أيقظني صوت الهاتف الأرضي، الذي يرن بإلحاح، تباطأت على أمل أن يتوقف، ثم نزعت نفسي من فراشي، وسرت بتثاقل، وتوجهت للرد عليه، رفعت السماعة ليقول لي أحدهم بلا مقدمات: "عظَّم الله أجركم في والدكم فضيل بيك العظم…".
– "ماذا تقول؟!"، "هل أنت متأكد أنه والدي أنا؟! بالأمس كان بخير!".
اعتذر وأبدى تعاطفه وتأثره، وأَكَّدَ: "نعم هو".
لم أعد قادرة على الوقوف، أو الجواب، فجلست وقد ارتفعت دقات قلبي، ورجفت أطرافي، وأجهشت بالبكاء، وأختنق صوتي، وبالكاد استطعت شكره لإخباري ولتعزيته لي، وأغلقت الهاتف، ولفَّني الأسى والانقباض، يا الله، ما أقسى وأشد الفراق!.
كانت صدمة كبيرة، إذ لم يكن والدي مريضاً، وليس به أي علة- سوى الكِبَر- فكان بخير وصحة وعافية، يقوم، ويمشي، ويخرج من البيت بنشاط مقبول، وكان يحب الحياة، ويدعو الله أن يطيل عمره ويحسن عمله، ولعله قد استجاب له؛ فتوفّي محسناً وقد بلغ التسعين، حيث دخل لينام ثم لم يستيقظ بعدها أبداً، وكان ذلك قبل تسع سنوات، مساء 7 يناير/كانون الثاني 2014.
توالت عليَّ الاتصالات والتعازي، على أني اعتذرت عن الاستقبال في بيتي، وآثرت الهدوء مع نفسي، والسرحان مع شريط الذكريات، وكنت خلالها أفكر ماذا أفعل، وأنا في جدة، وهو في دمشق، ولم أره منذ ثلاث سنوات؟ فلم يكن هناك أحد مؤتمناً لكي يقوم باللازم… وكم تألمت لأنهم لم يستجيبوا لرجائي، ولم يدفنوه في مقبرة العائلة، ثم أضاعوا وأخفوا للأبد كل متعلقاته المهمة، من وثائق مهمة وأوراق ثمينة وأموال كثيرة.
رحم الله والدي وأحسن إليه وأكرم نزله، فهناك أشخاص في هذه الحياة مميزون ولديهم نبوغ، ولكنهم لم يشتهروا، ولم يعلم بهم إلا المقربون، منهم أبي الذي كان حريصاً على كسب دنياه وآخرته.
ولقد أُمرنا أن نذكر محاسن موتانا، على أن والدي كان حقاً تقياً، بشهادة كل من عرفه، واسمحوا لي أن أسرد شيئاً من مزايا والدي التي شهدتها وهو حي، لعلكم تتعرفون عليه وتستفيدون منه، أو تترحمون مشكورين عليه.
فقد كان أبي رجلاً خلوقاً، راقياً جداً بتعامله، وكان لا يؤخر الصلاة، ويعطيها حقها من الخشوع والأناة، وكانت سجادة الصلاة ممدودة دائماً في غرفته، والمصحف مجهز على حامله، وكلما وجد فسحة من الوقت جلس ليقرأ ويرتل، ولقد سجل لكل واحدة منا القرآن الكريم كاملاً ومجوداً بصوته، وأهدانا إياه مع مسجلة فاخرة، لتكون كل واحدة حرة في السورة التي تختار سماعها، ولتطيل التفكر والتدبر بالآيات الكريمة.
وكان يُكثر جداً من الصيام وقراءة القرآن، والصدقات، ويُسهم في بناء المساجد، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وتقديم الهدايا، ولم يظلم أحداً، ولم يأكل حق أحد، ولم يتدخل في أمور الآخرين… فحصل على الحب والتقدير. ولقد أكرمه الله جزاء وفاقاً فعاش بعزة ورفاهية، ولم يحتج لأحد من الناس؛ بل احتاجوا هم إليه لأنه أكثر من يُؤتمن على المتاع والمال.
