في لقاء جماهيري شعبي، وفي قرية نائية في الريف السوداني البعيد، وبتاريخ 1/1/2023، أدلى نائب الرئيس السوداني حميدتي بتصريحات لم يسبقه إليها مطلقاً أي مسؤول سوداني على مدى التاريخ. قال بالحرف الواحد، موثقاً بالصورة والصوت: (نحن تحت قبضة التدخلات الأجنبية، وتتحكم فينا السفارات. نعترف بذلك ولا نكذب). من المفارقات العجيبة، أن هذه التصريحات الموغلة في الخضوع والاستسلام للتحكم الأجنبي وفقدان السيادة الوطنية، للأسف جاءت متزامنة مع ذكرى استقلال السودان من المستعمر.
إن خضوع دولة السودان خلال الفترة الانتقالية لقبضة التدخلات الأجنبية، بحيث صارت مرتعاً خصباً تسرح فيه السفارات والمخابرات والمنظمات والدول الأجنبية، لم يعد سراً، وليس هذا أول اعتراف به. وهذا ما سوف نفصله بالأدلة والبراهين في هذا المقال.
إن اعترافات نائب الرئيس جاءت تدشيناً رسمياً ومن أعلى سلطة، ليؤكد فقدان السيادة الوطنية بالكامل ودون أية مواربة أو خجل أو مُداراة.
هذا، وقد مارست النخب والمثقفون في الصحافة وفي وسائل التواصل الاجتماعي، ضغطاً إعلامياً كثيفاً، بينوا خلاله كل تفاصيل هذه التدخلات الأجنبية وأثبتوها بالمستندات والأدلة الدامغة. ما اضطر عدداً من المسؤولين الحكوميين، في بداية الأمر، إلى الاعتراف الجزئي وعلى استحياء، بالتدخلات الأجنبية، بعد أن مارسوا فاصلاً كبيراً من المراوغة والخداع والإنكار، رغم حصار الرأي العام لهم بالحقيقة الدامغة. إلا أن نائب الرئيس، باعترافه الحالي، قد أخرس كل الألسنة التي لا تزال تراوغ. لقد وضع نائب الرئيس الجميع بين خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام للتدخلات الأجنبية وإما مقاومتها.
تميز اعتراف نائب الرئيس بالتبعية للأجنبي وفقدان السيادة الوطنية بعدة خصائص؛ نذكر منها: الوضوح الشديد دون مواربة، والتلقائية دون أي تكلف.
التصالح مع التبعية دون أي إحساس بالحرج أو نية مقاومتها
تميز تصريح حميدتي، بشمول التدخل الأجنبي لكل قضايا الحكم، دون تخصيص قضية محددة، وتميز بتنوع وتعدد الدول الأجنبية المتدخلة دون تحديد دولة واحدة بعينها، باعتبارها هي الدولة المتعدية التي فرضت أجندتها حتى يتيح للسودانيين مناهضتها. إلا أن أسوأ ما في هذا الاعتراف بهذا الحجم وبهذا المستوى من أعلى سلطة أن الأمر وصل مرحلة الاستسلام الكامل والخنوع الذهني والنفسي، وبالتالي ينعى للسودانيين أي أمل في استنهاض الإرادة الوطنية، أو مجرد الإحساس بها أو التباكي على فقدانها. هذا الاعتراف يمثل التدشين الرسمي للاستسلام الكامل للإرادة الأجنبية، والفقدان الكامل للسيادة الوطنية ولأي إرادة وطنية للمقاومة أو لاستنهاض همة الشعب أو الحكومة لمقاومة التدخل أو استرجاع السيادة.
سلسلة اعترافات نائب الرئيس
لم يكن ذلك الاعتراف هو التصريح الأول لنائب الرئيس، بل سبقه بتصريح آخر لا يقل عنه خطورة. صرح السيد نائب الرئيس بتاريخ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 في حواره مع قناة الحدث للصحفية لينا يعقوب. قال متحدثاً عن الأسباب التي جعلتهم يوقعون على مسودة الدستور الموصوف بالعلمانية مع قوى سياسية محددة دون غيرها من القوى السياسية الوطنية الأخرى. مسودة الدستور التي تمت كتابتها والإشراف عليها وتمويلها بواسطة المبعوث الأممي فولكر وعدد من الخبراء الأجانب، قال نائب الرئيس، موضحاً أسباب التوقيع عليها: (وقعنا عليها غصباً عنا، وأرجلنا على رقابنا). وهذا تعبير يعني أنهم كحكومة أجبروا على التوقيع على المسودة غصباً عنهم، وكأنما وُضعت أرجلهم على رقابهم من شدة الغصب، ما حملهم على التوقيع خانعين.
رغم أن هذا التصريح يعني الاستسلام والخضوع عند توقيع هذه المسودة، ويعني أيضاً الانحياز إلى قوى سياسية محددة دون غيرها. إلا أنه قد يحوي في طياته درجة من الإرادة النفسية للرفض، ولو بأضعف الايمان. عكس التصريح الحالي.
