قوانين النضال وشروطه.. كيف يمكننا تغيير العالم؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/16 الساعة 09:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/16 الساعة 09:55 بتوقيت غرينتش
من مظاهرات السودان الأخيرة - الأناضول

إن الإنسان كائن سياسي بطبعه، كما يقول علي شريعتي في كتابه (بناء الذات الثورية). 

المقصود بصفته السياسية: الرؤية والميل الذي يربط الفرد بمصير المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه الصلة هي موضع تجلي الإرادة والوعي والاختيار عند الإنسان، بحيث يحس أن وضعه الاجتماعي مثل وضعه الطبيعي. أي أن يحس بموقعه في الطبيعة أو المجتمع ويعيه، ويتدخل فيه مؤيداً أو معارضاً أو معبراً عن بنيته. ومن ثم فإن غير السياسي إنسان في الحقيقة أبطل وعطل أغلى وأسمى تجلٍّ لاستعداده الإنساني.

وتعرف السياسة بأنها علم حكم الدول أو فن حكم المجتمعات البشرية، (حسب معجم ليتره السياسي 1870 ومعجم روبير 1962). والسياسة، في رأي الأفراد أو الطبقات المضطهدة المحرومة الفقيرة البائسة، هي صراع. أما الأفراد والطبقات المترفة الغنية الراقية، فالسياسة عندها اندماج وتكامل. 

و من المؤسف أن رجال السلطة هلعوا دائماً من اهتمام الجماهير بالسياسة والواقع، عن طريق التسلية والإلهاء وترويج الفنون الهابطة، او الإفراط في الرياضات البدنية، أو عبادة الاستهلاك، أو خلق مشاغل حقيرة في الحياة الاقتصادية والأسرية.

والإلهاء استراتيجية معروفة منذ قديم الزمان، لتحويل الأنظار والأفكار والمواقف عن القضايا الحساسة والمصيرية. وقد وجدت السلطات في التسلية والإلهاء من خلال الإعلام نوعاً من المخدر الفعال للوعي.

إن الوعي هو الخطوة الأولى للتغيير. فالوعي في نظرية التحليل النفسي الفرويدي ركن مهم من أركان النظام النفسي، مع قبل الوعي واللاوعي. ومع أن الوعي يمثل قمة جبل الجليد في الحياة النفسية التي يظل جلها لاواعياً، فإن الوعي يحتل مكانة مهمة في دينامية الصراع النفسي، لجهة التجنب الواعي للمزعجات والدوافع المثيرة للقلق، والضبط الأكثر تمييزاً لمبدأ اللذة. كما يلعب دوراً رئيسياً في نظرية العلاج التحليلي النفسي لجهة وظيفته في الشفاء الذي يحدث حين تخرج المكبوتات إلى المستوى الواعي من الحياة النفسية، إذ يمثل تلك القوة الموجهة للحياة.

ويرى علم النفس المعاصر أن للوعي عموماً وظيفتين رئيسيتين هما المراقبة والتوجيه. فالوعي يراقب الذات والمحيط، ويضبط الفكر والسلوك. وظيفة المراقبة في الوعي هي أشبه ما تكون بكاميرا فيديو متحركة تمسح المحيط وترصد المدركات كما ترصد الأفكار والمشاعر والأهداف وحلول المشكلات التي يحتمل أن تكتسي، نظراً لدلالتها، أهمية من نوع ما بالنسبة للشخص.

و أما وظيفة التوجيه فإنه يسمح للشخص أن يبدأ أفكاراً وسلوكيات للوصول إلى هدف ما، أو ينهيها. ولذلك ينشط الوعي عادة حين يختار الشخص بين أحد بديلين لحل مشكلة ما. وتتكامل وظيفتا المراقبة والتوجيه في التعامل مع الذات ومع الواقع والوجود.

