال، والسماح للطيران الحربي المصري باستخدام القواعد والمطارات السودانية، إبَّان النكسة، وما بعدها، ووقف السودان مع مصر عند قيام جبهة الصمود والتصدي، وهي جبهة أو حلف ضم كل من ليبيا، وسوريا، والعراق، والجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

أُسست في نوفمبر 1977 بناء على دعوة الزعيم الليبي معمر القذافي للوقوف ضد المخططات الإسرائيلية في المنطقة، في أعقاب إعلان الرئيس المصري محمد أنور السادات في 9 نوفمبر 1977 أمام مجلس الشعب المصري استعداده للتوجه إلى إسرائيل، ودفع السودان ثمناً باهظاً جراء وقوفه إلى جانب مصر.

الخاتمة

إن دور مصر في الوقوف إلی جانب السودان، كبير، ومتعدد الوجوه والأشكال، وعلی مختلف الحِقَب في البلدين، ولعل خير مثال هو المبادرة المصرية الأخيرة لحلحلة الإشكالات بين النخب السياسية السودانية، وبعد ما عُرف بالإتفاق الإطاري، ونقاش ذلك يحتاج لموضوع منفصل.

ونخلص الی القول إنّ العلاقة بين مصر والسودان يحتاج لأسفار وأسفار، لكننا نعوِّل علی الوجدان السليم لدی شعبي وادي النيل ليدرك بوجدانه السليم أنه لا فكاك للشعبين من بعضهما غضَّ النظر عن النظام القاٸم هنا أو هناك۔

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محجوب فضل بدري
كاتب سوداني وخبير إعلامي
كاتب سوداني وخبير إعلامي
تحميل المزيد