وقّعت بريطانيا واليابان في 11 يناير الجاري اتفاقية دفاعية خلال زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى لندن، تسمح للبلدين بنشر قوات على أراضي كل منهما، وعلق رئيس وزراء بريطانيا على الاتفاق قائلاً إنه مهم لتعزيز التزام بلاده تجاه منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
تلك الاتفاقية المشار إليها، تشرح أبعادها كل من استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في أكتوبر 2022، واستراتيجية الأمن القومي اليابانية الصادرة بعد نظيرتها الأمريكية بشهرين، حيث تتماثلان في توصيف الواقع والتهديدات وتقديم توصيات عملية بذات المضامين.
أشارت الاستراتيجية الأمريكية إلى أن منطقة المحيط "الهندي – الهادئ" التي تمتد من الساحل الغربي لأمريكا إلى سواحل شرق إفريقيا، تمثل أهمية كبيرة في النمو الاقتصادي العالمي، وأنها أكثر منطقة مهمة عالمياً حالياً للأمريكيين، وأن المنافسة فيها مع الصين خلال السنوات العشر المقبلة ستكون حاسمة في تشكيل النظام الدولي.
أما الاستراتيجية اليابانية، فأشارت إلى أن الهجوم الروسي على أوكرانيا خرق أسس قواعد النظام الدولي، وأنه لا يمكن استبعاد احتمال نشوء وضع مماثل مستقبلاً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وبالتحديد في شرق آسيا. كما أشارت إلى أن العالم يعيش في نقطة انعطاف تاريخية، وأن اليابان تواجه البيئة الأمنية الأشد والأكثر تعقيداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالأخص في منطقة المحيطين الهندي والهادئ التي تتعرض فيها اليابان لتهديدات أحادية الجانب في بحري الصين الشرقي والجنوبي.
اتفقت واشنطن وطوكيو، وكذلك لندن تبعاً لحليفها الأمريكي على تحديد بؤرة الصراع الأكثر خطورة، كما اتفقوا أيضاً على تحديد التهديدات الأكثر إلحاحاً، وفي مقدمتها الصين، فالاستراتيجية الأمريكية تشير إلى أن الصين هي التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية بالنسبة لأمريكا، حيث تمثل بكين المنافس الوحيد الذي يعتزم إعادة تشكيل النظام الدولي بالتزامن مع امتلاكه قدرات متزايدة على المستويات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية تمكنه من تحقيق هذا الهدف، كما أشارت إلى أن روسيا تمثل تهديداً فورياً ومستمراً لنظام الأمن الإقليمي في أوروبا، وأنها مصدر للاضطراب وعدم الاستقرار على مستوى العالم، لكنها تفتقر إلى قدرات الصين.
فيما أشارت الاستراتيجية اليابانية إلى أن الصين تكثف أنشطتها العسكرية التي تؤثر على الأمن القومي لليابان في بحر اليابان والمحيط الهادئ، كما أن بكين تعزز علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا وتحاول تحدي النظام الدولي، وأشارت أيضاً إلى أن موسكو تكثف أنشطتها العسكرية في محيط اليابان، وبالأخص في بحر أوخوتسك الذي تمرح فيه الغواصات النووية الاستراتيجية الروسية، وبالتالي أكدت الاستراتيجية اليابانية أن طوكيو ستعارض بشدة محاولات الصين المتزايدة لتغيير الوضع الراهن بالقوة من جانب واحد، وتعهدت بضمان حرية الملاحة والتحليق الجوي في بحر الصين الجنوبي، ومنع روسيا من اتخاذ إجراءات تقوض سلام المجتمع الدولي واستقراره.
تحالفات لمجابهة التهديدات
في مواجهة التهديد الصيني الروسي، تؤكد الاستراتيجية الأمريكية على تعزيز التحالفات الجماعية والثنائية، مثل "التحالف الرباعي" الذي يجمع أمريكا واليابان مع الهند وأستراليا، وتحالف العيون الخمسة الاستخباري، الذي يجمع أستراليا وكندا ونيوزيلندا وأمريكا وبريطانيا، والشراكة الأمنية الثلاثية بين أمريكا وأستراليا وبريطانيا التي تجلت في اتفاق أوكوس. أما الاستراتيجية اليابانية فأكدت على تعزيز التحالف مع أمريكا، وبالأخص في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتعميق "التحالف الرباعي" المشار له سابقاً، وتقوية الروابط مع كوريا الجنوبية وكندا وبريطانيا وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
وضمن ذلك جاء توقيع الاتفاق الدفاعي الياباني مع بريطانيا مؤخراً، والذي يعزز من عمليات التدريب والتمارين المشتركة، والتعاون في مجال الصناعات العسكرية والتكنولوجيا، والاستقبال المتبادل للسفن والطائرات.