يقوم الوعي إذا بوظيفة مهمة جداً تتمثل في تعزيز التكيف النشط للمحيط بما يخدم حمايته وبقاءه وتقدمه. ولهذا فالوعي يركز عادة على الأشياء غير الرتيبة، أو غير المتوقعة؛ أي تلك الأشياء التي قد تؤثر على الحفاظ على البقاء والنماء وحسن الحال. وبينما يتصرف الناس في الحياة اليومية بشكل روتيني آلي، وخارج نطاق الوعي معظم الوقت، نرى الوعي يتدخل عند بروز خيارات مهمة، ما يسمح برفع فاعلية التفكير والتبصر بالأحداث ذات الدلالة، والشغل على مقارنة نتائج الخيارات بين البدائل. من هنا نرى مدى خطورة تخدير الوعي، وإبقاء الناس في الأنظمة المتسلطة على مستوى التفكير والسلوك الآلي الروتيني على مستوى المعاش، والحيلولة دون التبصر بالذات والواقع وتدبر وسائل الفعل والمبادرة لتغييرهما.

لكن رغم ذلك فإنه ليس على الإنسان تحمل جحيم ألاّ يكون؛ لذلك يقول نجيب محفوظ إنه لكي يبقى الإنسان إنساناً فعليه أن يثور مرة في كل سنة. إن الحياة تجدد ذاتها، فيزول مهزومون ويظهر بديل لهم، ويترك الاستسلام مكانه للمواجهة والنضال المدفوع بتفاؤل ظفر الحياة على الموت.

والنضال الاجتماعي والسياسي، باعتباره  فعلاً أو سلوكاً بشرياً، يمكن أن يخضع لمجموعة من القوانين، أهمها: 

قانون الكل أو الجزء 

إن الحركات النضالية لا تخضع لقانون الكل أو لا شيء؛ لأنها لا تتطلب انخراط كل المجتمع من أجل التشكل أو الانطلاق، بل يمكن أن تبدأ بفرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد. كما أن نتائجها أو تاثيرها لا ترتبط بالضرورة بكمية أو بعدد أفرادها بقدر ما ترتبط بنوعية وبطبيعة مكوناتها. فيمكن لعدد قليل من الأفراد أن يحققوا ما عجز عنه عدد كبير من الأشخاص. كما أن الحركات الكبيرة تعتمد وتسبقها دائماً حركات صغيرة قادرة على الحركة بسرعة أكبر وبشكل مستمر.

إن كل حركة تغييرية تحتاج إلى ثلاث شرائح مختلفة، كما يقول جاسم سلطان في كتابه (قوانين النهضة). تعبر كل شريحة عن طبيعة المرحلة التي بها الحركة التغييرية. هذه الشرائح الثلاث هي: شريحة البدء وشريحة التغيير وشريحة البناء.

الشريحة الأولى هم الرعيل الأول من الناس الذين يجتمعون حول فكرة ما في مجتمع ما في مرحلة ما، ويستعدون للتضحية من أجلها. وليس بالضرورة أن ينتمي كل أعضاء شريحة البدء لطبقة اجتماعية معينة، بل قد يكون هناك خليط من أكثر من طبقة أو شريحة.

قانون الاستمرارية والصراع

النضال حركة وسيرورة مستمرتان عبر الزمن، لا يمكن أن يتوقف مادام هناك ظلم أو صراع بين الخير والشر، ومادام هناك جهات أو سلطة تخرق القانون باسم القانون وتحكم بقانون القوة وليس بقوة القانون.

إن المجتمع البشري، كما يقول علماء الاجتماع، لا يمكن أن يخلو من مشكلات، وهذه المشكلات هي رمز حياته وشعار حركته الدائبة. فالمشكلة تحفز الناس على معالجتها. وبهذا ينقسمون ويتصارعون. لكن المجتمع ينتفع من هذا الصراع الجاري وراء المصالح الذاتية. 

ويرجع البروفيسور كارفر التنازع البشري إلى سببين، وهما: استحالة إشباع الحاجات البشرية كلها، وحب الإنسان نفسه وتقديره أكثر مما تستحق في حقيقة أمرها. ويعتبر كفاح المواطنين ضد السلطة، المضطهدة بطبيعتها، عاملاً من عوامل الصراع، كما عبر عن ذلك موريس ديفرجيه في كتابه (مدخل إلى علم السياسة)، فالشعب يعتبر الحكومة شراً لابد منه. ولذا فهو تجاهها يقف موقف المعارض بالغريزة. 

