علاقة وثيقة وغريبة جداً تربط الفن بـ"الفقر"، الأمر يشبه اللعنة، حيث تبدأ حياة أغلب الفنانين، وتنتهي أيضاً بـ"الفقر" ربما الأمر يتعلق بالسببية، حيث يؤدي كل منهما للآخر، أو كما يقول فيودور دوستويفسكي: "الفقر هو الذي يصنع الفنان، وهو أمر لابد منه في البداية"، وهي مقولة صادقة إلى حد بعيد فمن تحية كاريوكا التي لم تكن تملك حذاء إلى سامية جمال حيث بدأت من بيئة معدمة وحتى عادل إمام الذي لم يعرف طعم الشيكولاتة في طفولته، عانت الأغلبية في الأجيال القديمة والحديثة من تلك اللحظات القاتمة في البدايات، ولكن السؤال يبقى بشأن النهايات، لماذا يعودون إلى نقطة الصفر من جديد، كأن كل تلك الأمور من شهرة ومجد وحب، لم تكن!
لم تجد "فستانا" لترتديه في تكريمها!
قصة قاسية جداً، تلك التي قصتها علي أمي أكثر من مرة، عن كيف يتبدل الحال فجأة، من النقيض إلى النقيض، قصة الفنانة الجميلة زينات صدقي، لم تنس أمي قط مشهد تكريم الرئيس الراحل محمد أنور السادات لها، لا تزال أمي تذكر كيف ظهرت الفنانة الكبيرة بمظهر متواضع جداً، وقد تبدلت الملامح الضاحكة الساخرة، وصارت حزينة منكسرة للغاية، حين صعدت زينات صدقي إلى منصة التكريم لتتسلم جائزة قدرها ألف جنيه ومعاش استثنائي 100 جنيه، لم تكن هي التي لطالما رأتها أمي على الشاشة، كان سيدة أخرى حزينة للغاية، توفيت عقب التكريم بعامين اثنين فقط، يومها لم تكن زينات ستحضر الحفل من الأساس، لأنها لم تكن تملك "فستاناً" يليق بالمناسبة، أو حتى ما يكفي من المال لشراء واحد، هنا تدخل الرئيس وأرسل لها ما يسترها.
على الطريقة ذاتها انتهت حياة الفنانة الشهيرة سميحة توفيق في غرفة متواضعة بحي السيدة زينب، حيث أشيع أنها لم تكن تجد قوت يومها في الأيام الأخيرة حتى توفيت في العام 2010، ما زلت أتأمل حياة تلك السيدة الجميلة جداً، والشهيرة أيضاً، كيف تبدل حالها بهذه القسوة!
آواها سائق تاكسي في بيته!
ما زلت أذكر أيضاً النهاية المأساوية لفاطمة رشدي، والتي يشهد عليها الناقد أمجد مصطفى، الذي سبق وكتب عنها في جريدة الوفد، يحكي عن القصة قائلاً: "في النصف الأول من التسعينيات من القرن الماضي كنت التقيت الفنانة الكبيرة فاطمة رشدي على باب المسرح القومي، وقتها لم أعرفها من شدة حالة الفقر الذي بدا عليها، ولكن الفنانة الكبيرة عايدة عبد العزيز التي كانت متواجدة في المكان للمشاركة في أحد العروض أمسكت يدي عندما وجدتني مندهشاً من حال السيدة وقالت لي مد إيدك سلم على "سارة برنار الشرق"، فاطمة رشدي سيدة المسرح والسينما، وتعرفت على سائق التاكسي الذي كان يؤويها في منزله، وذهبت إليها في اليوم التالي وفوجئت أنها تعيش مع أسرة هذا الرجل في حارة بحي الدرب الأحمر، ونشرت حواراً لها في جريدة "الوفد" وقامت الدنيا ولم تقعد لأشهر بسبب المأساة التي طرحها الحوار عن حياة فاطمة رشدي، وتحركت السيدة صفاء أبو السعود وخصصت شقة لها وأرسلتها لعمل عُمرة على نفقتها وعادت فاطمة رشدي واتصل بها فريد شوقي طالباً المساعدة وتوقعت بعد عرض حالة فاطمة رشدي أن تتحرك النقابة لعمل بيت لكبار السن والمحتاجين من الفنانين، لكن كعادة المصريين نتحمس لأي قضية عند طرحها ونتأثر بها وتجد القنوات والكاميرات الكل يسعى نحو صاحب القضية ثم فجأة يحدث فتور وتجاهل للأزمة من الأساس.
