لم تعد قصة أو فكرة إمكانية اندلاع حرب أهلية في إسرائيل مجرد قضية لنقاش نظري وتاريخي وأكاديمي، وإنما باتت واقعية جدّاً مع تحذير وزير الدفاع المنصرف الجنرال بيني غانتس منها، وتحميله رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو مقدماً المسؤولية عنها، وتهديدات وتعليمات حليف نتنياهو وزير الأمن القومي الجديد إيتمار بن غفير بقمع التظاهرات المناهضة للحكومة، وتهديد أحد نواب حزبه ضابط الاحتياط تسفي فوغل باعتقال غانتس نفسه مع رئيس الوزراء السابق يائير لابيد ووزير الدفاع رئيس الأركان السابق الجنرال موشيه يعلون، بصحبة زميله الجنرال يائير غولان النائب السابق عن ميريتس الحزب اليساري الوحيد بالمعنى الإسرائيلي طبعاً.
إذاً، كان احتمال ندلاع حرب أهلية في إسرائيل مطروحاً طوال الوقت على بساط البحث والنقاش ولو نظرياً، وذلك لعدة أسباب ومعطيات تاريخية ومنهجية، منها: اقتتال الممالك اليهودية السابقة عبر التاريخ وتشظيها وزوالها، وعدم استمرار أي منها لأكثر من ثمانية عقود. هذا إضافة إلى الاقتتال الداخلي المحتوم، والتفكك للكيانات الاستعمارية الطارئة والغريبة والمستحدثة كما حصل مع الممالك والإمارات المغولية والصليبية في البلاد العربية والإسلامية، مع الانتباه إلى حقيقة مفادها أن التصرف بذهنية العصابة أو الميليشيا يقوي هذا الاحتمال ويجعله حتمياً أيضاً، كون كل العصابات والميليشيات المسلحة تتقاتل فيما بينها.
إلى ذلك، فإن فكرة الصهيونية نفسها القائمة على العنصرية والعنف والاستعمار لا يمكن أن تعمر أو تبني دولة قابلة للبقاء في بيئة معادية ومقاومة وعنيدة أصلاً، مع حتمية ارتخاء العصب الإسرائيلي المشدود سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، واستحالة أن يبقى كذلك لفترة طويلة مع نشوء أجيال جديدة تفكر بشكل مختلف.
التنبؤ باندلاع حرب أهلية في إسرائيل
في السياق نفسه، كان الاحتلال ولا يزال أحد معطيات وخلفيات اندلاع حرب أهلية في إسرائيل، حيث تنبأ يشيعياهو ليبوفيتش أحد كبار الفلاسفة في الدولة العبرية بذلك، نهاية ستينيات القرن الماضي، مع تأكيده على أن نهج حكم شعب آخر بالقوة القهرية المسلحة، وممارسات الاحتلال القمعية ضد الفلسطينيين، ستنعكس حتماً على المجتمع الإسرائيلي بالداخل، والمحتلون سيجلبون معهم ذهنية ونفسية العنف والجريمة والاحتكام إلى القوة لحل وحسم الخلافات فيما بينهم.
ثمة سبب مهم جداً أيضاً يتعلق بطبيعة إسرائيل نفسها ككيان استعماري مستحدث، ونموذج فريد بالمعنى السلبي، حيث إنها الدولة الوحيدة في العالم التي لا تمتلك دستوراً يحكمها، ولا حدود ترسم مناطق سيطرتها وسلطاتها، وغياب الدستور -إذ يكشف عن حقيقة الدولة نفسها- يساهم من جهة أخرى في تأجيج الخلافات والانقسامات والعجز عن حلّها بشكل دستوري ومؤسساتي.
هذا كان منهجياً وتاريخياً فيما يخص احتمال اندلاع حرب أهلية في إسرائيل، بينما حملت التحذيرات الأخيرة في طياتها سمات ومضامين من المعطيات والمحددات السابقة، إضافة إلى أخرى سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية واقعية، منها الحرب أو الصراع الذي لازم الدولة العبرية منذ تأسيسها بين العلمانيين والمتدينين، واتفاق الوضع الراهن القديم الذي وضع عند تأسيسها عام 1948، والمتضمن إعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية وحتى العمل، ولكن مع عزوفهم عن ممارسة السياسة أو الانخراط بها كما تصوّر المؤسس وأول رئيس وزراء دافيد بن غوريون، بينما تحولوا مع الوقت إلى لاعب مركزي بالساحة السياسية ولكن دون تغيير أو تعديل اتفاق الواقع الراهن الذي تم التوصل إليه منذ أكثر من سبعة عقود.
والآن يطالب المتديّنون بنصيبهم من كعكة السلطة والقرار بعدما باتوا قوة كبرى "خُمس السكان تقريباً" بكتلتهم التصويتية المنضبطة والملتزمة جداً بتعليمات الحاخامات –القادة الروحيين- وأدواتهم وأقنعتهم السياسية حتى مع كونهم عبئاً اقتصادياً وأمنياً على الدولة، ولا ينخرطون بسوق العمل ولا يخدمون في الجيش بحجة التفرغ لدراسة التوراة، وبالمقابل يستنزفون ميزانيات مالية هائلة لمؤسساتهم الاقتصادية والاجتماعية.
