"كام سعر الدولار اليوم؟"
هو السؤال الذي أصبح تقليدياً ويردده عموم المصريين باختلاف طبقاتهم الاجتماعية والشرائح التي ينتمون لها، ويحتل أعلى قائمة الموضوعات التي يبحث عنها المصريون عبر محركات البحث جوجل، بالإضافة إلى الحديث المستمر عنه في وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يعد الأمر مقتصراً على المتخصصين من رجال الأعمال او المستثمرين مثلما كان في السابق.
ومنذ قيام البنك المركزي المصري في 5 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016 بخفض قيمة العملة، عندها وجد المصريون في ظرف ساعات قيمة الجنيه المصري تنهار أمام الدولار، وبعد أن كان قيمة الدولار 8.86 جنيه قبل التعويم، ارتفع بشكل متسارع ليصل إلى قرابة 20 جنيهاً. وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم خلال الأيام القليلة التي تلت قرار التعويم لتصل إلى نحو 35%. وأحدث الأمر صدمة هائلة تمثلت في فقدان معظم المصريين قيمة مدخراتهم وانخفاض قيمة الدخل الأساسي إلى مستويات متدنية.
ولا يمكن للأرقام والإحصاءات وحدها أن تصور كارثية قرارات السياسة النقدية، وتأثيرها على تردي الأوضاع المعيشية للمصريين. ومنذ هذا الحدث الذي يتذكره المصريون جيداً، ويعدونه كلحظة مفصلية ويأخذون في مقارنة أوضاعهم المعيشية قبله كيف كانت ثم كيف أصبحت، تشكل الإدراك بالأهمية وربما الخطر الذي تجسده السياسة النقدية في مصر، وكيف أنها يمكن بقراراتها قلب حياتهم رأساً على عقب وإحداث صدمات لا تحدثها إلا الحرب.
وما كاد المواطن المصري يعتاد على هذه السياسات التي ادعت الحكومة المصرية أنها "إصلاحات اقتصادية" ضرورية ولازمة من أجل مستقبل اقتصادي أفضل. وخلال السنوات التي تلت البدء في تنفيذ هذه الإجراءات، أخذت الوعود تتجدد بتحسن الاقتصاد المصري. إلى أن بدأت الحرب الروسية مع مطلع العام الماضي، لتعاود السياسات النقدية توجيه الصدمات من جديد، بداية مارس/آذار من العام الماضي 2022، عند إعلان البنك المركزي أتباع سياسة سعر صرف مرن.
وانخفض الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية بشكل غير مسبوق، وهو ما جعل العملة المصرية هي الأسوأ أداء في العالم، إذ تراجعت إلى أدنى مستوى في تاريخها، وخلال أقل من عام فقد الجنيه المصري نحو 80% من قيمته، وفي اللحظة الحالية لكتابة المقال يتم تداوله بسعر يتخطى 30 جنيهاً مقابل الدولار، مع العلم أنه أثناء البدء بالكتابة كان السعر حوالي 28 جنيهاً.
وعلى يقين من أن السعر سيرتفع بمجرد الانتهاء من الكتابة، وهكذا على المصريين أن يعتادوا متابعة الهبوط السريع لقيمة عملتهم، وتغير سعرها بين لحظة وضحاها. كما وصلت معدلات التضخم الأساسية إلى أكثر من 21%، وتقترب نسبة التضخم في أسعار الغذاء والسلع الأساسية إلى قرابة 38%.
وطوال تلك الفترة خلال الشهور الماضية كان المصريون يترقبون اجتماعات البنك المركزي بحذر وقلق شديد، ومع كل إعلان عن موعد لاجتماع جديد تكثر عادةً التكهنات عما ينتظرهم من صدمات، وتزيد التساؤلات عن الانخفاض الجديد لقيمة عملتهم وكم سيصل سعره. وبطبيعة الحال تولد نوعاً من الإدراك أو الوعي الجمعي بأن السياسة النقدية لا تعمل لصالحهم وتجري القرارات بما لا تشتهي أوضاعهم المعيشية.
