"تعلمت عبر حياتي، و بالتدريج البحث عن هذا الجوهر الإنساني، وأن أشعر بذلك الضوء الذي يشع من الأرواح الطيبة. أحب أن أكون على مقربة من هؤلاء، بينما أهرب من ذوي الأرواح المظلمة والقلوب الغليظة". محمد أبوالغيط
دائمًا ما يسحرني المشترك الإنساني، وكيف يمكن لشخص ما لم تقابله من قبل أن يصف ما تشعر به بدقة، وربما يستخدم أيضًا نفس الكلمات التي تعبر بها عن الشيء ذاته.
لذلك أحب السير الذاتية. فهي بالرغم من تباعد التجارب وتباينها، تستطيع أن تمس ذلك المشترك الإنساني، من مشاعر وأفكار وصراعات. أحبها لأنها واقعية، تعيدني بعد أن يتطرف بي خيالي يمينًا ويسارًا إلى أرض الواقع. تجعلني أري الممكنات الغائبة عن حاضري، واستقرأ معانٍ أخرى للحياة من تجارب في أزمنة وأمكنة مختلفة. وأحبها أيضًا لأني أرى من خلالها الإحباطات والإخفاقات والنوائب. فأقف على حقيقة الاختبار، اختبارنا في الدنيا، و حتمية الابتلاء. والكبد الذي أخبرنا الله عنه وخلقنا فيه إلى يوم نلقاه. وكأنها تقول، أنت لست وحدك في هذا!
في كتاب أنا قادم أيها الضوء، الذي يحكي فيه الطبيب الصحفي الشاب"محمد أبو الغيط" تجربته مع مرض السرطان، وجدت كثيرا من الأفكار والمعاني المشتركة،والذي أظن أن القارئ الذي يقرأ بقلبه، سيجد هذا المشترك الإنساني، إما في حكاية حب، مشاعر أبوة، أو شعور الاغتراب، أو حتى سؤال وجودي يشغله. وفي هذه التدوينة أشارككم بعض ما وجدت من هذا المشترك الذي مس قلبي.
هكذا ساعدني المقال الأول
كان من أول ما قرأت عن تجربة أبوالغيط مع المرض، مقالًا يحكي فيه عن خوضه لعملية استئصال المعدة ومعاناته أثناء محاولة إدخال الطعام مرة أخرى، وبدا أن مجرد شربة ماء كانت كفيلة بأن يخوض أهوالًا!
لم أعرف أبو الغيط بشكل شخصي، لكن بدا لي من هذه المقالة شخصيته القوية والحية، والتي تستطيع التنقل بين المشاعر المختلفة التي يمر بها الشخص في ظرف صعب كهذا. فبين إحباط وأمل ،وإصرار وإنهاك وتفاوض، كان يتحرك. استكشف الأفكار المحيطة التي توجه مشاعره في اتجاه واحد مثل لقب " محارب / مقاتل السرطان/ المعركة" وتحرر منها. فالمرض ليس منافسة، فلا ينبغي مثلًا لمن تتدهور حالته الصحية أو النفسية، أن يراوده إحساس الذنب!
أدهشتني هذه الحركة الحية في التعامل مع المشاعر والأفكار. وسعيه المستمر في تحسين ظروف المرض. وفي الوصول لسبل يستطيع أن يمارس معها شيئًا من الحياة الطبيعية. كما أدهشني إصراره على تدوين التجربة والكتابة بالرغم من كل ما يمر به من ألم، وأفكار، وقرارات مصيرية. لعل أن يكون في ما يمر به ويدونه ضوءًا لمن بعده.
وبالفعل، كانت هذه المقالة حينها ضوءًا لي. كنت في وقت قراءتي لذلك المقال في انتظار طويل لنتيجة عملية جراحية أجريتها في عيني. هي بالأصل تصحيح لخطأ طبي حدث في عملية سابقة. كشفته لى الأقدار في الوقت المناسب تمامًا.بعد العملية احتجتُ لوقت طويل لمعرفة ما سيستقر عليه مستوى رؤيتي. فبجانب بعض التغييرات التي علمت أنه لا يمكن إصلاحها. لازمني شئ من الإعتام الناتج عن العملية لفترة. غير أن المؤشر الطبي لنجاح العملية يظهر بالمتابعة والوقت. فحص بعد شهور ثلاث. ثم ستة أشهر. ثم بعد سنة.
