لم أعتقد أنها ستموت بهذه السرعة! عندما ماتت أمي في يوم مولدي

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/19 الساعة 08:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/19 الساعة 08:48 بتوقيت غرينتش

بعد وفاة أبي، لم أعلم من أين جاءني اليقين أن أمي، ولا شك، ستمكث معنا لسنوات وسنوات طوال! ربما كان ذلك هو الأمل الذي كان يرمم جدار قلبي بعد فراقه، لكنها، وبعد عامين فقط، لحقت به. عامان مرا وكأنهما يومان! كان الفاصل الزمني بين رحيليهما قصيراً، حتى أني شعرت وكأني فقدتهما معاً!

يبدو أنني في كل مرة أحتاج عاماً كاملاً لأكتب، فوقع المصيبة يكون عادة كطلقة رصاص مفاجئة، لا تدري من أين انطلقت، ولا أين استقرت، ولا هل ستعيش بعدها أم أنك ستموت! حكيت لكم في مقال سابق عن مدى ألمي لموت أبي وأنا بعيدة، وعن عجزي عن وداعه، لكن الله تعالى نبأني عند وفاة أمي بما لم أستطع عليه صبراً، حين سقط على رأسي خبر وفاتها؛ فقد حضرت معها كل تفصيلة منذ بداية احتضارها وحتى استقرت في قبرها، فاستغفرت ربي الذي يعلم أني ممن يتألمون لأعمق نقطة في القلب، ويعطون الحزن حقه كاملاً، فيتآكلون من الداخل دون إحداث أدنى ضجة، وأدركت أني ما كنت سأقوى على مراقبة لحظات فراق الاثنين.

فزعت حين علمت بمرض الجميلة هذه المرة كما لم أفزع من قبل، وقررت أن أسافر لأطمئن على صحتها؛ وصلت لأجدها في غاية المرض، أردت أن أشاكسها لتضحك كما تعوّدنا معاً، لكنها هذه المرة لم تبتسم! بعد ساعة واحدة بدأت تنهار، وكأنها كانت تنتظر لحظة وصولي لتعلن عن مغادرتها، لم يتسلل إلى نفسي أدنى شك بأني قد أفقدها، كنت أتصرف على نحو من يساعد ويساند، لا من يستغل آخر لحظات اللقاء، استدعينا الطبيب فلم يأتِ، فهرولنا نطلب سيارة الإسعاف، في هذه الأثناء كانت أمي ترفع سبابتها تتلو الشهادتين، وتلح في الدعاء لنا ولأبنائنا، وترجو الله أن ينهي ألمها وألا يطيل عليها العذاب بأن يتوفاها، وكنت أتوسّل إليها ألا تطلب الرحيل، لكنها لم تكن تسمعني.

مرت الدقائق ثقيلة حتى وصلت سيارة الإسعاف أخيراً، وفي حالة من الغضب المكظوم سألنا المسعف أن ينقل أمي بسرعة إلى السيارة، لكنه كان يتلكأ ولا يستجيب. كنت أحمل همّ إقناعها بالموافقة على الذهاب للمستشفى، وكنت أخشى أن تعترض، لكنها استسلمت بهدوء كالأطفال. 

حملوا الحنونة، وأنا أسير خلفهم وقد عدت فجأة تلك الطفلة ذات الست سنوات التي كانت تمرض وتلازم فراشها في كل مرة كانت أمها تسافر لزيارة أهلها، هبطت الطفلة سلّمة تلو الأخرى، تسير لا تعلم سوى أنها تتبع أمها؛ سألوا من سيركب مع المريضة السيارة، فأجبت: "أنا"، واندفعت كالسهم نحو الباب وصعدت لأحظى بقربها.

بشكل روتيني وضع المسعف على وجه الفاتنة قناع التنفس، فأغمضت عينيها الجميلتين، وارتاح وجهها، وشهقت بخفة شهقة ناعمة لم يلحظها سواي؛ أدرك عقلي للحظة أن هذا هو مشهد النهاية؛ لكنه تراجع غاضباً مستنكراً وأقنعني أنها غطت في نوم عميق؛ لأن الأكسجين قد هدَّأ من أزمتها.