ويُعد البنك المركزي هو المتحكم بالسياسة النقدية وهو المسؤول عن طباعة وإصدار النقود، وتكمن مهمته الأساسية في استقرار أسعار الصرف وإبقاء التضخم عند معدلات منخفضة، ويستخدم كل أدواته المتاحة في سبيل تحقيق ذلك. وخلال الفترة الماضية اتبع مسارين أساسيين، هما تحرير سعر صرف العملة ورفع معدلات الفائدة، ومن هنا يمكننا الانطلاق في تحليل كلا المسارين ومعرفة إذا ما كانوا يحققون الأهداف المُعلن عنها.. وهل هناك سياسات نقدية أخرى يمكن تبنيها؟
سياسة تحرير سعر الصرف
يلجأ البنك المركزي إلى تحرير سعر صرف العملة وتركه لآليات العرض والطلب عند تناقص مخزون ما يملكه من احتياطي نقدي أجنبي، وعند تقلص موارد الدولة من العملة الصعبة، وعادة ما تتبع الحكومة المصرية هذه السياسة بسبب مشروطية صندوق النقد الدولي، الذي يأمرها بالتوقف عن ضخ الدولار لدعم العملة وتحريرها بالكامل، بهدف القضاء على سعر صرف العملة في السوق السوداء وتشجيع الاستثمار الأجنبي. ولكن هل تحقق سياسة سعر الصرف المرن هذه الأهداف بالفعل؟
يجيب على هذا التساؤل المُلح الباحث الاقتصادي محمد سلطان في كتاب: "الاقتصاد المصري في القرن الحادي والعشرين"؛ حيث يعود بالزمن إلى حادثتين أساسيتين في عام 2001، وفي عام 2012، حينما قامت فيهما الحكومة المصرية بخفض سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار، ويقول: "إن ما حدث بعد ذلك هو سلسلة مستمرة من تخفيضات في سعر العملة في السوق الرسمية، وكل تخفيض يحفز المضاربات في السوق السوداء فترتفع الأسعار فيها فيضطر المركزي لخفض جديد، حتى يقلص الفجوة بين السعر الرسمي والموازي، فترتفع الأسعار في السوق الموازية، مجدداً نتيجة التخفيض الجديد في السوق الرسمية، وتستمر دائرة لهث المركزي وراء الأسعار في السوق الموازية".
ويشير الباحث إلى أن في كلتا الأزمتين استمرت الزيادة لمدة 4 سنوات. ونجد أن الأمر حدث بحذافيره خلال الازمة الحالية، كما أن ما يعرضه "سلطان" هو وصف مماثل لما نعيشه اليوم، وكأن الأزمات تعيد تكرار نفسها باستمرار، ومنذ اتباع البنك المركزي لهذه السياسة في مارس/آذار الماضي، وهو مستمر في سلسلة من التخفيضات العنيفة وغير المدروسة، استجابة للمضاربات التي تحدث في سعر صرف العملة في السوق السوداء، وفي مضاربات سوق الذهب وتجار ومستوردي السلع والمنتجات.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان بنك "غولدمان ساكس" قد لفت الأنظار إلى أن سعر الدولار في السوق السوداء في مصر مبالغاً في قيمته بسبب شح الدولار في البنوك. ويقدر الدكتور وائل النحاس المستشار الاقتصادي أن حجم تعاملات السوق السوداء داخل مصر تصل إلى 8 مليارات دولار.
هل يشجع سعر الصرف المرن الاستثمار الأجنبي؟
يستمر الباحث محمد سلطان في تحليله لسياسة تحرير سعر الصرف وإذا ما كانت تشجع الاستثمار الأجنبي كما يعلن المركزي. حيث يطرح طرحاً مغاير تماماً اعتماداً على البيانات والإحصائيات الخاصة بالبنك المركزي عن التدفقات النقدية خلال عشر سنوات، في الفترة من 2005 إلى 2015، التي تثبت أن تدفقات مصر من النقد الأجنبي تنخفض في السنوات التي يتم تحرير فيها سعر العملة، في حين تبقى مستقرة أو ترتفع في السنوات التي يستقر خلالها سعر العملة ويتدخل المركزي لدعمه وتثبيته.
وهذه التدفقات التي تنخفض تشمل بند الاستثمار المباشر وغير المباشر، وبند تحويلات المصريين العاملين في الخارج الذي يُعد أكبر موارد الدولة من العملة الأجنبية. وهو ما يجعلنا نعيد التفكير في الرأي القائل بأن انخفاض قيمة العملة يؤدي إلى ارتفاع الاستثمارات الأجنبية. وسبب ذلك أن ارتفاع سعر صرف الدولار يعني بالنسبة للمستثمر الأجنبي أنه خسر الفرق بين سعر الصرف الذي دخل به السوق وسعر الصرف الذي سيخرج به من السوق.