شعرت أن التشوش الذي أصاب رؤيتي في ذلك الوقت انتقل إلى قلبي. أصبت بنوبة قلق حادة. كل محاولات الفرار منها كانت تعيدني إليها مرة أخرى. أفكار وأسئلة وسيناريوهات تستبق الحدث.
ساعدتني المقالة على إعادة صياغة الوضع، ووضعه في محل مختلف. تتضاءل في قلبي ما أمر به، وكان لابد له أن يتضاءل أمام تفاصيل كهذه! ذهب عني الروع بمقدار. وحاولت أنا أيضًا أن أرى الضوء!
فبدأت بالإجابة عن أسئلتي بشكل أكثر خفة. ماذا لو لم تعد الرؤيا كما كانت؟ سأعول حينها على قدرة الإنسان اللا متناهية على التأقلم. هل سأضطر إلى إعادة العملية؟ لنرجئ ذلك لوقته، ولنبحث عن شيء آخر نفلت به من القلق. هل ستتأثر أنشطتي العادية؟ هل يمكنني القيادة مرة أخرى؟ هل سيؤثر على القراءة؟ لابأس فأنا بخير، حية وهنا.
أريد أن أحيا
"أنا بارع جدًّا في الابتكار الواعي لحيل نفسية للتعامل مع أي وضع كارثي، بل استخراج إيجابيات منه". مُحمد أبو الغيط.
من أكثر الأشياء الملهمة في تجربة أبو الغيط. هو محاولته الدائمة لاستغلال ما تبقى له من الوقت- وهو يعلم أنه قصير-. ليمنح نفسه وأسرته أوقاتًا ممتلئة وحية. وأيضًا محاولات أسرته الدائمة لمنحه هذه الأوقات بالرغم من الأيام الثقال والتحديات المستمرة التي يمرون بها للتعامل مع المرض.
يظهر ذلك في محاولاته المستمرة لتفعيل حيل نفسية تساعده على المرور بأكبر قدر من السلام. أو بأقل قدر من الألم النفسي. ووفقًا للموقف الذي يمر به كان يختار حيلته التي تهون عليه وقع اللحظة. ففى البداية استخدم الإنكار " يحدث للآخرين فقط" وهي إن كانت حيلة يمر بها الجميع في النوائب،لكن ذلك لا يمنع أنها تخف من حدة الموقف لحين. أحيانًا يستخدم "النسيان العمدي" وأحيان أخرى التفاؤل "كل شئ سيكون بخير"، كما جرب الغوص في اهتماماته، والعودة لأنشطته الحياتية المعتادة التي تتطلب انغماسًا باللحظة، وغيرها الكثير.
وكانت هذه الحيلة الأخيرة هي ملاذي الآمن الذي أعانني على انتظاري الطويل. انغمست في البحث عن اهتمامي الجديد الذي أهدته لي الأقدار على يد أخي. في صورة ثلاث زرعات صغيرات. ولما كانت تجاربي السابقة مع الزراعة تبوء بالفشل الزريع. انغمست دون قرار واعٍ مني في المطالعة والسؤال عن كل ما يخص الزراعة المنزلية. فهمت المبادىء الأولى، وفككت الرموز التي كانت يستعصى علي فهمها. فهل نجحت هذه المرة؟ خفف الانغماس من حدة توتري، حظيت بأوقات هادئة وحية. وهمت فرحًا مع كل ورقة جديدة تنبت. وذلك كان مؤشري للنجاح.
أثر الفراشة
"نباتاتي تساهم بأثر الفراشة في محاربة التحول المناخي والاحتباس الحراري"
ليس الانغماس والغرق في تفاصيل اللحظة وحدهما كانا الدافع وراء الأنشطة التي قرر محمد الانغماس بها في أوقات المرض.