لقد استنكر نائب الرئيس، سابقاً، على قيادات الفصيل السياسي الذي وقع معهم الآن على مسودة الدستور، وهي القوى السياسية المسماة اختصاراً بـ"قحت". والتي كان وزراؤها في حكومة الفترة الانتقالية المنهارة يقبضون رواتبهم من الدول الأجنبية: (أنتم تقبضون رواتبكم من السفارات. أليست هذه فضيحة؟ لن نقول عليكم وطنيون! تضغطون علينا في التفاوض بينما تقبضون الدولارات!).
ومن سخرية القدر أن هذا الفصيل السياسي هو نفسه الذي تحالف معه الآن مرة أخرى. أي إن النائب الأول تحول من خانة المستنكر عليهم عمالتهم إلى خانة الحليف المشارك المستسلم.
جاءت اعترافات نائب الرئيس بعد سلسلة من الاعترافات، نذكر منها: اعترافات فولكر ود. مريم والناطق الرسمي لقوى الحرية والتغيير، ثم تصريحات السفير الأمريكي وبعض قادة الإدارة الأهلية.
اعترافات المبعوث الأممي
أما السيد فولكر فقد اضطر هو الآخر إلى الاعتراف بالدور الأجنبي في صياغة مسودة الدستور بعد تعتيم ومراوغة. قال نصاً: (نعم، استعنا بخبراء أجانب من دول أجنبية ومن الأمم المتحدة لكتابة مسودة الدستور).
اعترافات وزيرة الخارجية
أما وزيرة خارجية الفترة الانتقالية السابقة د. مريم الصادق المهدي، فقد قالت نصاً: (استعنا بمنظمة PILPG الأمريكية في كتابة مسودة الدستور)، وكذلك قالت في تصريح آخر مبررة التدخلات الأجنبية: (الآن العالم صار يخطط لنا من خلال الخبراء الأجانب، يجب ألا نتهم العالم). وبذلك تكون السيدة وزيرة الخارجية قد نسفت تصريحها السابق الذي استنكرت فيه التدخلات الأجنبية في شؤون السودان. وقالت فيها نصاً: (صار حكام السودان يأخذون تعليماتهم من الأجانب).
الناطق الرسمي لمجموعة الحرية والتغيير الحاكمة
أما الناطق الرسمي لمجموعة القوى السياسية الموقعة على مسودة الدستور فقد رد على المستنكرين عليهم استعانتهم بالسفارات الأجنبية: (نعم نحن نلجأ الى السفارات، نستعين بها سفارة بعد سفارة. هذه الاستعانة بالمكشوف علناً، وليست في الخفاء. أما اتهامنا بالعمالة فهذه الاتهامات تجاوزها الزمن وصرنا لا نعيرها اهتماماً).
مزيد من التصريحات حول الخضوع لإرادة الأجنبي وفقدان السيادة الوطنية
صرح أحد قيادات الإدارة الأهلية في بيان رسمي، أن السفير الأمريكي أوضح له أنهم يعملون على عدم قيام انتخابات في الفترة المحددة لها مسبقاً، حتى لا تفوز بها القوى السياسية السودانية المناوئة لمشروعهم.
وصرح زعيم قبلي آخر أن المبعوث الأممي فولكر طلب منه الانشقاق عن القوى السياسية السودانية المناوئة لمشروعهم والانضمام إلى القوى السياسية الأخرى المتعاونة معهم، أو أن يقف في خانة الحياد على أقل تقدير. أي إن كلاً من السفير الأمريكي والمبعوث الأممي ومن فرط تدخلهما في الشأن السوداني الداخلي، قد تجاوزا مستوى الحكومة المركزية في الخرطوم، أو القيادات الحزبية.
بل صارا يطوفان في الولايات السودانية، ويلتقيان بالإدارات الأهلية في القرى البعيدة. وصارا يتدخلان في نتائج الانتخابات حتى قبل قيامها، بل ويحتاطان لضمان عدم فوز المناوئين لمشروعهما ويحددان وقت قيام الانتخابات وفقاً لتقديراتهما وتوقعاتهما للأحزاب التي يمكن أن تفوز بها. أكثر من ذلك فقد صارا يتدخلان في صناعة الاستقطاب السياسي لصالح هذا التحالف السياسي أو ذاك. فيطوفان بالولايات لضمان ولاء قادة القبائل لهما.
لقد أصبح واضحاً وبصورة لا ريب فيها، وبالدليل القاطع، فقدان السودان لكامل السيادة، وفقدان حكامه لكامل الإرادة النفسية والذهنية لمجرد محاولات استردادها. بل خضوعه الكامل واستسلامه التام لتدخلات القوى الخارجية، ووصوله مرحلة الاعتراف الرسمي بذلك بلا خجل ولا وجل ولا تردد ولا مواربة. ولا حول ولا قوة الا بالله. لقد وضع نائب الرئيس جميع السودانيين أمام الحقيقة المجردة، إما أن يستسلموا للتدخل الأجنبي ويوافقوا عليه، وإما أن يقاوموه بالدرجة التي توقفه وترجع لهم سيادتهم الوطنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.