فقد اشتهر أبي بأمانته التي يشهد لها كل من عرفه؛ فكان أقرباؤه يودعون عنده مفاتيح بيوتهم، أو حصصهم من البيع والإيجار، أو يكتبون له وكالات عامة على بياض، ويهاجرون بعيداً خارج البلاد، وهم آمنون مطمئنون أن ثرواتهم في أمان وفي حرز منيع.
وكان أبي ناجحاً بين أقرانه، ومتفوقاً جداً في دراسته، وحين تخرج فتح صيدلية في دمشق في الشعلان، وصار الناس يأتونه خصيصاً لتميزه وشهرته، ولتمكُّنه ودقته في تركيب الأدوية (فلم تكن الأدوية الجاهزة متوفرة في زمنه)، حتى كان يقصده المرضى من سائر المحافظات السورية.
ومما كان يعجبني فيه كأب أن مشاغله لم تصرفه عنا، فكان يتفقدنا ما استطاع، وحين تزوجنا وسافرنا آلى على نفسه أن يراسلنا- نحن بناته- باستمرار، فكان يحرص على كتابة رسالة لي ولأخواتي كل شهر، وبانتظام تام، وتحتوي على كافة المستجدات، فيكتب فيها أخباره هو والعائلة الكبيرة، ويؤنسنا بكل شيء، ويحدثنا عن التغييرات التي صارت بالبلد، وكيف تسير الحياة… وكم كنت أفرح برسائله، وأنتظرها بشوق، وبقي مثابراً على ذلك عقدين كاملين، رغم تقصيرنا بالرد عليه، وإن كانت المراسلة والتواصل مهمان جداً وتوثقان العلاقات.
* وإني هنا لَأتساءل: إذا كان والدي هكذا حقاً، فلمَ لم نرَ صفاته الحلوة إلا بعد فوات الأوان؟ أو "لِمَ لَمْ أقل له هذا الكلام، ولم أعبر له عن امتناني وتقديري وهو على قيد الحياة؟".
ولعل السبب أننا نزهد أو نعتاد على ما يقدمه بعضهم لنا، أو نعتبره أمراً عادياً وطبيعياً يقدمه كل الآباء فنستخف به، حتى إذا فقدناه شعرنا بقيمته الهائلة.
– وربما لأنه جرت السنة هكذا، فسير العظماء والناجحين تُكتب بعد موتهم، وتركز على الإيجابيات، وهذا ما يحدث عندما يموت قريب لنا، فمن غير أن نشعر نذكره بكل خير، ونسرد ونقول بأسى وحزن: كان وكان… ولا يتبادر إلى ذهننا إلا صفاته الجميلة، فهل عاش هؤلاء بلا إساءات ولا أخطاء؟!
بالطبع لا، فما التفسير؟
– لعله بعد موتهم تتأجج رغبتنا بأن يكون لنا قدوة أو منارة نستهدي بها، فنحب أن نرى فقط حسناتهم.
– ولأننا نندم على تقصيرنا معهم، فنشعر أن الثناء والرحمة سيريح ضمائرنا، ويعوضهم.
– ولأنهم جزء منا فنحرص على سمعتهم، ونفخر بهم.
والفكرة أني أنا وأنتَِ وكل مَن حولنا أيضاً فيهم مزايا، وقد تكون رائعة ومتفردة، فليتنا نراها من الآن ونقدرها، ونغض الطَّرْف عما استطعنا من سيئاتهم وننسى بعضها.
بل إن بعض المربّين أو الأزواج أو الدعاة أو الأساتذة… ولأجل صفة يتوقون لها في شخص مقرب، نراهم يهملون عدة مزايا فيه، ويتجاهلون الثناء عليها ومباركتها، ثم يحرصون على قسره على صفة لا يحسنها! بدل الاستمتاع بما فيه من مزايا.
