انفجار زلزل عاصمة ومحا أحياء بكاملها عن الخريطة.
انفجار بضغط مهول قذف حتى الرضّع المولودين حديثاً من حضاناتهم في المستشفيات، وصرع الشيوخ، وسحق ما تبقى من أمل ضئيل في وجدان شعب حُجزت أمواله في المصارف، وهو يرزح تحت إحدى أكبر الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية في التاريخ الحديث.
انفجار في بلد اعترف رأس الهرم فيه أنه كان يعلم بوجود النيترات في المرفأ، فوعود حكومية بتحقيق ينجز في خلال خمسة أيام فقط.
انفجار، فعروض خفة فولكلورية من رئيس أجنبي في الشوارع على مقربة من مكان حصول الانفجار، وهو ما زال يراوغ حتى اليوم حول دعمه لتدويل التحقيق، فزيارات طربية قام بها لفيروز، فإعادة تعويم لطبقة سياسية مجرمة بحق بلدها، جلها من أمراء الحرب الأهلية السابقين، تم جمعها في جلسة أنس تخللتها مسرحيات التأنيب في قصر؛ حيث كان أُعلن قيام الدولة الجديدة منذ قرن من الزمن.
انفجار، فتحويل القضية إلى شأن طائفي من قبل بعض الأحزاب التي غالبا لا تفلح إلا في خطاب الانغلاق الهوياتي، وكأنّ الانفجار لم يزلزل بلداً بمختلف طوائفه، ومناطقه، وانتماءاتهم.
انفجار، فإحالة إلى المجلس العدلي، فتحقيق، فإقالة لقاضي التحقيق، فتعيين قاضي تحقيق جديد، فإغراق لمسار التحقيق بالدعاوى ضد قاضي التحقيق، فتهديد في قصر العدل لقاضي التحقيق من قبل رئيس جهاز الأمن في الميليشيا التي تحكم البلد، فعراضات ميليشياوية في الشارع ضد قاضي التحقيق، فدق إسفين سياسي طائفي بين أهالي ضحايا الانفجار، فتعطيل للتحقيق، فتوقف لمجرى العدالة منذ شهور وشهور، فاجتراح بدع قضائية في محاولات فاشلة لتعيين قاضي تحقيق رديف.
انفجار، فالمطلوب واحد من قبل السلطة منذ اليوم الأول: انسوا الانفجار، وانسوا التحقيق، وانسوا الضحايا، وانسوا الجرحى، وانسوا المعوقين.
انفجار، فسنتان ونصف من التسويف، وإذ استفاقت السلطة بأجهزتها الامنية والقضائية. خير؟ هل لمتابعة التحقيق؟ لا! هل لإحقاق العدالة؟ كلا! هل لإنصاف أهالي الضحايا؟ لا وألف لا! بل لملاحقة أهالي الضحايا الذين عبروا عن غضبهم ضد تعطيل التحقيق.
هذا ليس سيناريو خيالياً لمسلسل رعب عبثي يعرض على نتفليكس، ولا على منصة شاهد، ولا حتى في دور السينما. هذا هو واقع ما يجري في لبنان منذ انفجار مرفأ بيروت في ٤ آب/أغسطس 2020.
اعتقال وليم نون
جرى استدعاء وليم نون، شقيق جو نون ـ عنصر في فوج الإطفاء قضى بانفجار المرفأـ من قبل أمن الدولة، وذلك للتحقيق معه بسبب توجيهه كلاماً وهو في حالة غضب مشروع، اعتبر أنه مس بهيبة القضاء وتهديد لأمن قصور العدل.