فعندما بدأ نشاطه الزراعي المنزلي أو "رسالته الخضراء" كما أسماها، لم تكن الفكرة وليدة الأزمة. ولا لمجرد معرفته بنتائج الأبحاث التي تشير أن النشاط الزراعي يخفف من العبء النفسي والجسدي للمريض.
ولو كان ذلك جزءًا من السبب، فقد كانت نظرية "أثر الفراشة" جزءًا مهمًا أيضًا من الحكاية. فكثيرًا ما ذكر استمتاعه بالمساهمة ب"أثر الفراشة" في العديد من القضايا الكبيرة والعالمية، والتي يعرف عنها تمامًا أنها تحتاج لأكثر بكثير من المجهود الفردي. لكن بعض الأرواح الطيبة والمسؤولة لا يمكنها التخلي عن هذا الدور ولو كان ضئيلًا.
ذكرني ذلك بمشاركة قرأتها ذات يوم على "الفيس بوك" من إحدى المشاركات في مجموعة مختصة بمتابعة الزراعة. ذكرت فيها نواياها في ممارستها لهذا النشاط. وكان أهمها المشاركة في دعم قضايا البيئة والمناخ ولو بممارسة بسيطة في نطاق شرفتها. لامسني ذلك حينها، كما لامسني الآن وأنا اقرأ ل"مُحمد".
ربما لأنه تلاقى مع التغيير الذي أحدثته في تعاملي مع الحياة. فمنذ حين أصبحت أولي اهتمامًا أكبر لأثر الفراشة. أصبحت أكثر إيمانًا بالخطوات الصغيرة التي في مقدور طاقتنا وجهدنا. لا يهم أن تحدث فرقًا مدويًا، ولا يهم أن يُرى آثرها مجردًا. حتى ولم لم يكن ذلك مُرضيًا أو ذات معنى في الأوساط الاجتماعية المختلفة. الذين لا يعترفون بشيء إن لم يكن ماديًا ملموسًا.
أعداء الألم
بالرغم من أن الكاتب أفرد فصلًا للحديث عن الألم وفلسفته وكيف فكر هو فيه وتعامل معه، إلا أن الكتاب بأكمله يحمل الألم في ثناياه. فبشكل مباشر وغير مباشر يمكنك لمسه في كل تفصيلة، بنوعيه النفسي والجسدي.
حكى لنا أبو الغيط عن التساؤلات والمشاعر التي فرضها الألم عليه، وكيف تعامل معها. فتحدث عن أكثر الأسئلة شيوعًا مع الابتلاء "لماذا أنا؟"، ناقش الأجوبة الأكثر شهرة في ترديدها في مثل هذه الظروف. وبالرغم من أنه لم يصل لجوابًا يخصه، واكتفي ب"لا أعرف، ولن أعرف أبدًا". إلا أنه شاركنا بما وجدتُ فيه "الضوء"! الحب الذي إذا قُدم نقيًا صادقًا يكون شفاء! فأخبرنا عن أثر تلقي الحب والدعم عليه من أسرته وخاصة زوجته إسراء، في تخفيف مستوى الألم "حقيقة لا مجاز" كما ذكر ، "فالحب عدو الألم". وعن الرحمة النابعة من الإحساس بالأخر ووضع نفسك محله، ولو كان عدوًا. فما بالك لو كان صديقًا، قريبًا أوحبيبًا. "فالرحمة عدوة الألم". ولا يستلزم تفعيل هاتين القاعدتين أن نمر بابتلاء ضخم، فالحياة أقصر وأقسى من أن نقضيها في جفاء بين قلوب فظة.
من يعيد الزمن للخلف؟!
