نعلمُ أن الدعوة النبوية قد قسمت إلى قسمين منذ تكليف رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بالوحي والرسالة؛ ففي الفترة المكية عانى المسلمون من التضييق عليهم في دعوتهم وحياتهم، وواجهوا تعذيباً وتنكيلاً وسخرية وحقداً دفيناً، بل بلغ الحال بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أن تعرض هو الآخر للسخرية والتنكيل من قومه الأقربين والأبعدين؛ حين ألقى عليه عقبة بن معيط وآخرون أحشاء البعير وكرشه حين كان يُصلي في جوف الكعبة في يوم من الأيام، وجموع قريش تنظر من بعيد وتضحك من رسول الله، حتى دعا عليهم بالاسم، وقد نالتهم دعواته -صلى الله عليه وسلم- بالشقاء والموت.
وإزاء هذه المواجهات؛ اضطر قسم كبير من الصحابة إلى الهجرة مرتين إلى الحبشة في سنوات البعثة الأولى خوفاً على أنفسهم وأهليهم من مكر قريش، وعذابها، حيث مات نفر من ضعفاء الصحابة تحت يد الغدر والتعذيب مثل آل ياسر -رضوان الله عليهم-، وتعرض النبي وأصحابه إلى الحصار الاقتصادي الشديد في شِعب أبي طالب طوال سنوات حتى كانوا يأكلون أوراق الشجر وجلد الدواب، ويعقدون على بطونهم الحصى من شدّة الجوع، وحصار المشركين.
الهجرة إلى المدينة وتأسيس الدولة
وفي نهاية المطاف وحين يئس رسول الله أن يسعفه قومه، أو يؤمنوا بدعوته، أو حتى يتركوه وشأنه، شرع يتوجّه إلى القبائل وأمصار العرب لعلّ حيّاً منها ينصره، ويجيب دعوته، ويعضّد قوته، فيظهر على المناوئين له، فاتجه إلى ثقيف في الطائف وقد لاقى فيها من الظلم وسوء المقابلة ما لاقى حتى شُجّت قدماه الشريفتان، ونزل عليه جبريل يُسلّيه، ويخبره بأنه إن دعا عليهم لأطبق عليهم الأخشبين؛ ولكن رحمة رسول الله الغالبة التي نظرت إلى حُجب الزمان، كانت أسبق من العقوبة والدعوة عليهم؛ فلعل الله أن يخرج من أصلابهم من يؤمنون به، ويقيمون دين الله، وقد صدقت فراسة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفأله الحسن.
وقد شاء الله أن يؤمن الأنصارُ أهل يثرب بالإسلام في نفر قليل، ثم أرسل معهم رسول الله أول سفير في الإسلام مصعب بن عمير كي يعلّمهم أصول دينهم الجديد، ويفهّمهم كتاب الله، ودعوة الإسلام وغايته، فانتشرت الدعوة، وكثُرت أعداد الأوس والخزرج الذين جاءوا وبايعوا رسول الله، ثم هاجر إليهم واستقر بين ظهرانيهم، وبدأت مرحلة جديدة هي المرحلة المدنية التي اختلفت عن سابقتها في مكة المكرمة.
ففي هذه المرحلة التي أصبح للإسلام فيها دولة، لها قائد وأتباع وجُند مخلصون، كان التحدي الأول مواجهة العوائق والحوائل التي تقف دون نشره، ولا تُخلّي بينه وبين الناس بالحسنى، وبالكلمة الطيبة، والدعوة الحسنة، فشُرع الجهاد في هذه المرحلة كما يقول العلامة أكرم ضياء العُمري في كتابه "السيرة النبوية الصحيحة"، لماذا؟ "لإقامة نظام عادل يلتزمُ بأحكام الشريعة ويسعى لتحقيق أهداف الإسلام في المعمورة، ولم يُشرع الجهاد في الإسلام في العهد المكي، بل أمر المسلمون بألا يواجهوا المشركين بالقوة وألا يحملوا السلاح في وجوههم… فلو واجهت الدعوة آنذاك المشركين بالسيف؛ فإنهم يجتثّونها، ويقضون عليها من أول الأمر".
ويستدرك العُمري قوله: "فلما هاجر المسلمون إلى المدينة، وآزر الأنصارُ دعوة الإسلام، وصارت للمسلمين أرض يمتلكون السيادة عليها شرع الله تعالى الجهاد، وكان الإذن بالقتال دفاعاً عن النفس أولى المراحل، ثم أُمر المسلمون بالقتال دفاعاً عن النفس والعقيدة… وكانت هذه هي المرحلة الثانية في تشريع الجهاد".
وهكذا بدأت المواجهة في المرحلة المدنية تأخذ طابعاً مختلفاً تماماً عن طابع المرحلة المكية التي اكتفت بالدعوة السرية، ثم الدعوة بالكلمة، والحض على الصبر والإيمان والتوحيد؛ إذ سيشرع النبي -صلى الله عليه وسلم- القائد الجديد للدولة الوليدة في تحديد أهداف المرحلة، وهي ضرب قريش في أهم خواصرها، وهو الاقتصاد الذي تقوم عليه شهرة قريش، ومكانتها وثرواتها، ومحاولة تعويض الخسارة التي لحقت المهاجرين إزاء تركهم لأموالهم وأراضيهم وثرواتهم وبيوتهم للكافرين كي يسمحوا لهم بالهجرة والخروج إلى المدينة.