انطلقت السيارة كالسهم، فتشبثت بسريرها وتمسّكت أكثر بيدها التي سرت فيها البرودة، وطبعاً كانت مبررات عقلي جاهزة، فتلك البرودة من تأثير انخفاض درجة الحرارة ليلاً، فنحن على مشارف فصل الشتاء.

وصلنا المستشفى وفتحت أبواب السيارة، ووقف الجميع في انتظار نقلها للداخل، لكن طبيباً شاباً صعد ولم يستغرق ثواني ليعلن أنها قد فاضت روحها، تلقيت الخبر ولم أدر ماذا أفعل، كنت أحدق في وجهها محاولة تفهم ما يجري، وأحبس بصرامة الطفلة الباكية واستدعي المحاربة المسؤولة. طلب المسعفون مني النزول، فتعهدت بأني سأبقى هادئة؛ فرقت قلوبهم لي وتركوني، ثم أغلقوا الأبواب، واندفعت السيارة مرة أخرى، فعدت أتعلق بيدها وأتمسك بسريرها للمرة الأخيرة؛ همس المسعف: "كنت أعلم"، فقلت "ماذا؟"، فكرر:"كنت أعلم أنها تحتضر لذلك كنت أتلكأ، ربما لا تضطر للنزول"، فسألته:"لماذا لم تخبرنا؟"، فرد: "ما كنتم لتصدقوني"؛ سالت دموعي، وكأني كنت أقرأ كلمة "النهاية".  

كنت دائماً ماهرة في التخطي والقفز من فوق أسوار الألم، بارعة في التغاضي والتناسي، حتى إن من يراني يظن أن ما بي من همّ، وأني لا أنتبه لكثير من الأذى، فابتسامتي كانت قادرة على أن تخفي ما لا أريد أن أعلن، وتعاملاتي كانت تدفن تفاصيل تفرق أكثر مما تجمع، لكن هذه المرة الأمر اختلف، وكأن بركان غضب صامت انفجر بداخلي، واندفعت حممه ليشكل تضاريس جديدة في قارات قلبي. 

يظن الإنسان أن الحبل السري الذي يربط بين الأم وجنينها يُقص عند ولادته، لكن ما أثبتته لي التجربة أنه يقطع عند وفاتها، ليولد الإنسان من جديد فيحبو ويقف، ثم يسقط إلى أن يتمكن من المشي. 

يحتفظ الانسان بنداوة يديه، ونضارة دلاله، ورفاهية إطلاق سراح فوضاه بين يدي والديه، فإذا ما واراهما التراب، انتبه فجأة إلى بياض شعره، وتجاعيد وجهه، فيصدر الحكم المؤبد بسجن الطفل داخله خلف أسوار شيخوخته، ويواجه حقيقة أنه صار محط أنظار الصغار، وأن عليه أن يحل محل من غابوا، وأن يكون كما كانوا نهراً للحنان والصبر والبصيرة.

يصير الإنسان يتيماً، فيصبح كمن فقد بطاقة هويته في طريق مزدحم؛ أو كمن علق في مطار، فلا يستطيع العودة إلى حضن بلاده، ولا يمكنه العبور إلى أرض جديدة.

لم أفكر لحظة أني قد أشارك في غسل وتكفين صديقة عمري، لم أتخيل يوماً أني قد أصلي عليها، لم يمر ببالي أن أراقب دخولها القبر، وأن ألقي عليها النظرة الأخيرة.

مثلت الدقائق الأخيرة في قصتي المشهد الأكثر تأثيراً، عندما أغلق عامل المقابر باب أمي، ثم طلب من زوجي أن ينقش عليه تاريخ اليوم، فاستجاب وبدأ يخط الأرقام ببطء! تعلقت عيناي بيديه، وتسمرت في مكاني.. 

يا إلهي! لقد دفنت أمي في يوم مولدي! 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
رانيا مصطفى
مدونة مصرية
تحميل المزيد