مستقبل وتحديات التغيير السياسي للوطن الليبي.. لمحة تاريخية

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/19 الساعة 11:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/19 الساعة 11:07 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/ الأناضول

 إن بناء الدولة الليبية الحديث سياسياً واجتماعياً قد مر بمراحل عدة ومختلفة، سواء على صعيد البناء الاجتماعي السفلي لقاعدة المجتمع، أو على صعيد البناء الفوقي لهرم السلطة وكوادر الدولة وطبقة التكنوقراطيين والبرجوازيين، ولا شك أن هناك بُعدين أساسيين متوازيين، كانا يشكلان الحلقة الأساسية لبناء وصناعة الدولة الوطنية الليبية في عام 1951م بجغرافيتها التي نراها اليوم.

 فكان هناك البعد المحلي لحركة المجتمع، الذي أفرز قيادات وزعامات وطنية في ميادين شتى، تطوّرت عبر مراحل زمنية مختلفة، حيثُ بدأت تتشكل معالم مجتمع الشمال الموحد، وذلك تحديداً منذ عهد يوسف باشا القرمانلي، والعهد العثماني الثاني، والحركة السنوسية، التي استطاعت أن تخلق نموذجها الاجتماعي الخاص والفريد، لينتهي الإطار النهائي لشكل الجغرافيا الليبية الموحدة من الشمال إلى الجنوب خلال حقبة الاحتلال الايطالي، ثم أسهمت الإدارة الإنجليزية في التأسيس الفعلي لمؤسسات الدولة الليبية بإطارها الحديث.

والبُعد الآخر هو البعد الجيوسياسي الدولي، الذي لَطالما كانَ هو المحرك الأساسي للداخل الليبي عبر التاريخ، فنجد أن ليبيا أسست الحضارات المائية، واجهتها التاريخية الأولى في تاريخ جغرافيا شرق المتوسط، ولَطالما كان صراع الحضارات والمصالح الاستراتيجية القائم في منطقتنا بين الأمم الكبيرة حاضراً بثقلهِ على كاهل الجغرافيا الليبية، حيثُ لو حللنا تركيبة النسيج الاجتماعي الليبي سوف نجده مُنتجاً لتفاعل الرياح الجيوبوليتيكية من الشرق الأوسط والمغرب الكبير وجنوب أوروبا.

الواقع المأزوم ورؤية الحل

ولعل القارئ للمشهد الليبي اليوم لا يستطيع تشكيل وبناء رؤية الحل من خلال معطيات الواقع المتأزم شديد التعقيد.

وذلك يعود للأسباب الآتية:

أولاً: لا توجد معطيات حقيقية تدل على أن الصراع القائم أسبابه سياسية محلية، لكي يكون الحل ليبياً فقط في منأى عن البعد الدولي، فلا يوجد بناء سياسي عميق أو بناء طبقي يفرز أيديولوجيات حقيقية تُغذي حالة الاشتباك الراهن، بل إن البنية السلوكية والفكرية بين المتخاصمين تكاد تكون واحدة بين معسكرات الأزمة. 

ثانياً: شبه غياب دور النُّخب والمجموعات السياسية والمدنية الفاعلة، التي تستطيع أن تخلق حواراً جماعياً بنّاءً ينتهي بتأسيس الاستقرار وإقامة الدولة المدنية الحديثة في ليبيا، مع قوى النفوذ الدولي، كما يبدو أنه يغيب عن بعض الساسة الليبيين أن ليبيا الحديثة ضمن المنتج والإطار الأطلسي الأنجلوساكسوني.

التغيير السياسي

ومن خلال ما تقدم نحاول طرح قراءة في رؤية الحل المستقبلي للمشكل الليبي.

أولاً: البعد الداخلي الليبي

العامل الأساسي الذي يقوم به كيان الدولة هو بناؤها الاجتماعي السُّفلي القاعدي، ويبدو أن البناء الاجتماعي الليبي على ما مر به من شدة ومحن وصعوبات عبر أزمنة وعقود طويلة لا يزال يحمل عوامل الوحدة، تجاه المشاريع التي تحاول أن تُجزّئ كيانه وتقضي على وحدته، والعامل الثاني هو الأفكار التي تُشكل بنية العقل الجمعي للمجتمع، بحيث يكون نتاجها النهائي هو إفراز الهوية الوطنية الجامعة.

الخلل الأساسي في الداخل الليبي

هو عدم وجود حراك فكري ثقافي مستنير منذُ عقود، فحالة الجمود الفكري التي فُرضت على الداخل الليبي وعزله عن مجاله المائي الواسع منذ انقلاب 1969م، لم تجعل العقل الاجتماعي الليبي يتطور ويتفاعل مع محيطه كما يجب، وكان المنتج هو الانهيار المُجزئ للدولة الليبية عبر مراحل، حتى الوصول إلى الانفجار الكبير، في فبراير/شباط 2011م، ويبدو أن البناء الاجتماعي القائم اليوم يحتاج إلى نخبة فكرية مستنيرة من كامل الجغرافيا الليبية، تحاول أن تُصيغ مفاهيم جديدة وأفكاراً مغايرة عن الأفكار الموجودة اليوم، فالعقل الذي خسرنا به معركة البناء والسلام والنمو لا نستطيع أن نكسب به الغد المُشرق.