ربما لا تعجب تصرفات جو نون، أو طريقة كلامه، أو انتماؤه السياسي، كثيرين. ولكن القضية ليست وليم نون، بل ما يمثله وليم نون. ليس المهم، أخلاقياً، أن يحب اللبنانيون أو ألا يحبوا شخص وليم نون، ولا أن يستسيغوا أو ألا يستسيغوا كلامه أو تصرفاته، وليس المطلوب من الرأي العام اللبناني أن يحكم على أخلاق وليم نون إيجابياً أم سلبياً، ولا أن يكون مؤيداً أو معارضاً لخطه السياسي أو لآرائه السياسية. القضية أبعد وأكبر وأهم بكتير من رأي كل منا بوليم نون أو بأي من أهالي ضحايا انفجار المرفأ.
المطلوب هو وقفة حق وضمير مع القضية التي يمثلها نون، والتي هو جزء منها مع كثيرين غيره، وهي قضية حق، وقضية عدالة، وقضية شعب، وقضية إنسانية أولاً؛ تلك القضية التي يجري مرمغتها اليوم في وحول القمع الأمني- القضائي عبر توقيف وليم نون وغيره من أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، وذلك بعد أن جرى مرمغتها لشهور خلت في وحول التعطيل الوقح والتسييس.
أما المضحك المبكي في كل ذلك، فهو أنّ نوادي البيانات الشعبوية، التي ساهمت مساهمة فاعلة في فتح أبواب جهنم الشعبوية القضائيةـ السياسية على مصراعيها في لبنان، لدواعٍ غالباً لا تعدو كونها مصلحية مهنية نفعية، أصبحت اليوم تتظلم من الشعبوية.
المضحك المبكي في الموضوع، هو أنّ أجهزة الدولة القضائية والأمنية تلاحق أهالي ضحايا أكبر انفجار بالقرن الواحد العشرين لا لشيء، بل لأنهم لجأوا للدولة، ولأنّ جل ما يطالبون به هو قيام الدولة بواجباتها، لا سيما بعودة التحقيق القضائي إلى مجراه الطبيعي.
هذا في حين أن أجهزة الدولة هذه تدفن رأسها بالرمال، من جهة أولى، أمام ممارسات الدويلة التي يشكل وجودها تهديداً يومياً للدولة ولهيبتها، والتي عطلت التحقيق بانفجار المرفأ، وتغض الطرف، من جهة أخرى، عن الأطراف الأخرى التي أصبحت تستثمر في كفر قسم كبير من اللبنانيين بدولتهم، وتتحجج بهيمنة حزب اللّه على جزء كبير من الدولة وعلى قرارها، لتحريض اللبنانيين صراحة ضد الدولة، وجهاراً على الحرب الأهلية، أي أولئك الذين يتظلمون من ميليشيا في حين أنهم يحرضون باقي اللبنانيين، بكلام طائفي مقيت يهدد السلم الأهلي، ليصبحوا على شاكلتها، وذلك بدل الالتفاف حول الدولة.
وهنا بيت القصيد.
السلطة ليست الدولة.. مشكلة اللبنانيين هي مع السلطة ومن يهيمن على قرارها، مشكلة اللبنانيين ليست مع الدولة كدولة. الدولة لجميع اللبنانيين. من يكفر بدولته، يكفر بنفسه وبوجوده، ويكون قد استسلم لأعداء الدولة كشخصية معنوية جامعة تمارس السيادة، ويكون، للمفارقة، قد أصبح على صورتهم.
إنّ اعتبار أنّ الدولة والدويلة سيان هو أكبر خدمة ممكن أن تقدّم مجاناَ وعلى طبق من فضة، بكثير من الغباء، للدويلة. فالخروج عن الدولة اللبنانية ليس فقط خروجاَ عن الشرعية اللبنانية، بل عن الشرعية الدولية، ورمي لما تبقى من لبنان في المجهول الكلي، لا سيما أنّ خروج خصوم الحزب عن الدولة يجعل منهم بمصاف الحزب، لا سيما بالنسبة لقرارات الشرعية الدولية.