في المقابل  تخشى السلطة الجماهير في تجمعها وتجمهرها؛ كيف لا ونحن نجد أن نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهددها أي شيء. وهي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار. إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير، كما عبر عن  ذلك غوستاف لوبون في  كتابه (سيكولوجية الجماهير). لقد أصبح صوت الجماهير راجحاً وغالباً. فهو الذي يملي على الملوك تصرفاتهم. ولم تعد مقادير الأمم تحسم في مجالس الحكام، وإنما في روح الجماهير (كتشكيل النقابات مثلاً). 

إن تناوب الحكومات والمعارضة على السلطة يعد مظهراً آخر من مظاهر الصراع. فالحزب المسيطر، يُستهلك بالحكم، فيفقد قوته، ويمكن القول إن كل سيطرة تحمل في طياتها عناصر تدميرها. إن تفكك الحزب المسيطر حسب هتشك، الذي وضع قانون تفكك الحزب الأكثري، يرجع إلى عمليتين أساسيتين، فمن جهة تضطر ممارسة الحكم الحزب إلى تخفيف غلو برنامجه، وإلى عدم الوفاء بالوعود المقطوعة للناخبين وفاءً تاماً.

إذاً فلابد من أن يخيب أمل نسبة معينة منهم، بطبيعة الحال، فسيرحلون أصواتهم نحو الحزب الخصم. ومن جهة ثانية يثير العمل الحكومي اختلافاً داخل حزب الأكثرية. ويزداد الانشقاق خطورة بين يسار لا يساوم ويمين معتدل ومساوم. وفي جهة المعارضة يبقى الحزب أكثر اتحاداً منه في الحكم. فمهما يكن النزاع فيه، فإن أعضاءه يبقون على اتفاق لمقاومة هذا الحزب الذي يحكم بغية الحلول مكانه. فإذا تم ذلك، ظهرت الخلافات إلى النور. وهكذا يؤدي استلام الحكم إلى عملية تفكك في الحزب تضعفه لمصلحة خصمه.

وبالطبع ينزع هذا الأخير إلى أخذ مكانه. فإذا تم له ذلك، تعود عملية التفكك إليه ولمصلحة المغلوب. فالحزب الذي يناضل من أجل العدالة لا يستطيع أن يحقق هذه العدالة كاملة إذا وصل إلى منصة الحكم. إن العدالة المثالية التي يحلم بها المعارضون المكافحون لا يمكن تحقيقها أبداً، وذلك حسب رأي علي العمري في كتابه (مهزلة العقل العربي). لكن الحزب المعارض يقوم بوظيفة اجتماعية كبرى حين يكافح من أجل العدالة.

إن الجهل بقوانين النضال وشروطه قد يؤدي إلى تفكك وتعطل الحركات النضالية، وما نراه الآن من كثرة أحزاب ونقابات لا يعكس قوة، بل هو مظهر من مظاهر الضعف والتفكك. فتغير أو تعدد الألون الحزبية والنقابية لا يعني بالضرورة تعدداً أو تنوعاً في الأفكار والمشاريع والبرامج.

إن كثيراً من التنظيمات النضالية بالدول المتأخرة يمكن أن ينطبق عليها ما عبر عنه موريس ديفرجيه في كتابه (الأحزاب السياسية)، عندما قال بأنها: "أحزاب شاخت ومالت إلى الاندماج في النظام القائم، وخاصة إذا تطور هذا النظام في اتجاهها. هذه الاحزاب تأخذ  مظهراً شكلياً، فتقوم شيع متخاصمة تتزاحم على السلطة باستعمال الأصوات كعجينة طرية تدعك حسب الطلب".

ولعل بروز ما يسمى بالتنسيقيات أو المجموعات النضالية، التي أصبحت تناضل بعيداً ومن خارج الأحزاب والنقابات، لدليل واضح على حجم الأزمة التي تمر بها هذه التنظيمات التقليدية.

والتنسقيات ليست حركات نضالية عشوائية أو فوضوية، بل هي تنظيمات منظمة؛ تتكون من مجموعة الأفراد، الذين يجمعهم هدف أو مطلب مشترك، موزعين على مهام وأدوار، وذلك عبر لجان ومكاتب، لتسهيل عملية التواصل بين مكونات التنظيم من جهة وبين التنظيم والتنظيمات الأخرى من جهة أخرى.

