الصورة التي تتجلى بها الفصائل المسلحة العراقية لم تكن ذاتها قبل 10 سنوات من تاريخ اليوم. بل إن الصبغة التي كانت تصطبغ بها هذه الفصائل، وهي قتال ومواجهة القوات الأمريكية ضمن استراتيجية إيران العسكرية بالضد من التوسع الذي تسعى له الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط قد اختفت.
ﯾﺠﺎدل ﺑﻌﺾ اﻟﻤﺴﺆوﻟﯿﻦ واﻟﻤﺤﻠﻠﯿﻦ اﻟﻐﺮﺑﯿﯿﻦ ﺑﺄن اﺳﺘﺮاﺗﯿﺠﯿﺔ إﯾﺮان اﻟﻌﺴﻜﺮﯾﺔ ھﺠﻮﻣﯿﺔ ﺑﻄﺒﯿﻌﺘﮭﺎ، وﺗﮭﺪف إﻟﻰ ﺗﻮﺳﯿﻊ ﻗﻮة إﯾﺮان، واﺳﺘﻌﺎدة اﻹﻣﺒﺮاطﻮرﯾﺔ اﻟﻔﺎرﺳﯿﺔ ﻓﻲ ﻧﮭﺎﯾﺔ اﻟﻤﻄﺎف؛ وﯾﺮى آﺧﺮون أﻧﮭﺎ دﻓﺎﻋﯿﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﻘﺎم اﻷول. ﻻ ﯾﻮﺟﺪ ﺗﻮﺻﯿﻒ دﻗﯿﻖ وحاسم.
لكن يمكن القول إن اﻻﺳﺘﺮاﺗﯿﺠﯿﺔ اﻟﻌﺴﻜﺮﯾﺔ اﻹﯾﺮاﻧﯿﺔ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻋﻨﺎﺻﺮ دﻓﺎع أﻣﺎﻣﻲ، وتقوم ﻓﻲ اﻟﻤﻘﺎم اﻷول ﻋﻠﻰ اﻟﺮدع. إدراﻛﺎً ﻟﻠﻘﯿﻮد اﻟﺸﺪﯾﺪة ﻋﻠﻰ ﻗﺪراﺗﮭﺎ اﻟﻌﺴﻜﺮﯾﺔ اﻟﺘﻘﻠﯿﺪﯾﺔ، ﺑﺴﺒﺐ اﻟﻌﻘﻮﺑﺎت ﻣﻨﺬ ﺛﻮرة 1979، وﻛﺬﻟﻚ اﻟﻨﻀﻮب ﻧﺘﯿﺠﺔ ﻟﻠﺤﺮب اﻹﯾﺮاﻧﯿﺔ اﻟﻌﺮاﻗﯿﺔ، ﻟﺠﺄت إﯾﺮان إﻟﻰ ﻣﻨﺎھﺞ ﻏﯿﺮ ﺗﻘﻠﯿﺪﯾﺔ، ﺑﻤﺎ ﻓﻲ ذﻟﻚ الشراكات مع الجهات الفاعلة غير الحكومية، لتأسيس ردعها العسكري.
أو كما عبرت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس ذات يوم، عندما قالت ما نراه الآن هو آلام المخاض لشرق أوسط جديد، ومهما كنا فاعلين، فإنه يتعين علينا التأكد من أننا نتجه إلى الشرق الأوسط الجديد.
عارض آية الله الخميني نهج الولايات المتحدة في منطقة الخليج. فدعا إلى ثورة على نظام الشاه محمد رضا بهلوي حليف أمريكا وشرطيها في منطقة الخليج العربي. ثورة تمتد لجميع البلدان المجاورة عبر تصدير قيمها. ولكن بطبيعة الحال كان هذا الكلام قبل أكثر من 30 سنة.
وها هي إيران ونفوذها يمتد ويرتكز في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن. يعتبر العراق بالنسبة لإيران رأس الحربة في استراتيجيتها العسكرية في مواجهة الولايات المتحدة، ورئتها الاقتصادية التي تتحايل بها على العقوبات الاقتصادية المفروض عليها. وعلى الرغم من الأهمية التي يمثلها العراق بالنسبة لاستراتيجيتها في المنطقة، فإنه يعتبر من أكثر البلدان التي تعاني الفساد الإداري وتردي جميع أشكال الخدمات وعلى كل المستويات، إضافة لغياب الأمن، وانتشار الجريمة والمخدرات.
ودائماً ما يتهم حلفاء إيران في العراق بالفساد وممارسته إلى جنب قوى سياسية أخرى. لكن من غير المرجح أن تتخلى طهران عن دعمها للعملاء غير الحكوميين، وذلك تماماً لأنها تعتبر الجهات الفاعِلةَ غير الحكومية ركيزة رئيسية للأمن القومي وأمن النظام، ولأنها استثمرت فيها قدراً كبيراً من الجهد والكلفة من حيث السمعة.