صعود سباق التسلح العالمي
تدشين سباق تسلح عالمي على خلفية تزايد وتيرة التنافس بين القوى الكبرى انعكس على زيادة حجم الإنفاق العسكري بشكل غير مسبوق، فالكونغرس وافق في ديسمبر الماضي على موازنة عسكرية أمريكية بقيمة 858 مليار دولار بزيادة بمقدار 45 مليار دولار عن المبلغ الذي طلبته إدارة بايدن، وكذلك بزيادة 10% عن الموازنة العسكرية لعام 2022.
وكان من اللافت في موازنة 2023 تخصيص 7 مليارات دولار لتمويل مبادرة الردع الأمريكية في المحيط الهادئ، والسماح بشراء 21 سفينة جديدة بدلاً من 15 سفينة طلبها البنتاغون، وحظر وقف تشغيل عشرات السفن الحربية الأخرى، وتخصيص 10 مليارات دولار على مدى 5 سنوات في شكل منح لتايوان لاستخدامها في شراء معدات عسكرية أمريكية الصنع، وتزويد قائد سلاح مشاة البحرية الأمريكية بالسفن والموارد اللازمة لتمكينه من خيارات الدخول القسري إلى المحيطين الهندي والهادئ، ومراجعة العمليات اللوجستية والقواعد العسكرية في المحيط الهادئ لضمان أن القوات الأمريكية جاهزة للقتال، ولديها الأدوات التي تحتاجها للفوز في المعركة. وذلك مع العلم أن واشنطن لديها 24 قاعدة عسكرية في منطقة المحيط الهادئ- الهندي، وتنشر بها نحو 370 ألف جندي أمريكي.
أما اليابان، فأعلنت عزمها الوصول بإنفاقها العسكري إلى 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، وتوجهها نحو تطوير صناعاتها العسكرية، وقدراتها الدفاعية الصاروخية، وتأمين الذخائر والوقود الكافي، فضلاً عن شروعها في التدريب على عمليات إجلاء فوري للسكان من المنطقة الجنوبية الغربية، وتعديل تحويل هيكل إمداداتها الغذائية بحيث تعمل على تأمين الإنتاج المحلي للأصناف والمواد التي تعتمد فيها حالياً بشكل كبير على الدول الأجنبية.
إن زيادة الإنفاق العسكري الأمريكي والياباني سيدفع الصين في المقابل إلى زيادة إنفاقها العسكري الذي تجاوز حالياً 230 مليار دولار سنوياً في مواجهة حالة الحصار التي يراد نصبها حولها بهدف ردعها وكبح صعودها، وهو ما يتزامن مع سباق التسلح المتسارع في أوروبا منذ بداية الحرب في أوكرانيا، والذي تجلى في إعلان برلين تخصيص صندوق بقيمة 100 مليار يورو لتعزيز تسليح الجيش الألماني، وإعلان فرنسا في استراتيجيتها للأمن القومي المنشورة في نوفمبر 2022 عزمها الإعداد لاقتصاد الحرب، وزيادة مرونة الشركات الصناعية الفرنسية على تحويل خطوط إنتاجها إلى صناعات عسكرية حال طلب ذلك منها، وإعداد الشعب الفرنسي نفسياً لاحتمال تكبد خسائر كبيرة حال اندلاع قتال واسع النطاق.
التداعيات والآثار
إن تصاعد الإنفاق العسكري عالمياً، وانخراط الدول الكبرى في سباق تسلح، سيعقد المشهد الدولي أكثر مما هو حالياً، حيث سيزداد التوتر السياسي بين الدول – مؤخراً أدانت الصين تعليق اليابان منح تأشيرات للصينيين بحجة انتشار كورونا- وستوجه الموارد للعسكرة بدلاً من الاقتصاد والصحة والتعليم والرفاه الاجتماعي، وبالتالي سترتفع أسعار الوقود وشحن البضائع في ظل زيادة المخاطر، وستلجأ الدول الغنية لتعزيز اكتفائها المحلي في المجالات الصناعية والزراعية، وستعيد فتح مصانع شركاتها على أراضيها تخوفاً من انقطاع الإمدادات وخطوط النقل حال اندلاع حرب، وهو ما سينعكس سلباً على اقتصاديات الدول الفقيرة، مثلما هو الحال في مصر وتونس حالياً، مما يعني زيادة احتمالات الاضطرابات المجتمعية في العديد من الدول الهشة والضعيفة وغير الديمقراطية.
يبدو أن فترات صعبة بانتظار البشرية خلال السنوات القادمة، فالدول الكبرى تشحذ أسلحتها، وتهيئ شعوبها لحقبة حروب دامية ظن البعض أنها أصبحت من الماضي مع انتهاء الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة، لكن أزمة كورونا، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، سرّعا من وتيرة انتهاء عصر السلام الدولي، ولذا تراجع حضور ملف "الحرب على الإرهاب" لصالح الحرب بين أصحاب الأقدام الثقيلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.