ولا شك أن المثقفين والنُّخب العلمية من شتى المجالات لا تستطيع وحدها دون أداة تنفيذية قوية وأداة تشريعية موحدة تدعم مجهودها، إنجاز الكثير في هذا الميدان، الذي يتطلب توظيف قُدرات الدولة في خلق نظام تعليمي حديث يقوم على منهجية تستطيع أن تخلق بناء فكرياً وثقافياً جديداً لدى الأجيال الجديدة والمستقبلية، كذلك تأسيس مراكز تنويرية تدعمها الدولة في المدن والمناطق المختلفة، تُسهم في تشكيل بناء ثقافي جديد في البنية العميقة للمجتمع، لكي يحفظ ويصيغ الهوية الليبية من تداخلات رياح ثقافية أخرى محيطة، قد تمس بالهوية الليبية المغاربية ذات البُعد المتوسطي.

دور المُدن في حقبة التأسيس

عندما نعود لتاريخ تأسيس دولة الاستقلال الليبية، سوف نلاحظ أن مركز الحراك الاجتماعي والسياسي حينها كان يرتكز على المدن في الشمال الليبي شرقاً وغرباً، حيث إن منتج ثقافة المدينة وكوادرها كان إلى حدٍّ ما المُتسيد، فنجد سلسلة من المدن في الشمال ترتكز عليها أسس الدولة في ذلك الوقت، وتُشكل بنية مؤسساتها وتكنوقراطيتها.

وهذا ربما ما نحتاجهُ اليوم، فالكثير من المدن القائمة اليوم حُصرت بثقافة الصحراء منذُ وقت طويل، حتى تأكل البناء الاجتماعي الحضري، الذي قامت عليه الدولة الوطنية الحديثة، والذي شهد الكثير من الشروخ الاجتماعية منذُ زمن طويل، بحيث لم تحافظ المدينة على بقاء تنوعها الثقافي والعرقي والفكري، ما جعلها في النهاية تفتقد لليونة التطور والتغيير الإيجابي في حركة التاريخ.

توسيع دائرة المساحة الحضرية

يجب النظر في المساحة الحضرية الموجودة اليوم، وتوسيع دائرتها في المناخ الجغرافي الواسع للداخل الليبي، بحيث تقوم الدولة بتأسيس مدن سكانية وإدارية وصناعية مصغرة حديثة، تستطيع أن تُشكل من خلالها نموذجاً اجتماعياً وثقافياً مغايراً في الشمال والجنوب الليبي، بحيث تتوزع مؤسسات الدولة وقدراتها المالية عبر مجموعة من المدن الحديثة، الموزعة عبر مناطق الشمال الشرقي والغربي إلى أعماق الجنوب، بحيث تُشكل نموذجاً يزرع الحياة والإنتاج، ويُقدم الخدمات والتنمية في مجال محيطه الدائري، ويقضي على النعرات القبلية والمناطقية، ويخرج من دائرة الصراع القائم اليوم لصالح ثقافة مجتمع المدن الحديثة، كما يضمن إنهاء المركزية الخدمية والمالية، ويمتد بشكل أُفقي، بحيث يُشكل رسماً جديداً للجغرافيا الليبية، لتصبح جغرافيا الإقليم الواحد، بنسبة مسطح حضاري يصل إلى 25% من أصل المساحة الموجودة.

إصلاح النظام الاقتصادي

إنَّ إصلاح النظام الاقتصادي من قبل المختصين بحيث يوازي المشروع الثقافي الفكري تحول في البنية الاقتصادية الريعية الاتكالية إلى البنية الاقتصادية المنتجة الخلاقة، سواء على الجانب الصناعي، بحيث تكون هناك أفكار إنتاجية صناعية للدولة، بحسب ما يرى الخبراء والمختصون المحليون والدوليون، في المجالات التي يمكن أن تصنع صناعة محلية دولية في ليبيا، مع الاستفادة من حركة الهجرة التي تغزو العالم اليوم، بما فيها ليبيا، وتحويل الهجرة غير الشرعية إلى هجرة منضبطة مُقننة، تُوظف وفق مصلحة الدولة الليبية.