سرية سيف البحر.. دابة يأكل الصحابة منها شهراً!
فبدأت الغزوات والمعارك النبوية، مثل غزوة بدر ثم أحد والخندق، وحروبه ضد اليهود في خيبر وقينقاع والنضير، ثم المواجهة الأكبر ضد قريش التي استمرت بعد الخندق وحتى صلح الحديبية وحتى فتح مكة، وبين هذه الغزوات والمعارك الكبرى التي كانت تستلزم تعبئة شاملة لكل المسلمين، كانت سراياه إلى قبائل وأحياء العرب لا تتوقف؛ لتأديبهم وردعهم عن دعم قريش أو لكف أيديهم عن مهاجمة المسلمين ومصالحهم.
والسرايا مفردها السَّرية، وهي كما يقول ابن منظور في "لسان العرب" ما بين خمسة أنفسٍ إلى ثلاثمائة، وقيل: هي من الخيل نحو أربعمائة، وكانت قطعة أو جزءاً من الجيش، وسُميت السرية بذلك لأنها غالباً ما كانت تسري وتتجه إلى مقصدها ليلاً في خُفيةٍ لئلا يحتاط منهم العدو فيحذرون أو يمتنعون. ومنذ العام الأول من الهجرة انطلقت سرايا الإسلام نحو قريش وحلفائها من العرب ممن أعلنوا عداوتهم للإسلام والمسلمين.
ومن جملة هذه السرايا سريتان باسم "سيف البحر"، الأولى كانت بقيادة أسد الله حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عم الرسول، في العام الأول من الهجرة، لاعتراض قافلة من قريش كانت تتخذ طريق ساحل البحر الأحمر في أرض كانت تقع ضمن سيطرة بني جُهينة، والسرية الثانية كانت بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح -رضي الله عنه- إلى ذات المنطقة من أرض جُهينة، وقد اختلف كُتّاب السيرة، والمؤرخون في تحديد تاريخها؛ فمنهم من ذكر أنها كانت في حدود عام 8 من الهجرة لاعتراض قافلة لقريش، ولكن يرجّح العلامة ابن حجر العسقلاني أنها كانت قبل صُلح الحديبية في أواخر عام 6 من الهجرة؛ لأن صلح الحديبية قد فرض الهدنة بين الفريقين.
وهدف هذه السرية كما تبين لنا مصادر التاريخ الإسلامي المبكر في عصر النبوة، تمثّل في اعتراض عير أو قافلة لقريش، وفرض السيادة الإسلامية على مناطق جُهينة على ساحل البحر الأحمر على بُعد خمس ليال من المدينة النبوية، واللافت أن حالة من العوز الشديد قد أصابت المسلمين في هذه السرية، لدرجة اضطروا معها إلى أكل أوراق الشجر؛ إذ لم يجد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أي مدد غذائي يعينهم على أداء هذه المهمة سوى "جِرابٍ من تمر" لا يُتصوّر أن يكفي ثلاثمائة رجل في الذهاب والإياب، ولكن رحمة الله قد أدركتهم في نهاية المطاف.
وقد روى خبر هذه السرية جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، وذكرها الإمام مسلم في صحيحه، حيث قال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَتَلَقَّى عِيراً لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَاباً مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، قَالَ: فَقُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قَالَ: نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ، وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ، قَالَ: وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْراً وَنَحْنُ ثَلَاثُمِئَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ (حفرة عينه) بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ (القطع الكبيرة) كَالثَّوْرِ، أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ، فَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعاً مِنْ أَضْلَاعِهِ فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا، فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ (لحم مقدّد لا يتعرض للعفونة)، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا؟"، قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُ فَأَكَلَهُ".
وهذه الرواية تكشف لنا عدة أمور؛ أولها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أحسن اختيار القائد الذي استغل ضعف الإمكانيات لصالح إتمام المهمة، وتوزيع الأنصبة على الجنود بالتساوي "تمرة تمرة"، رغم قلة الزاد، وطول المسير، والثاني عِظم هذا الحوت الذي ربما يكون أضخم من الحيتان المعروفة في يومنا هذا؛ فقد أفاض عليهم من لحمه وشحمه طوال شهر كامل، وأخذوا منه قديداً إلى المدينة المنورة حتى أهدوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- منها، والأمر الأخير أنه رغم ضعف هذه الإمكانيات فقد حرص الصحابة على تنفيذ أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتحقيق الأهداف العليا للدولة الإسلامية الوليدة، وهي محاربة المناوئين من قريش، وردع المخالفين من قبائل جُهينة، وبسط النفوذ حتى على المناطق البعيدة عن المدينة ولو كانت مسيرة أيام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.