خانته زوجته مع ابنه!
من بين كل القصص تبقى قصتان هما الأكثر قسوة برأيي، الأولى للفنان الجميل عبد الفتاح القصري، ذلك الرجل الذي أثبتت لي قصته أن الحياة بلا ضمانات، يمكن أن تنقلك من النقيض إلى النقيض في ثانية، وأن المثل الشعبي الشهير "جزاء المعروف الضرب بالكفوف" حقيقي جداً، فالرجل الذي تبنى طفلاً ورعاه، ثم تزوج، خانته زوجته مع ابنه بالتبني، واستوليا على ثروته، ثم قاما بحبسه، ليتفتت الرجل شيئاً فشيئاً، غادره بصره، وغادرته ذاكرته، ثم غادره ما تبقى من أمواله على يد مصلحة التنظيم، في العام 1964 نشرت جريدة الجمهورية صورة للقصري ممسكاً بأسياخ حديد غرفته بالدور الأرضي وكتب الصحفي محمد دوارة تعليقاً على الصورة قائلاً: "بدأ الضوء والحياة يفارقان عينى القصري تدريجياً، خشيت مطلقته أن يشكوها لأحد، فأغلقت عليه الباب، ليصرخ كل يوم من وراء النافذة يطلب من السكان سيجارة، فيضحك صغار الصبية، بينما تخرج الزوجة السابقة وزوجها الجديد كل يوم للتنزه بأمواله"، عقب محاولات عديدة من ماري منيب ونجوى سالم، تم تخصيص شقة ومعاش بشكل استثنائي للرجل، الذي مات في النهاية بشكل مأساوي، ولم يحضر جنازته إلا عدد قليل من الفنانين، وتلك ملاحظة أخرى ذات مغزى بالنسبة لي، حيث ترتبط الحالة المادية للفنان بعدد المشيعين له، ولا أدري حقاً ما السبب.. حتى هذه اللحظة أتأمل تلك العلاقة وأشعر باستغراب شديد.
حاول التظاهر بالصحة فسقط باكياً
أما القصة الثانية الأكثر قسوة هو ما جرى مع الفنان الجميل رياض القصبجي، أو "الشاويش عطية" كما اعتاد الظهور في سلسلة أفلام الراحل إسماعيل يس، هذا الرجل ظل متماسكاً حتى اللحظة الأخيرة، لكن ارتفاعاً شديداً في ضغط الدم أصابه بالشلل، ليواجه المصير المرعب لكثير من زملائه، انتهت أموال القصبحي، فحاول أن يوحي للمنتجين أنه تعافى، وبالفعل استعان به المخرج حسن الإمام في فيلم الخطايا، لكن الممثل القدير، لم يستطع مواصلة التمثيل هذه المرة، عجز عن التظاهر بـ "العافية" وسقط على الأرض في حالة انهيار شديدة، رحل من بعدها إلى بيته الذي لم يبرحه لأي مكان حتى توفي بعد هذا الموقف بعام واحد فقط، لكنني لا أستطيع أن أغفل محاولة الرجل، حتى اللحظة الأخيرة، أن يبقى واقفاً وصامداً!
لم يملك مصاريف دفنته!
من يمكن أن يصدق أن الفنان الجميل، عبد السلام النابلسي، حين يموت، لن يملك مصاريف دفنه وجنازته، قصة النابلسي بالذات، دللت لي، بشكل خاص، أن الفقر كالموت، يطارد أصحابه، مهما حاولوا الهروب منه، فالفنان الذي لم يرغب في تسديد 13 ألف جنيه لمصلحة الضرائب المصرية، قام بتهريب ثروته إلى لبنان، داخل "دمية" وأودعها مصرفاً هناك، وحاول أن يعيش حياته ويتزوج أخيراً عقب عمر طويل من العزوف عن الزواج، لكن المصرف الذي اختاره بالذات "أفلس" وصار الرجل فقيراً جداً، ووحيداً، ينام تاركاً باب غرفته مفتوحاً كي يتمكن الناس من العثور على "جثته" بسهولة إذا مات!