وتكون النتيجة أنهم يدمرونه (فلا هو استطاع التحلي بصفة بعيدة عن جِبلّته، ولا تمكنوا هم من الاستمتاع بالصفات التي فيه).
وإنه من الصعب تغيير الجبلة والشخصية، ومن السهل جداً التمتع بما لدى الناس من قدرات وخيرات، وأقولها بمناسبة شريط الذكريات الجميل الذي يتكرر ويدور في مخيلتي، والدموع التي تلألأ في عيني، فشخصية والدي جعلتني أدرك أن كل نقص يقابله كمال، وكل خطأ يقابله صواب، وبالتالي تتمتع أكثر الشخصيات بالخيرية والجمال.
* وإن والدي شأنه شأن أي إنسان تعرض لمصاعب في حياته، وظُلم، وعانى كثيراً من أذى الناس، ومن سوء ظنهم، ومن التفرقة بينه وبين أقرانه، ومن الحرمان من أمور يتوق جداً إليها… ولم يردّ يوماً بالإساءة، بل صبر واحتسب، وبقي متوازناً ومستقر النفسية، ومؤمناً بالله وبما يقدره له، أشد الإيمان.
وبقي محباً للحياة ومقبلاً عليها ومتفائلاً، ولا أذكر أبداً أني وجدته يوماً حانقاً أو ساخطاً أو يائساً… بل كان راضياً ومستسلماً وهادئاً، فعاش سعيداً.
فكيف يمكننا مساعدة هذا الجيل الذي قلت قدراته على الاحتمال، وكثر فيه اليأس وتمني الموت ليكون مثله؟
وإن للأب مكانة كبيرة، ولقد استهديت بوالدي الغالي في مواقف كثيرة في حياتي، فدعوني أكتب فوائد تربوية تعلمتها منه، وهي إن شاء الله ذات فائدة لكم جميعاً:
1- يقولون كل فتاة بأبيها معجبة، فلماذا يا ترى؟
ربما وبشكل أساسي لأن العاطفة والتفهم والتعاون في كثير من العائلات تكون من جهة الآباء، وتكون القسوة والأنانية من جهة الأمهات (بعكس ما هو متوقع)، وحين يكون مع العاطفة التعقل والحكمة والحماية؛ يصبح الأب هو الملاذ الآمن، وإن للأب مكانة كبيرة.
وهكذا كان أبي، فقد كان يوجهني بالإقناع، ويربيني بالحب، وكان يثني علي كثيراً، ويترضى ويدعو لي، ويؤكد أنه سعيد لأني ابنته، وأني جيدة وبارة… فكان يرفع معنوياتي باستمرار ومن صغري.
2- وإذا أخطأت كان لا يغضب، ولا يفقد صوابه، ولا يتعصّب، وهكذا المربي الناجح، بل يقول لي بهدوء "الله يهديك"، وما أجمل هذا الدعاء، فهو خير لي حين أهتدي، وخير له (فالهداية تجعلني بارة به). ولم يسبني قط أو يدعو علي، كما كان الشأن السائد وقتها.
وقد يعاتبني ويلومني، على أني لا أذكر أنه ضربي، رغم أننا عشنا في زمن كانوا يعتبرون فيه الضرب وسيلة تربوية، ولكنه لم يفعل، بل تنبه باكراً لمخاطر الضرب وكان ينهى عنه.
وأتذكر بوضوح يوم كنت في الرابعة من عمري، وكسرت فازة وأنا ألعب بلا قصد، وإذا بالوالدة وعلى الفور تخلع حذاءها ذا الكعب العالي الرفيع وتنهال على جسمي الصغير الضعيف بضربات موجعة قاسية، ما حماني منها إلا والدي، الذي خبّأني خلف ظهره متلقياً هو بعضها… إن موقفه كان بالنسبة لي كطفلة بطولياً وعظيماً، فحفظته له وثمّنته!
