الإنسان في طبيعته متناقض، تحكمه قوى غريزية وروحية وذهنية ونفسية متعددة، إنه كيان سائل غير صلب، لا يثبت على حالة، ولا على هيئة، لكنه مع ذلك يحاول أن يخلق لنفسه صورة ثابتة حتى يتعرف عليه الآخرون، وتُسمى هذه الهيئة "هوية"، يحاول أن يجعلها في أحسن صورة، وأجمل شكل.
1- الشخص والتناقض
كلمة "شخص" في اللغة الإنجليزية تعني "Person"، والمعنى اللاتيني للكلمة هو القناع الذي يرتديه الممثل فوق الخشبة، يسعى، بجهد، إلى إخفاء كل ما قد يغيظ الآخرين، فقد يقوم بأمور في السر، لكن لا يمكن أن يمارسها في العلن.
أثار هذا التناقض داخل الشخصية حفيظة بعض الفلاسفة، وحاولوا أن يتناسقوا في ذواتهم، فكتبوا سيرات ذاتية تحكي عما كانوا يخفونه عن الآخرين حتى لا يحكم عليهم الناس بما يرونه فقط. وقد فعل هذا أغسطين في اعترافاته، وكذلك قام جان جاك روسو بنفس الأمر. ويحكي نيتشه في كتابه أصل الأخلاق أن شوبنهاور كتب السيرة الذاتية الخاصة به وأرسلها لدار النشر، لكن المراجع في هذه الدار لم يقبلها بتلك الصيغة.
إن الأفعال الخاصة التي يقوم بها الشخص في السر، لا يمكن أبداً أن تصبح عامة، فهي خاصة به (تحكي حنة آرنت عن هذا الأمر في كتابها الوضع البشري)، وهذا التناقض ليس مشكلاً، وإنما هو طبيعة إنسانية، فالخصوصية أمر مقدس لدى البشر. وقد بدأت هذه الخصوصية (التي تخفي عيوب الأشخاص)، منذ أن سقط آدم وحواء من الجنة. قال تعالى: "فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَان عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ"
يعني أن العيوب البشرية بدأت من هذه اللحظة، ونحن نُخفيها بالأقنعة حتى لا نخنق الطبيعة بفظاعتها، وكذا بقرفها.
2- الفرق بين النفاق والتناقض
يجب أن نفرّق بين التناقض والنفاق، التناقض يحدث بسبب الصراع بين الضرورة والحرية، أما النفاق فيظهر بسبب الصراع بين المبدأ والهدف، أي إن التناقض يأتي بعد القيام بفعل شيء تحت ضغط الضرورة وظروف معينة، ويتم إخفاؤه كتعبير عن الحرية. وأهم تجسيد للتناقض هو المرحاض.
إذاً، المتناقض إن استسلم للاضطرار، بعد صراع بين حريته والضرورة، فإنه يحاول أن يخفي ذلك بحرية أو اضطرار أيضاً.
أما النفاق فيأتي حين يواجه المرء الآخرين بسلوك مرتبط باعتقاد معين (أو مبادئ ما)، لا يؤمن بها، لكي يحقق هدفاً مخالفاً للمبدأ الذي يُظهر أنه يتبناه، وبسبب انغماس "المبدأ" في الذات، فإنه يرتبط بالنية، ولا يمكن تحديد حقيقته، ولهذا السبب لم يجد الرسول محمد تأكيداً لمواجهة المنافقين، فالمنافق لا يعلمه إلا الله، وإن تبينت آثاره من حين إلى آخر.
3- الإسلام يسمح بالتناقض لا النفاق
الإسلام يعترف بالتناقض ويقبله، ولكن لا يقبل النفاق في مجتمعه، رغم سماحه له بالوجود داخله.
فالإسلام لا يطالب المرء بأن يصير نموذجاً مثالياً، وهذا هو الفرق بينه وبين المسيحية، وهنا يقع المفكرون العرب في خطأ جسيم (مثل علي الوردي وطه حسين)، لأنهم يحاولون فهم الإسلام عن طريق الفهم الاستشراقي، الذي يقوم بإسقاط الذهنية المسيحية على الإسلام.