وهو ما انعكس على تذبذب تدفقات الاستثمار الأجنبي، وشاهدنا خروج ما يقارب 25 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية بالرغم من تحرير سعر الصرف خلال العام الماضي، ولم يجذب انخفاض الجنيه الاستثمار الأجنبي كما كانت الحكومة المصرية تأمل، باستثناء الاستحواذات التي تقوم بها الدول الخليجية على عدد من الشركات والقطاعات الاقتصادية الرابحة التي تملكها الدولة، وهو استحواذ على كيانات متواجدة وقائمة بالفعل.
رفض تنازل المصريين العاملين بالخارج عن الدولار
كما يظهر أن بند تحويلات المصريين بالخارج ينخفض عند انخفاض العملة بفعل تحريرها، وعلى الرغم من أن العملات الصعبة التي تكون في أيديهم يرتفع قيمتها أمام الجنيه المصري ومن المفترض أن يغريهم الأمر لزيادة تحويلاتهم، ولكن الأرقام والبيانات تثبت عكس ذلك. إذ يدفعهم عدم استقرار سعر صرف الجنيه المصري إلى الاحتفاظ بالعملة الصعبة لديهم أو بيعها للسوق السوداء التي تمنحهم سعر أكبر من نظيره الرسمي.
كما أن تنازل العاملين بالخارج عن الدولار للجهاز المصرفي في أوقات استقرار سعر الصرف يكون بنسبة تزيد عن 75% بينما تنخفض النسبة إلى 5% فقط عند أزمات سعر صرف العملة، ويتسرب جزء كبير من هذه التحويلات من النظام المصرفي إلى السوق السوداء عبر شركات الصرافة وتجار العملة.
ويحرمون بذلك الاقتصاد المصري من أهم موارده الدولارية التي يساعد دخولها النظام المصرفي وبقائها على دعم استقرار العملة. ونجد أن تحويلات المصريين العاملين بالخارج سجلت تراجعاً بقيمة 500 مليون دولار، في الفترة من يناير وحتى نهاية أغسطس/آب 2022 لتسجل نحو 20.9 مليار دولار، مقابل نحو 21.4 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام السابق.
ونستنتج من كل ذلك أن سياسة خفض قيمة العملة التي تتبعها السياسة النقدية، تحدث تُغذية عكسية وتؤثر بالسلب على تدفقات الدولة الدولارية من تحويلات المصريين في والاستثمار الأجنبي، وتمنح فرصة ذهبية للسوق الموازي من تجار العملة والمضاربين الذي يساهمون في تدهور الجنيه المصري، ويدفعون المركزي بعد ذلك إلى المزيد والمزيد من التخفيض.
سياسة رفع أسعار الفائدة
ننتقل إلى المسار الثاني التي تتبعه السياسة النقدية وهو رفع أسعار الفائدة، وكان البنك المركزي المصري خلال عام 2022 قد رفع أسعار الفائدة بمقدار 8 نقاط مئوية، بهدف القضاء على التضخم الآخذ في الارتفاع، ومن أجل جذب استثمارات أجنبية لأدوات الدين وأذون الخزانة الحكومية، بعد خروج نحو 20 مليار دولار من الاقتصاد المصري، عقب الأزمة الروسية الأوكرانية. كما طرح بنكا الأهلي ومصر وهما أكبر بنكين حكوميين في مصر، شهادة ادخار بفائدة 25% لمدة عام.
وعلى الرغم من أن أسعار الفائدة تحدد بشكل أساسي حجم الفوائد التي ستدفعها الدولة على ديونها الداخلية، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم ازمة الديون وزيادة حصتها وجعلها تبتلع الموازنة العامة للدولة. فلماذا إذاً يرفع البنك المركزي الفائدة بهذا الشكل العنيف برغم أنها ستزيد من مدفوعات الديون؟
غالباً ما يتم تبرير رفع أسعار الفائدة بأنها تساعد في تقليل مستوى التضخم.
