حينما نتحدث عن جاريث بيل، فنحن بالتأكيد نتحدث عن لاعب صنع لحظات مجيدة في عالم كرة القدم، سواء كانت هذه اللحظات لكل الفرق التي مثلها: توتنهام، ريال مدريد، أو منتخبه الوطني ويلز.
اللحظات التي هرب فيها من مارك بارترا، في ملعب ألمستايا، وسجل هدفاً تاريخياً أهدى به كأس الملك لخزائن ريال مدريد، واللحظات التي جعلته يُسجل هدفاً فارقاً في تتويج ريال مدريد بعدها بمدة وجيزة بلقبه العاشر في دوري أبطال أوروبا من قلب لشبونة.
ولم يتوقف أبداً عن مفاجأة العالم كله، كان جاريث بيل دائماً رجلاً يصنع الحدث، لدرجة أنه حل بديلاً في نهائي دوري الأبطال عام 2018 في كييف، وسجل مقصية تاريخية في مرمى لوريس كاريوس، دقيقتان فقط كانتا كافيتين لجعله يُسجل هذا الهدف التاريخي دون اعتبار لحساسية الملعب ولا الدخول في أجواء اللقاء كما يُشاع في عالم كرة القدم.
لكن المميز فيه، أنه كان ويلزياً في أشد اللحظات الصعبة، كان بإمكانه أن يختار تمثيل المنتخب الإنجليزي في فترة مراهقته، لكنه فضل أن يختار ويلز، وأن يصنع لها اسماً ويُعرّف الناس بها.
كانت ويلز معه في كل مراحله المهمة، حتى تلك، التي منح فيها ريال مدريد ألقاباً ما كانت لتأتي بدونه، في نهائي العاشرة مثلاً، بعد أن أطلق حكم اللقاء صافرة النهاية، بحث عن أقرب علم لويلز ليلتف به، ويقف أمام العالم بطلاً لأول مرة في حياته المهنية.
كانت رغبته الأولى والأخيرة أن يجد شيئاً يتفاخر به حين تنتهي مسيرته وتتلاشى للأبد؛ هذا الشيء بالتأكيد كان المنتخب الويلزي، الذي وضع بيل عليه بصمته بصورة مُلفتة للأنظار.
في البداية، كان مجرد ظهير رائع، يصنع لحظات تجعلك تبحث عنه وتهتم لمشاهدته، ومع الوقت تطورت مراكزه حالها حال بدنه، حالها حال شخصيته أيضاً.
الخجول الهادئ الذي لا يتحدث إلا بالكرة، اكتشف أن عليه أن يتغير لكي يُصبح قائداً ثورياً لبلده، هي قصة شبيهة بقصة ليونيل ميسي مع الأرجنتين، لكن الفارق هنا أن بيل هو من أراد ذلك، على عكس ميسي الذي طالبوه بالتغيير فعلاً.
ومع الوقت، تسلل هذا الشعور في نفس جاريث بيل، أدرك أن ظهوره كلاعب عظيم لا يعتمد فحسب على قدراته المبهرة، التي يتمتع بها، بل هو صورة لكل مواطن ويلزي، ونجاحاته تنعكس على الأمة الويلزية.
ويلز التي أنجبت أسماء لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة كرة القدم، استطاع بيل أن يزيحهم جميعاً ليتربع على هذا العرش، عرش الأفضل في تاريخ منتخب بلاده، وأن يصنع بويلز لحظات لم تُصنع قبله وربما لن تُصنع بعده.
واستمرت رغبته تلك طوال مسيرته، ربما لأنه في ويلز كان الآمر الناهي في كل شيء، الرجل الأول والأخير، البطل وباقي عناصر القصة، ليس لأن ويلز لا تستطيع أن تُنجب مثله، بل لأنه قرر ذلك فعلاً؛ أن ويلز ستذكره حين يغيب عنها وتُدرك مدى التأثير الذي تركه فيها.
بعد أن قادها إلى اليورو في مناسبتين، وفي أحيان كثيرة منهما كانت الأمور صعبة ومستعصية إلى أن تدخل هو، بفردياته، وفك الألغاز المُعقدة، كانت الواجهة التالية هي قطر، أن تذهب ويلز إلى كأس العالم بعد غياب لأكثر من 64 عاماً عن شمس المونديال.
وكل شيء تمناه بخصوص ويلز؛ تحقق له، وشاركت ويلز بالفعل في كأس العالم قطر 2022، لتجد نفسها في مجموعة تضم: إنجلترا، إيران وأمريكا.
قيل إن بيل حاول بشتى الطرق أن يتنازل عن نجوميته اللامعة، من أجل أن يُعلم الشباب في المنتخب الويلزي كيف تكون متواضعاً، وكان يأتي إلى التدريبات في مواعيد ربما تسبق المواعيد الأصلية لها، وكان آخر من يغادرها، فكرته كانت الإيفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه حين اختار تمثيل ويلز على حساب إنجلترا.