لم تكن تجربة الألم الأولى التي مر بها أبو الغيط هي تجربة السرطان، فلقد عانى قبل ذلك من تجربة ألم مزمن، لم يصل فيها الأطباء إلى تشخيص محدد. غير احتمالية أن يكون مصدر هذه الآلام نفس جسدية "psychosomatic". ويبدو ذلك منطقيًا! فكما يقول روبرت سابولسكي "أجسادنا لا تستجيب للكرب فقط بحدوثه، ولكن بتخيله وتوقعه أيضًا". وكنت قد قرأت من قبل عن الدراسات التي تثبت أن التعرض للمواد الإعلامية التي تحمل أحداث مؤلمة، يتعامل معها الجسد بطريقة تشبه تعامله مع الصدمات "Trauma "التي يمر بها الشخص في الحقيقة. فهل يكون ذلك ما حدث مع أبو الغيط؟ ربما، فقد ذكر أن بداية ظهور هذا الألم كان بعد عمله لفترة طويلة على سيناريو فيلم "أسلحة اليمن"، الذي أظن أنه استلزم كباقي عمله أن يكون متعرضًا لقدر كاف من الحقائق السيئة!
ذكرني ذلك بالفترة التي بدأت فيها آلام جسدي الغير مبررة أيضًا في الظهور، كنت أتعرض حينها لضغط نفسي بقدر أكبر من قدرتي على التعامل معه . على الصعيد الشخصي كنت مازلت غضة، لم أضع بعد سخافات البشر في الحسبان. وعلى الصعيد العام، كنت أتورط نفسيًا مع كل حدث، ولو كان في أقاصي البلاد.
أرجع أبو الغيط سبب آلامه إلى عدد الساعات التي قضاها في وضعية جلوس خاطئة،وبالفعل قد تكون عاملًا.. لكن إن كان لن يفيدنا الآن معرفة السبب. فقد يفيدنا ما توصل إليه بسبب هذا الألم. وهو أن حتى التقدم في العمل لا يستحق أن ندفع له ثمن غال كهذا من صحتنا.
"لو كان ثمن صحتي هو خطوات كبيرة للخلف في حياتي المهنية لدفعته دون تردد، ولكن من يعيد الزمن للخلف؟" محمد أبو الغيط.
أما بالنسبة لي، فتعلمت أنه لا ينبغي لحدث ما أن يبتلعني، واتخذت من "هونًا ما" سبيلًا، عرفت أن الأحوال دائما في تقلب. وأن لطف الله ورحمته تشمل الجميع. كلنا نسير في أقدار الله في دنيا زائلة. والأهم أنها ليست نهاية المطاف!
هذا ما عرفته، لكن هل أستطعت فعلًا الامتثال لما عرفت؟ لم أنجح تمامًا ولم أفشل تمامًا، لكنني أُحاول!
أنا قادم أيها الضوء
"لو وافاني القدر، ورحلت في الوقت الذي قدره الأطباء، فإني أرجو أن يكون ما بعد نفقي نورًا وهدوءًا وأمنًا، وأن يكون في هذا الكتاب ما قد ينقب ولو ثغرة واحدة، ليمر منها بعض الضوء إلى من يقرأ"
حاولت في هذه التدوينة النظر في اللطائف، وألتمس الأفكار التي وجد فيها بعض من السلام والرحمة في التجربة الأليمة التي مر بها، بغير تكثيف لجرعات الألم التي تقابلك مع تفصيلة. ليس ذلك رغبة مني في تقليل قدر المعاناة. فأعرف جيدًا ما يفعله الألم بالإنسان، فأقول كما قال "بعض المشاعر تعجز عنها الكلمات، منها ذروة الحب وذروة الألم".
ولا رغبة في إختزال المرض في صورة أكثر رومانسية. فأقول أيضًا كما قال "الألم بشع، الألم مأساة" و"الألم لا يستحق أي احتفاء في الأشعار والأغاني".
لكني اخترت الكتابة عن بعض ما وجدت فيه ضوءًا لي، وربما عندما تقرأه بنفسك، تجد ضوءًا في محل آخر.
وأخيرًا، لقد مسنا الضوء الذي أشرت إليه يا مُحمد، فأتمنى وأدعو أن تكون وجدته في مثواك الأخير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.