فنظرياً يمكن استخدام رفع أسعار الفائدة في التأثير على الطلب الكلي (مجموع ما يطلبه المصريين من سلع وخدمات) عن طريق سحب السيولة النقدية من الأسواق وتشجيع الافراد على الادخار ووضع أموالهم في البنوك، ويؤدي ذلك إلى تقليل استهلاك السلع والمنتجات، وبالتالي يزيد المعروض عن الطلب وتنخفض الأسعار. بالإضافة إلى أن رفع أسعار الفائدة يقابله رفع أسعار الاقتراض مما يقلل الطلب على النقود وبالتبعية الطلب.
عندما يتحول رفع سعر الفائدة إلى داء
وبعد معرفة النظرية التي ترى أن رفع معدلات الفائدة يؤثر على التضخم، علينا معرفة إذا ما كان في حالة مصر الطلب الكلي هو المحرك الأساسي للتضخم بالفعل؟. تخبرنا الأزمة الحالية أن ارتفاع مستوى التضخم قد لا يكون متعلقاً بزيادة الطلب والاستهلاك على المنتجات. وقد يكون نتج عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة بفعل الحرب الروسية، ثم ارتفاع تكاليف الإنتاج والسلع المستوردة وتكدسها في الموانئ بسبب نقص العملة الأجنبية. وهو ما أدى إلى موجات تضخمية عنيفة وارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع والمنتجات.
ويمكننا إثبات صحة هذه النظرية بأن رفع أسعار الفائدة لا يعني بالضرورة خفض التضخم، بدليل عدم انخفاض مستويات التضخم بالرغم من قيام المركزي خلال الشهور الأخيرة برفع أسعار الفائدة إلى معدلات مرتفعة وغير مسبوقة، وحتى مع تحصيل بنكا مصر والأهلي الحكوميين مبلغ 750 مليار جنيه من طرح الشهادات ذات فائدة 18%، بالإضافة إلى تحصيل 155 مليار دولار في الأيام الأولى من طرح شهادة 25%. فلم يحدث كل ذلك أثراً يذكر على ارتفاع الأسعار، وعلى العكس من ذلك فهي تسير في مسار مرتفع، واستبعد صندوق النقد الدولي في الوثيقة التي نشرها مؤخراً، انحسار التضخم في مصر قبل عامين من الآن.
ومن ثم لا يجب أن نهمل الأثر السلبي الذي يحدثه رفع معدلات الفائدة على الاستثمار، حينما تدفع الاقتصاد إلى ما يسمى الركود التضخمي، والذي يعني معدلات تضخم مرتفعة تصاحبها تباطئ في النمو، لأن رفع أسعار الفائدة يعني خفض الطلب الاستثماري، وبالتالي خفض معدلات التشغيل والإنتاج لدى القطاع الخاص وزيادة البطالة بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض، ومن المتوقع أن تضطر الشركات العاملة في القطاع الخاص لخفض حجم أعمالها تحت ضغط الازمة الحالية، وربما تلجأ إلى إيداع أموالها في البنوك للاستفادة من الفائدة العالية التي تمنحها الدولة.
وإذا استطاعت الشركات الاقتراض في ظل هذه الفائدة المرتفعة، فإنها ترفع تكلفة المنتج أو السلعة على المستهلك النهائي. وبالتالي فإن رفع أسعار الفائدة يؤدي كما نرى إلى زيادة معدلات التضخم أو بقائها ضمن مستويات مرتفعة، لأنه يضعف من جانب العرض أمام الطلب مع رفع سعر هذا المعروض. وبالتالي فإن رفع معدلات الفائدة يُحدث في حالتنا تغذية عكسية ويرفع من التضخم بدلاً من خفضه. ويضغط على القطاع الخاص المتأزم بالفعل ويؤثر على الاستثمار. ويدفع الاقتصاد دفعاً إلى الدخول في حالة مزمنة من البطالة والركود.
ويرى الباحث "محمد سلطان" أن السياسة النقدية في مصر تتعامل مع أسعار الفائدة باعتباره وسيلة لتعويض الدائنين عن التضخم فقط.
وتقلل بذلك فرص تعافي الاقتصاد والسيطرة على التضخم. كما أن كل حديث عن تعافي اقتصادي غالباً سينتهي بضرورة زيادة الإنتاج، وهو ما تتجاهله السياسة النقدية المصرية عند اتباعها لهذه السياسات التي تقضي على أي أمل بالخروج من الأزمة الحالية، أما من خلال الركض خلف السوق الموازي وتخفيض الجنيه، أو رفع أسعار الفائدة وشل حركة القطاع الخاص والاستثمار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.