قد توافق إيران على الحد من دعمها لبعض أعضاء شبكتها من الشركاء غير الحكوميين أو تعرض تعطيل هذه المجموعات، الذي لا يؤثر مباشرة على الأمن الإيراني، والذي تمارس عليه السيطرة الأكبر أو تفكيكها. وقد تُوافِق إيران أيضاً على نزع سلاح مجموعات أخرى ودمجها في المشاهد السياسية الخاصة بها، على الرغم من أن هذا الأمر قد لا يكون مرغوباً في بعض البلدان، من منظور أمريكيّ.
تحتل الجهات الفاعلة غير الحكومية المتنوعة مراتب مختلفة في حساب التفاضل والتكامل الإيراني. فمن غير المرجح أن تتخلى إيران عن دعمها لحزب الله في لبنان في المستقبل المنظور، حيث تعتبر هذه المجموعات أساسية بالنسبة إلى أمنها الخاص. وكذلك الميليشيات العراقية الشيعية أيضاً أساسية لقدرة البلد على التلويح بالقدرة على ردع القوات الأمريكية ومضايقتها.
تنقسم هذه الفصائل فيما بينها في الاشتراك بالعملية السياسية الفتية، والاستحواذ على المؤسسات الحكومية باختلافها. فمنها من تقدم في هذه الخطوة، ومنها من تأخر. ولكن السائد عند الكثير من المراقبين والباحثين في الشأن السياسي العراقي أن الجزء الأكبر والأهم والمؤسس للفصائل المسلحة. هو أنها كانت إفراز العملية السياسية ما قبل انتخابات عام 2018، وهو العام الذي اجتمعت فيه الفصائل المتقدمة والمتأخرة فيما بينها مكونة لتحالف سياسي سيُعرف بـ"تحالف الفتح".
فهي قبل ذلك التاريخ صاحبة استراتيجية سياسية تقوم على توجيه جماهيرها ودفعهم للتصويت لشخص من لدنهم، أو متحالف مع تكتل أو كتلة سياسية، ولكن ليس باسمهم الصريح. ثم توجيه هذه الجماهير للتصويت لهذه الكتلة السياسية. وفي كلتا الحالتين تكون الغاية الأساسية والنهائية هي الحصول على منصب خدمي يستخرج منه بعض الفوائد والمكاسب المادية. ثم إيصال صوتها تحت قبة البرلمان، وذلك بما يتناسب مع سياسات الجارة الشرقية في العراق.
لم ترتقِ هذه التوليفة في العمل السياسي بالنسبة لها، وما تطمح للوصول له وهي ترى نفسها مرة مهمشة وفي أخرى لا يُسمع لها. أو أنها لم تحصل على ما وُعدت به وأتفق عليه. وهي ترى من سبقوها في العمل السياسي. أن بينها وبينهم بون شاسع، لا يردم إلا بالولوج للعمل السياسي، والتأسيس لنفسها على أنها رقم صعب ويجب أن يحسب لها الحساب. فكانت سنوات الحرب الثلاثة على تنظيم الدولة الإسلامي في العراق والشام (داعش) هي سنواتها الذهبية. التي من خلالها طرحت اسمها للرأي العام، ومن يتناغم مع خطابها الأيديولوجي. حيث لقيت آذان صاغية. فاستثمرت الفصائل هذه اللحظة وحولتها إلى ريع انتخابي تغرف منه قدر ما استطاعت. ثم نجحت في تشكيل حكومة على قياسها في انتخابات سنة 2018.
إلا أنها اصطدمت بجدار المتقدمين عنها والرافضين لها وممانعتهم تقديم أي نوع من التنازلات للوصول إلى صيغة توافقية بين المتأخرين والمتقدمين في إدارة مغانم، وموارد السلطة ومؤسساتها.
ثم كان التغافل وعدم السماع لجيل الشباب وتطلعاتهم، ورفض العمل على مكافحة الفساد الإداري، ورفض أي إصلاحات الجذرية في مؤسسة الحكم. ما جعل الشارع مصمم على تحدي هذه الوحشية. ثم استثمار خصومها في الاحتجاجات ليس إيماناً منهم بعدالة مطالب المحتجين. ولكنها كانت أفضل فرصة لإسقاط حكومة الفصائل ودولتهم الفتية.
تعلموا الدرس، وأحسنوا إدارة الصراع، ونجحوا للمرة الثانية ببناء حكومة ليست فقط على مقاسهم، ولكن من لحمهم ودمهم. فهل يا ترى ستعيش هذه الحكومة، أي حكومة السوداني أكثر من حكومة عبد المهدي؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.