لكن استمرار هذه التنظيمات الجديدة وفعاليتها يتطلب الأخذ بعين الاعتبار بعض القواعد والشروط، والتي تتجلى فيما يلي:

1- أن المناضل أو النضال درجات ومستويات، يتأرجح بين المصلحة الخاصة والصالح العام، أو بين ما هو ذاتي وبين ما هو موضوعي. لذلك يصعب نظرياً التمييز بين المناضل الحقيقي والمناضل المزيف، فالفيصل بينهما الميدان وتحدياته. وبالتالي فالنضال هو سلوك وممارسة قبل أن يكون عبارة عن كلام أو خطابات ونظريات. أما المناضل فيجب أن يكون ضميراً ومبدأً يمشي فوق الأرض وبين الناس، في زمن يعاني فيه الضمير الاجتماعي من ثقوب واختراقات، بسبب تعقد الحياة وغياب القدوة. إن سد هذه الثقوب، كما جاء في كتاب (ثقوب في الضمير) للمؤلف أحمد عكاشة،  يتطلب إيقاظ الضمير الاجتماعي العام بالحرص على أن يطمئن الضمير الفردي.

2 – تماسك التنظيم أو الحركة مرتبط بوجود هدف مشترك، يربط ولا يفكك. فالهدف القابل للتجزيء أو التفكك قد يؤدي إلى تفكك الحركات النضالية أمام التحديات والعراقيل أو الشروط التي تضعها الجهات النقيضة. يقول العلماء إنه كي يتحقق الانتماء الحقيقي يجب أن تتوفر هذه العناصر: العضوية، التأثير المتبادل، إشباع الرغبات والهدف المشترك.

3- يجب تقبل الآخر وآرائه وحريته في التعبير، لكيلا يتحول الانتماء إلى تعصب وصراع بين الأفراد والمجموعات أو الجماعات. ولكيلا يتحول التنظيم إلى نظام مغلق يسقط البعد الطيب على كيانه الداخلي ويسقط الدلالات السلبية ومشاعر الحذر والخشية والعداء على الخارج. عكس الأنظمة المفتوحة على العالم الخارجي؛ فهي تغذية وتتغذى منه، وبالتالي تنمو وتتطور وتتغير.

4 – لا يجب ربط المطلب أو الهدف بتاريخ أو بشكل نضالي أو بخطوة نضالية. فأحياناً إنجاز خطوة أهم من حجم هذه الخطوة، والسبب أهم من النتيجة. 

5- تقسيم الأدوار والمهام والتناوب عليها يقتصر على الجهد ويعطي نفساً أطول للحركة.

6 – التواصل المستمر بين أفراد الحركة مهم جداً، إذ يسمح باختزال المسافة ومشاعر انعدام الثقة بين مكوناتها. أما الانفراد بالمعلومات أو بالقرارات وعدم الرجوع للمكونات الأخرى فقد يكسر الروابط بين هذه المكونات. وقد عبر عبد الرحمن النوضة عن هذا الشرط المهم، في كتابه (فن النضال)، عندما قال بأنه: "يجب العمل بأسلوب المحاسبة المستمرة وكذلك بأسلوب المراقبة المستمرة. وعندما يظهر أن بعض الأفراد متفوقون، فإن هذه المظاهر لا تبرر تقديس الفرد، أو إلغاء دور الجماعة".

إن العصر الحديث فرض مفهوماً جديداً هو البطولة الجماعية، والسبب الحقيقي الذي يمنع من التعاون وتقبل فكرة فريق العمل، هو أن الجميع يريد أن يكون القائد.

المصادر

– كتاب بناء الذات الثورية، علي شريعتي.

– كتاب الإنسان المهدور، مصطفى حجازي.

– كتاب قوانين النهضة، جاسم مصطفى.

– كتاب فن النضال، عبد الرحمن النوضة.

– كتاب سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون.

– كتاب سيكولوجية السلطة، سالم القمودي.

– كتاب مهزلة العقل العربي، علي العمري.

– كتاب مدخل إلى علم السياسة، موريس ديفرجيه.

– كتاب الأحزاب السياسية، موريس ديفرجيه.

– كتاب ثقوب في الضمير، أحمد عكاشة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
خليل الحسين
كاتب مغربي
كاتب وباحث مغربي
تحميل المزيد