3- إن والدي كان حنوناً ومحباً جداً لنا، وكان هو الذي يتنبه لأمور ويحرص على تقديمها لنا، مثل: الاهتمام بدفئنا في ليالي الشتاء الباردة، وإني لأذكر كيف تفقد غرفتنا، وحين اكتشف أننا لا نملك لحافاً سميكاً نزل على الفور للسوق وأحضر لكل واحدة لحافاً.
على أن الذي لفت نظري وقتها أن كل واحد كان بلون مختلف عن الآخر (لتعرف كل واحدة منا خاصتها، ولا نتشاجر كما كنا نفعل دائماً)، فقد فطن أن السلام بيننا أهم من أناقة الغرفة!
وإن مما كان يميز والدي "العدل بيننا نحن الثلاثة"، ولعله أروع وأجمل صفاته، فلم يفرق يوماً بيننا بالتعامل، ولم يستعمل أسلوب التعيير أو الانتقاص أو المقارنة؛ فقد كان يدرك أن هذه الأساليب خاطئة وغير مثمرة، وأنها قد تفسد وتدمر علاقات الإخوة.
4- الصغار يحبون الحلوى، وكان والدي هو الذي يحضرها لنا كلما طلبناها منه، ويأتي لكل واحدة بما تحبه.
وكان يهتم جداً بغذائنا، وبالطعام المفيد الصحي، ويحضره لنا ويحببنا فيه، وكان يفيدنا من علمه، وهو صيدلي مشهور ومتميز، فيشرح لنا فوائد بعض الأعشاب، ويعالجنا بها، ويحذرنا من بعضها الآخر.
5- والصغار يحبون القصص، ولم يكن لنا غيره ليحكيها لنا، فكنا نلح عليه ونرجوه، وكم كنا نشق عليه بهذا الطلب، لأنه لم يكن يقرأ القصص… ولكنه لم يخيبنا، فكان يحاول أن يؤلف شيئاً من مخيلته، وبالفعل استطاع ذلك، وحكى لنا قصصاً طويلة ومشوقة.
وعندما كبرنا، صار يروي لنا ذكرياته، وقصص آل العظم، والشخصيات المشهورة منهم، وكم كنت أحب سماعها، وعندي تسجيلات لتلك الجلسات الثرية.
6- وكان يعطينا حريتنا في البيت لنلعب كيف نشاء ونركض، ولو أفسدنا الترتيب، ويتركنا لنعد بعض الأشياء بالمطبخ، وينظف هو بعدها، رغم كرهه لهذه المهمة. فقد أدرك أن الطفولة مرحلة وتمضي، فأراد لنا أن نستمتع بها.
وكان هو وحده الذي يُقدر ملل الصغار وحبهم للخروج وللنزهات وللترويح، فكان هو من يأخذنا للحدائق، ولإطعام البط في حديقة السبكي بدمشق، وينتظرنا حتى نكتفي من اللعب بالأرجوحة، ويتصبر علينا، ولو تعب، ولو تأخرنا… فرحمك الله رحمة واسعة، كما كنت بنا شفيقاً.
إن هذه بعض أفضاله علينا، وإني حين أقول "رحمه الله" أقولها من كل قلبي، ومن كل وجداني، وإني لأحبه وأشتاق إليه، وأتمنى ألا أتأخر باللحاق به، ولا أتخيل كيف سأزور دمشق ولا أستطيع رؤيته فيها.
وأختم مقالي بخلاصة التربية التي تعلمتها منه:
إن أكثر ما يحتاجه الأطفال هو أهل يفهمونهم، ويحرصون على مشاعرهم، ويشيعون الحب بينهم، ويدركون قصورهم وضعفهم، فيتصبرون عليهم ويوجهونهم ريثما يكبرون ويرشدون. وهذا ما عقله أبي، ثم قدمه لنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.