في زمن التطبيع أصبح الحديث عن دعم القضية الفلسطينية أشبه بالسباحة عكس التيار، وعند الحديث عن دعم الشعب الفلسطيني لابد من استحضار التشيلي، تلك الدولة الصغيرة الموجودة في أمريكا اللاتينية، والتي قدمت منذ سنوات طويلة دعماً للشعب الفلسطيني؛ حيث أصبحت فلسطين قضية للسياسيين التشيليين من كِلا الحزبين: الاشتراكيين العلنيين والمتعاونين السابقين مع الديكتاتور العسكري اليميني أوغستو بينوشيه، وصولاً إلى غابرييل بوريك ذي الـ36 عاماً المنتمي إلى الحزب الشيوعي، والذي أصبح أصغر رئيس في تاريخ التشيلي، والمعروف بنقده لإسرائيل منذ أن كان نائباً في البرلمان، حين أيد مشروع قانون يقترح مقاطعة البضائع الإسرائيلية من المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة ومرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل.
معتبرة بذلك إسرائيل دولة فصل عنصري، على الرغم من أن تشيلي ليست دولة عربية، وبوريك ليس حاكماً عربياً، إلا أنها اختارت أن تكون في جهة فلسطين.
اللافت في مجريات هذا الدعم أنه يأتي في صورة لم نعتد عليها سابقاً، في ظل تطورات غيرت معالم السياسات المنتهجة تجاه القضية الفلسطينية، فعلى مدار السنوات الماضية لم تتأخر التشيلي في إظهار مواقفها المشرفة، والتي كان آخرها تعهدها برفع مستوى تمثيلها في الأراضي الفلسطينية إلى سفارة، وهو الموقف الذي يحمل دلالات سياسية بالغة الأهمية، ما يعني أن التمثيل الدبلوماسي لدولة التشيلي في فلسطين سيكون بشكل رسمي، من جهة أخرى ينظر الفلسطينيون إلى قرارات فتح سفارات الدول في رام الله بأهمية كبيرة، حيث يعتبرونها تعزيزاً لحقهم في إقامة دولة فلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهي الخطوة التي لم تتجرأ دول عربية قريبة عن اتخاذها، في حين تتهافت بعضها إلى التطبيع مع الاحتلال، وتتراقص على أوجاع الشعب الفلسطيني، رغم قرب المسافات، وتقاسم الهوية العربية والقومية، إلا أن ذلك لم يكن كافياً للوقوف في صف فلسطين ونصرتها.
ربما يقول أحد إن نظرية دعم القضية الفلسطينية من التشيلي لم تكن بنية صافية، فالضرورات السياسية ومتطلباتها تلزم أحياناً أخذ طريق مغاير، فيما يقول آخر إن الدفاع عن فلسطين ضروري، فنسبة الفلسطينيين في التشيلي ليست قليلة؛ إذ تستضيف هذه الأخيرة أكثر من 400 ألف مهاجر فلسطيني حطت بهم الأقدار وطغيان الاحتلال وتهجيره لهم على الأراضي التشيلية.
الإجابة عن النظرية الأولى تلزم علينا الأخذ بعين الاعتبار تاريخ دعم التشيلي للقضية الفلسطينية، والذي برز منذ اعتراف هذه الأخيرة بفلسطين كدولة ذات أبعاد وسيادة سنة 2011، وغيرها من المواقف التي تبنتها في ذلك، وصولاً إلى رفض الرئيس التشيلي غابرييل بوريك منذ أشهر تسلم أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد، رغم وصوله إلى الموقع المخصص لمراسم اعتماده، ليضرب بذلك كل البروتوكولات الدبلوماسية عرض الحائط، ويقدم صفعة قاسية على وجه الاحتلال، هذا الموقف الذي تصدر العديد من عناوين أكبر الصحف والمحطات العالمية بالصوت والصورة، كان كفيلاً بإدخالها في مشاكل دبلوماسية مع دولة الاحتلال، أي إنها لم تستفد من دعمها لفلسطين شيئاً، ما يثبت أن دعم القضية الفلسطينية مبدأ تتبناه السياسة التشيلية وتعمل به.
في سياق آخر فقد اشتهرت الاتجاهات اليسارية (الحاكمة الآن في الشيلي) بنصرة القضايا التحررية عبر العالم، ونبذ سيطرة الإمبريالية الأمريكية الداعمة للدول المستعمرة في كل مجريات الحياة، ما يفسر لنا السبب الحقيقي وراء الدعم المستميت من الحكومات اليسارية التي حكمت التشيلي لفلسطين وقضيتها، من جهة أخرى وللإجابة عن النظرية الثانية، وبمعادلة رياضية بسيطة يمكن من خلالها معرفة أن نسبة الفلسطينيين المقيمين في دولة التشيلي لا تتعدى 2% من مجمل السكان البالغ عددهم 19 مليوناً، وهي نسبة قليلة جداً لأن تتخذ كمرجع لدعم قضية كاملة، أو تؤثر في انتخابات بحجم الانتخابات الرئاسية.
ربما لا تملك التشيلي مكاناً ومركزاً قوياً في الساحة الدبلوماسية والسياسية العالمية، ولا تقدم ذلك الدعم المالي الكبير للفلسطينيين، إلا أن دعمها المستمر للقضية الفلسطينية وحده يعطي الأمل للشعب الفلسطيني بوجود مناصر في قضيتهم، رغم خناجر التطبيع والمنساقين وراء الاتفاق الإبراهيمي، الذين خانوا العهد والأمانة، وأن الدعم مهما كان فيبقى مهماً، وهو ما يفسر تطبيع الاحتلال للعلاقات حتى مع دول تكاد تكون غائبة كإريتريا والتشاد، فقط لأنها تعي أن أي دعم يمكن أن يخدم مصالحها.
ما يمكن قوله من كل هذا إن الوقت قد حان للاستفاقة من وهم التطبيع ومراجعة الحسابات والمواقف، وإرجاع القضية الفلسطينية لمسارها الصحيح، ورمي كل الاتفاقيات المكتوبة بدماء شهداء فلسطين في مزبلة التاريخ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.