صاحب الكيان منذ تأسيسه صراعاً آخر بين اليهود الغربيين الأوروبيين "الأشكناز" الذين أسسوا الكيان وقادوه طوال الوقت تقريباً مقابل اليهود الشرقيين "القادمين من الدول العربية والإسلامية السفرديم"، والذين تم إجبارهم على الهجرة إلى فلسطين من قبل الحركة الصهيونية، وتم النظر إليهم تاريخياً كمواطنين من الدرجة الثانية وأيدٍ عاملة رخيصة للمشروع الاستعماري الغربي فكراً وممارسة، ثم تمردوا على هذا الواقع أيضاً مع تصاعد قوتهم السياسية والاجتماعية.
في السياق نفسه، تآكلت تدريجياً نظرية المؤسس بن غوريون عن جيش الاحتلال باعتباره جيش الشعب وبوتقة الصهر لكافة الفئات والأعراق المختلفة، حيث يخدم فيه الآن نصف الشعب، وهو من يدفع الضرائب أيضاً وغالبيته من الأشكيناز والعلمانيين، بينما يسعى النصف الآخر وغالبيته من الشرقيين والمتدينين إلى إحكام قبضته على السلطة بشكل تام.
رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ورغم خلفيته الغربية وانتمائه العائلي إلى ما يُعرف بالجناح الليبرالي الإصلاحي للحركة الصهيونية، إلا أنه انحاز إلى النصف الآخر لأسباب شخصية تتعلق بسعيه إلى التخلص من كابوس محاكمته واحتمال إدانته وسجنه ومغادرته السلطة من الباب الخلفي والصغير.
نتنياهو: دونالد ترامب الإسرائيلي
ثمة أسباب فكرية وسياسية أخرى لموقف نتنياهو باعتباره دونالد ترامب الإسرائيلي، وكما صديقه وحليفه الأمريكي الذي أوصل بلاده فعلاً إلى حافة اندلاع حرب أهلية كما يفعل نتنياهو الأمر نفسه، والمنطلقات هي ذاتها تقريباً، وتتضمن محاربة المؤسسة الرسمية في أبعادها المختلفة السياسية والإعلامية والقضائية بحجة حماية أمنها من الأعداء والدول المعادية.
وعليه، لم يكن غريباً أن يتمثل السبب المباشر لاشتعال الأزمة الحالية، وانفجار كل المحددات والمعطيات السابقة بسعي نتنياهو عبر ياريف ليفين وزير العدل وأحد مساعديه وحلفائه المخلصين والمقربين إلى تغيير النظام القضائي بالكامل، وتفكيك المحكمة العليا -بمثابة محكمة دستورية- المتهمة بدعم المعارضين، والحيلولة دون إحكام اليمين المتطرف قبضته على السلطات كافة بزعم أنه يمثل الأكثرية والغالبية في إسرائيل، بمعنى آخر نحن أمام سعي لتكريس ذهنية غالب ومغلوب، وهيمنة السلطة التنفيذية على السلطات كافة بأغلبية تشريعية بسيطة ولكن بذهنية أو وهم انتصار نهاية التاريخ.
إضافة إلى تراجع الخدمة في الجيش إلى النصف؛ يسعى حلفاء نتنياهو الجدد إيتمار بن غفير وبتسئيل يسموترنتش -لم يؤديا الخدمة العسكرية أصلاً- إلى إجراء تغييرات واسعة في المؤسسة العسكرية التي تقوم عليها، وللدقة هي من تمتلك الدولة العبرية، ما يعني تغلغل المشاكل والأزمات إليها، وتسريع وتيرة الصراع وانهيار وتفكك الدولة ذاتها.
يسعى حلفاء نتنياهو كذلك إلى إنهاء السلطة الفلسطينية، وضم منطقة "ج" البالغة مساحتها 60% من الضفة الغربية، بما فيها غور الأردن خزان المياه والزراعة للضفة الغربية، كما تغيير الواقع في القدس والمسجد الأقصى بالقوة الجبرية بموازاة السعي لفرض ما يشبه الحكم العسكري على المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، أي تكريس التمييز العنصري بحقهم، والفصل العنصري بحق إخوانهم في الأراضي المحتلة عام 1967، ما يعني ظهور الدولة العبرية على حقيقتها دون تذاكٍ أو مساحيق تجميل، وبالتالي فقدان الدعم الدولي وتصعيب مهمة الدفاع عنها غربياً، مع تلاشي دعاية أو أكذوبة الديمقراطية الوحيدة بالمنطقة، علماً أنها مثّلت كذلك أحد أسباب دعم إسرائيل للثورات المضادة وإفشال مسيرة التحوّل الديمقراطية في العالم العربي لبقاء واحة مزعومة للديمقراطية في صحراء استبداد الأنظمة العربية.
بناءً على ما سبق، وفي ظل الاستقطاب الهائل وانتقال الأزمة إلى الشارع عبر تظاهرات أسبوعية ستتحوّل إلى يومية مع الوقت بموازاة الدعوات إلى الإضراب والعصيان المدني، ومحاولات قمعها من قبل الشرطة أو حتى التصدي لها من المعسكر المقابل -كما جرى فعلاً عبر محاولة دهس المتظاهرين في بئر السبع الأسبوع الماضى- يبدو الصدام الفعلي في الشارع مسألة وقت فقط، وهو ما أقرّ به الرئيس إسحاق هرتسوغ نفسه أمس الأحد، باعترافه أن إسرائيل في خضم "نزاع عميق" يمزقها، وتبدو في طريقها لأزمة دستورية تاريخية ستؤدي إلى المزيد من الانقسام فيها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.