المُخرَج النهائي

هذا الحراك التغييري الشامل، إن وُضع في خطط مدروسة ومنظمة، سوف يقوم بتحويل المجتمع الليبي إلى مجتمع حديث مبنيّ على طبقات تكافلية مكملة لبعضها، مشاركة ومساهمة في دائرة الإنتاج الاقتصادي والفكري والتعليمي والثقافي والحضاري، مع توظيف الأهمية الاستراتيجية للجغرافيا الليبية التي تربط الشرق بالغرب وإفريقيا بأوروبا، ويضمن منتجه النهائي بناء مجتمع نقابي حَداثي، وإخراج الداخل الليبي من عزلتهِ إلى التفاعل مع محيطهِ الإقليمي والدولي، وبناء ثقافة المصالح الحميدة، كما سينعكس هذا المشروع الحضاري على المناخ السياسي العام، ما يسمح ببروز طبقة سياسية حديثة تنتمي للمشاريع الفاعلة في مناخ حر عن الهيمنة، ما يُسهم في الحفاظ على دولة العدالة والحقوق والحريات والديمقراطية.

ثانياً: البعد الدولي: الشراكة الدولية في بناء الدولة الليبية

كما أسلفت في بداية المقال فإن الحل الليبي يرتكز على عاملَيْن غير منفصلين، العامل الداخلي، والعامل الدولي الخارجي، فعند دراسة الخارطة الجيوسياسية المحيطة بليبيا في العصر الحديث، نجد أنه منذ انتصار الحلفاء على دول المحور قد تحولت الخطوط الجيوبوليتيكية الثلاثة المحيطة بليبيا إلى خطوط أطلسية، تُدار من قِبل الولايات المتحدة والمملكة البريطانية وحلفائهم الاستراتيجيين، مع وجود الأسطول السادس الأمريكي في جنوب أوروبا، في الخط الجيوسياسي النابوليتاني، والأسطول الخامس في الخليج العربي، الخط الجيوسياسي الشرق أوسطي، وسيطرة البحرية الملكية البريطانية على مضيق جبل طارق الخط الجيوسياسي المغاربي، ما فرض قوة نفوذ دولية سمحت باستمرار الاستقرار والسلم في المنطقة لعقود طويلة، وفق الرؤية الأطلسية الأنجلوساكسونية لشكل الشرق الوسط وشمال إفريقيا وأوروبا، في الاتفاقيات الناتجة عن حربي العالم الأولى والثانية.

مخاطر التغيير الجيوبوليتيكي

إنَّ صعود قوى دولية جديدة تحاول أن تفرض صياغة جديدة للشرق الأوسط وإفريقيا وأجزاء من أوروبا وآسيا، قد تؤدي لرسم جغرافي جديد مغاير لما عليه الحال اليوم.

 بحيث تتوزع دوائر النفوذ الدولي بشكل جديد على جغرافيا مناطق الصراع ذات الأهمية الاستراتيجية، ومن الملاحظ أن الوجود الصيني الروسي في عمق القارة الإفريقية أصبح يحاصر جغرافيا الجنوب الليبي، ليشكل خطاً جيوبوليتيكياً رابعاً، يمتد من إفريقيا الوسطى إلى شمال إفريقيا، في مناطق الوسط الليبي، ليحاول أن يرسم تواجداً على ساحل شمال إفريقيا المتوسطي، المُطل على جنوب أوروبا.

بحيث تتشكل مخاطر المشروع الروسي الصيني القائم في منطقتنا على وحدة التراب الليبي، فهي قوى دولية صاعدة لا تؤمن بالرسم الأطلسي للجغرافيا الليبية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يأتي هذا مع الصراع القائم بين دول المتوسط على الموارد الغازية، وترسيم الحدود المائية، بما يضمن بقاء وسيطرة الدول ذات النفوذ التاريخي على الحركة المائية في المتوسط.

الخاتمة:

على العقل السياسي والنخبوي الليبي فهم تحديات المرحلة أمام الدولة الليبية وجغرافيتها الموحدة، وأن يستوعب مدى خطورة المرحلة الدولية القائمة اليوم، عبر جرّ الجغرافيا الليبية، لكي تكون منطقة ساخنة لساحة صراع طويل المدى بين القوى النافذة المختلفة، سواء في مجال الشمال الليبي والصراع المائي المتوسطي، أو في مجال الجنوب الليبي والصراع البري على العمق الإفريقي.

عليه، يجب أن يتوحد الداخل الليبي في مشروع الأمة والمجاميع الفاعلة، لا في مشاريع الفرد والرهانات الخاسرة، التي أوصلت الكيان الليبي إلى هذا الوضع المأزوم القائم اليوم، فالتغيير والإصلاح المطلوب لا يقودهُ زعيم واحد، بل تقودهُ مجاميع نشطة من الوطنيين الأحرار، من مختلف ألوان الطيف السياسي والطبقي والمعرفي والفكري، ليحافظوا بالعقل والدهاء وبثقافة البناء لا بالبندقية والحروب على بلادهم ووطنهم، وأن يعبروا العواصف بهدوء ورؤية وطنية جامعة، لكي يبقى الوطن بجغرافيتهِ القائمة اليوم تحت مظلة الحكم الديمقراطي الحر الرشيد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سراج دغمان
باحث سياسي
باحث سياسي ليبي
تحميل المزيد