غنى للفقر فمات عليه
حين سمعت قصة حياة إسماعيل ياسين، عبر أحد البرامج، في طفولتي، أصبت بغصة شديدة، منذ تلك اللحظة، لم تعد أفلامه تضحكني أبداً، كلما ظهر على الشاشة، أشعر برغبة في البكاء، تلازمني حتى الآن، حيث عز علي، أن تستحيل حياة شخص، استطاع أن يرسم الضحكات على وجهي منذ نعومة أظافري، إلى هذا القدر من البؤس، قبل وفاته، الفنان الذي عاش طوال حياته، يحاول أن يرسم صورة سعيدة لحياة الفقراء، أصابه الفقر في مقتل، حيث حجزت مصلحة الضرائب على رصيد حسابه بالبنك 300 ألف جنيه، ما أصابه بشلل نصفي، حاول من بعدها أن يتعافى، وراح يعمل من جديد، من الصفر، في الملاهي الليلية، وأي وكل شيء يمكن أن يساعده على استعادة حياته، لكنه وبمجرد حصوله على دور أخيراً، توفي عقب بدء التصوير بأربعة أيام فقط!
النهاية على الرصيف
وسامة مع اجتهاد وتميز شديد في الأداء، ثلاثة عناصر كانت كفيلة أن تجعل من حياة الفنان عبد العزيز مكيوي أسطورة فنية، الفنان الذي كان يتحدث ثلاث لغات بطلاقة، هي الفرنسية والإنجليزية والروسية، ظل يحاول أن يجد له مكاناً على الساحة الفنية، لكن الأمور انتهت بطريقة درامية عام 2002، حيث قدم آخر أدواره في مسلسل بعنوان "أوراق مصرية" قبل أن يصير مشرداً بلا مأوى، هكذا من أضواء الكاميرات إلى أضواء أعمدة النور على الرصيف، لم يجد الرجل شيئاً ينقذه سوى "كاميرا" صحفية، صورت مأساته، فتحركت نقابة المهن التمثيلية لتودعه مستشفى حتى وفاته داخل دار مسنين.
من يونس شلبي لشريف خير الله!
ما إن مرض الفنان يونس شلبي، حتى خرجت زوجته لتناشد علاجه على نفقة الدولة، بعدما أنفقت كل ما كان يملك على العلاج، كل تلك الضحكات التي رسمها والشهرة، لم تشفع له حين وقع، لا تزال صوره الأخيرة عالقة بذاكرتي، بلحية غير حليقة ووجه مكتئب جداً، تحول "عاطف" في مدرسة المشاغبين، إلى شخص يعاني منذ داهمه المرض في العام 1955 وحتى مات وفاته بأزمة تنفسية حادة عام 2007.
إنني لا أنسى أبدا مشهد الفنان المفضل لدي، محمد شرف، حين ظهر في لقاء أخير، مع الإعلامية الودودة إيمان الحصري، قبل سنوات، يتحدث عن مرضه، وكيف أنفق كل ما لديه، حين أصيب بمشكلة في القلب، قال لها: "أنا خلصت كل فلوسي على العلاج"، ليقابل بارئه عقب اللقاء، بوقت وجيز.
غياب تام لمنظومة تأمين صحي، أو معاش كريم، دفعت فناناً بحجم خالد زكي لأن يخرج ويقول: "أنا معاشي 2200 جنيه"، أما المخرج المسرحي مراد منير، زوج الفنان الراحة فايزة كمال، فخرج بدوره يستغيث: "هاتطرد من شقتي ومعنديش مكان أروح فيه!"، أما الممثل المجتهد شريف خيرالله، فكانت أموره على ما يرام حتى أصابه حادث "موت" على حد وصفه، فانصرفت الأضواء عن الرجل الذي أصيب بكسر في الجمجمة ونزيف في المخ، وفقدان لحظي للذاكرة، أربع سنوات فقد فيها كل شيء، خرج من بعدها ليؤكد : "بعت بيتي وعربيتي".
مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة حالياَ، راحت الاستغاثات تتزايد من وجوه مثل الممثل حمدي حنفي الذي خرج ليؤكد "بعت الموتوسيكل مبقاش حيلتي حاجة"، أزمة يبدو أنها ستتكرر بلا نهائية منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن، حيث يتم تحميل الذنب في كل مرة إلى "النقابة" و"النقيب" بينما تبقى محاولة الحصول على "حياة كريمة" أو ربما "تأمين صحي حقيقي" في نهاية العمر لمن يملكون في خانة عملهم بالبطاقة الشخصية "ممثل" حلماً بعيد المنال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.