يوم أن تواجه المنتخبان، قال تصريحاً استفز الإنجليز وجعلهم يضحكون من شدة بلاهته: "في ويلز، يلعب الشباب بحماس ورغبة أكبر من الشباب الإنجليز؛ حباً في ويلز!"
حينما تقابلا في بطولة يورو 2016 في فرنسا، منحه القدر فرصة إثبات صحة ما قال، وكان له ما أراد، وقعت ويلز في مجموعة تضم: إنجلترا، سلوفاكيا، روسيا.
وبالفعل، تصدرت ويلز المجموعة على حساب المنتخب الإنجليزي، بل إنهم أزاحوا كل من وقف في طريقهم؛ لدرجة أنهم أقصوا المنتخب البلجيكي في ربع نهائي المسابقة؛ ليتأهلوا إلى نصف النهائي ويخرجوا على يد البرتغال.
وهو من القلائل الذين سمحوا لرياضة أخرى أن تتوغل في حياتهم، وتتساوى لديهم مع رياضته الأصلية، وكان لهذه الرياضة أن تخلق بينه وبين جماهير ريال مدريد عداءً لم ينتهِ إلى بمغادرته صفوف الفريق.
رياضة الجولف، التي يمارسها ويحبها جاريث بيل، هي الرياضة التي أزعجت ريال مدريد، لا لشيء أكثر من أنه كان يستفز بها جمهور ريال مدريد، ويضع ريال مدريد في آخر الأولويات التي يهتم لها في حياته.
ومشكلته أنه كان غريباً في إسبانيا، بعد كل ما بذله ريال مدريد من أجله ليصل إلى العاصمة، وبعد محاولات الحفاظ عليه من توتنهام في عام 2013، قوبل بصافرات استهجان على رفعه هذا العلم الذي يوحي بأنه يلعب بالولاء للأشياء التي يُحبها، واعتبر نفسه في المقابل مأجوراً في ريال مدريد!
وعلى الرغم من أنه احتاج بعض الوقت للتأقلم على الوضع في مدريد في بداياته، ومع التأهيل البدني الذي أجل عملية تقديمه إلى أن ظهر في مباراة فياريال في المادريجال حينها، إلا أنه بالفعل كان كبش فداء في بعض الأوقات للإعلام والصحافة الإسبانية.
لم يمتلك ريال مدريد قواماً مثالياً بالكامل من حيث الانضباط والسلوك خلال فترة بيل، بعض اللاعبين الإسبان فعلوا أكثر مما فعل بيل، لكنهم كانوا محميين أكثر وكانت سهام الانتقاد تُوجه إليه كونه غريباً عن هذا البلد!
هو بدوره كان جافاً للغاية، طوال مدة تواجده في إسبانيا أظهر للإعلام والصحافة أنه لا يُجيد الإسبانية، ولا يرغب في تعلمها، لكن قائد الفريق، سيرجيو راموس، قال إنه يفهم زملاءه ويتحدث معهم بها، كأنه يكيد الإعلام والصحافة لا أكثر ولا أقل.
وما زاد الطين بلة، أنه كان يتواجد في المباريات بغرض التواجد في كثير من الأحيان، لا يجد شيئاً يفعله في المنزل فيذهب إلى ملعب المباراة، وينام على دكة البدلاء إذا لم يحل بديلاً أو لم يشارك أساسياً بها!
وحين يشعر بالملل، كان يغادر الملعب حتى قبل انتهاء الوقت الأصلي للمباراة، وفي بعض المباريات كان يتغيب عن اللقاء بحجة الإصابة لكن التقارير التي تُنشر فيما بعد تُثبت أنه لم يكن مصاباً، هو فقط لم يكن بحالة مزاجية جيدة للمشاركة.
ورغم أن شراكته الناجحة مع ريال مدريد أثمرت أربعة ألقاب في دوري أبطال أوروبا، وهو ما بحث عنه ريال مدريد منذ طرح فكرة التعاقد معه لينضم إلى خط هجومي يضم كريم بنزيما وكريستيانو رونالدو، إلا أن جاريث بيل تصرف على نحو كأنه مجرد ورقة في قائمة طويلة، تصرف على أنه مجرد غريب ستنتهي فترة إقامته عما قريب لذلك ليس عليه أن يفعل أي شيء لأي شخص!
ربما كان بيل محط انتقادات كثيرة في مدريد، لكنه حجز مقعداً لنفسه في كتيبة صنعت التاريخ تحت لواء نفس النادي، وكان هو الذي يحمل خِتم إتمام بعض العمليات المعقدة في فترة تواجده تلك، لكن الأهم بالنسبة له، أنه وضع ويلز على خريطة الكرة العالمية، وجعل الناس ينظرون إليها على أنها قادرة على إنجاب أمثلة يمكنها أن تُغير فكرة أن ويلز مجرد بقعة على الخريطة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.