إذا كان ما زال ولو ذرة من اهتمام بلبنان في بعض عواصم العالم، لا سيما في الغرب، فعنوانه الحفاظ على الدولة اللبنانية، وذلك لإدراك عواصم القرار في العالم ضرورة تلافي الخطأ الفادح الذي وقعت فيه مثلاً الإدارة الأمريكية في بداية الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003، والمتمثّل بحلّ الدولة العراقية، لا سيما من خلال القرار رقم ٢ لسلطة الائتلاف المؤقتة الذي حل الجيش العراقي وكل المؤسسات الامنية العراقية بذريعة أنه لم يكن من فرق بين السلطة العراقية المتمثلة بنظام صدام حسين من جهة، والدولة العراقية من جهة أخرى، وقد كان ذلك نتيجة ـ من بين عوامل أخرىـ لقصور تلك الإدارة الأمريكية على التفريق بين مفهومي السلطة الحاكمة/والدولة، وجعل الأرض العراقية خصبة أمام اندلاع الحرب الأهلية في العراق، لاسيما ظهور تنظيم الدولة بصيغته الأولى، ثم الثانية الأكثر تدميراَ.
وإذا تبقّى للبنان ككيان ذرة وجود حسي في العالم، فهو من خلال العلم اللبناني؛ وإذا سُمح لهذا العلم أن يرفرف على سفارات لبنان في عواصم العالم، فهو لأنه يرمز لشخصية معنوية، اسمها "الدولة اللبنانية".
وعليه، إنّ استرجاع الدولة، كل الدولة، بالالتفاف حول شرعية الدولة، وتنقيتها من مكامن سيطرة الدويلة، هذا هو العنوان الوحيد الصحيح لمواجهة الدويلة بحزم، وهي معركة سياسية صعبة، وشاقة، وطويلة. أما كل ما عدا ذلك، فهو مشروع حرب أهلية يخدم الدويلة بالدرجة الأولى.
أما رمي الطفل مع ماء الحمام كما يقول الفرنسيون، أي محاولة التخلص من الدولة من باب التخلص من السلطة التي تهيمن عليها ولا تحترم مبدأ فصل السلطات ولا مبدأ فصل المصلحة العليا للدولة عن مصالح السلطة الحاكمة، فهو مشروع انتحاري بكل المقاييس.
رحم اللّه سمير قصير، وجبران تويني، وسمير فرنجية، وغسان تويني، ومحمد شطح، وكل رجال الدولة، أولئك الرؤيويون في الحركة السيادية اللبنانية، لا سيما في 14 آذار، الذين كانوا ينظرون لبعيد، ويعلمون علم اليقين أنه لا خلاص للبنان إلا بالدولة، مهما كانت التضحيات. برحيلهم، تركوا فراغاَ مهولاً، لا يستطيع ملأه بعض المزايدين من عديمي الرؤية البعيدة أو الحكمة، الباحثين عن أدوار بطولة وهمية ومحل من الإعراب السياسي، بعضهم من باب طائفي، وبعضهم من باب شعبوية برجوازية عقيمة سموها زوراً "تغييراً"، وكثير منهم انقلب عليها اليوم ويحاول التنصل منها بعد فشلها الذريع الذي كان متوقعاً.
بالرغم من كل ضعفها، بالرغم من كل عجزها، من كل فقرها، من كل إفلاسها، من كل ظلمها ومن الظلم اللاحق بها، من كل إجحافها ومن الإجحاف اللاحق بها، بالرغم من كل الفساد الذي ينخرها، تبقى الدولة هي الحماية الوحيدة فوق رؤوسنا كلبنانيين، ومدماك هويتنا اللبنانية في لبنان والعالم. بالرغم من كل شيء، تبقى الدولة هي البوصلة، وهي الهدف الذي يجب الالتفاف حوله في السراء، وخصوصاً في الضراء، ليبقى علمها يرفرف عزيزاً في لبنان، وعلى سفاراتها في كل عواصم العالم، اليوم وغداً وبعد غد، ولو كره الكارهون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.