المسيحية تطلب من الإنسان أن يكون نموذجاً مثالياً في الحياة، أي على صورة الله، التي صور بها الإنسان، قبل الخطيئة الأولى، فالمسيح هو النموذج المثالي (حسب اعتقادهم) الذي أصبح فيها إلهاً على صورة إنسان. إذن بإمكان الإنسان أيضاً أن يصير كهذا النموذج، أي أن يصير مسيحاً.
أما الإسلام، فهويعتبر الإنسان مخلوقاً تتنازعه ثلاثة نفوس، الأمَّارة بالسوء والنفس اللوَّامة والنفس المطمئنة، وأن الفاسق ليس بكافر، وإنما هو مؤمن قد وقع في خطأ، ويمكن أن يقوم بتصحيحه، وذلك بالتوبة، فخير الخطائين التوابون.
وهنا سنذكر فكرة المنزلة بين المنزلتين، التي اعتزل بسببها المعتزلة جماعة أهل السنة، فالمعتزلة يعتبرون أن مُمَارِس الكبائر، ليس بمؤمن ولا بكافر، وإنما يوجد بين المنزلتين، أما جماعة أهل السنة، فيعتبرون أن الذي يأتي الكبائر، هو مؤمن يمكن أن يتوب.
أما الخوارج (المتطرفون منهم على الأقل)، فهم يعتبرون أن مزاول الكبائر كافر ويخرج عن ملة الإسلام، وهذا ما لم يقبله أهل السنة والجماعة.
إذن الإسلام يعترف بالتناقض، فأين إذن يكمن الجزاء؟
4- التقوى والجزاء
كما قلت سابقاً أن المسيحية، تعتبر أن الجنة من نصيب المسيحيين؛ لأنهم قد نالوها بالتعميد – "مسح" الذنوب التي نجمت عن تضحية يسوع حين تم صلبه، أي إنه قد مسح الخطيئة الأولى عن المسيحيين، بينما ظل الآخرون خارج ذلك، وأفضل المسيحيين هو الذي يصل إلى مستوى النموذج المثالي (القديس).
أما الإسلام، فهو يعتمد على "التقوى"، والتقوى ترتبط بالتناقض الذي يعيش فيه الإنسان، فمثلاً إن دخلت على شخص ما فتاة عارية، فاضطرارياً سيقع في الخطأ، لكن إن صارع نفسه واتقى ذلك، ودفعه عنه، فهنا يحصل على جزاء على تقواه.
ويظهر هنا أنه من الصعوبة ممارسة التقوى، ولكن من السهولة أن تمارس الضرورة، وهنا مكمن سر التقوى، هو أنه يرتبط بالحرية، فالحرية ليست هي ممارسة الضرورة (كالجنس) وإنما هي ممارسة التقوى. فأصلاً صراع الإنسان وتقدمه هو صراع ضد الضرورة، وقوته في التقوى. (فكرة بداية الحضارة بالتسامي لدى فرويد). ولا أقول إن ممارسة الضرورة في الإسلام مُحَرَّمة، ولكن لها شروط لممارستها حتى لا تشغل مساحة أكبر من حرية الإنسان.
5- التقوى لدى هابيل
وأعتقد أن التقوى هي: حرية تقع في نطاق التضحية، وأرى في هابيل نموذجاً في هذا المستوى حين رفض الدخول في حرب مع أخيه، حتى أنه قد تأكد من احتمالية تعرضه للقتل، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
بالطبع المسلم، يمكن أن يقع في الفواحش، أي يمكن أن تغلبه الضرورة، ولهذا هناك درجات في الجنة، حسب مسألة التقوى، كلما مارس المسلم التقوى كان أكثر درجة.
كما يمكن أن يكون المسلم تقياً في ظرف، وفي ظرف آخر لا يستطيع ذلك، كما في المثال "الجنس المحرم".
6- الفرق بين الفاحشة والفتنة
إذن الإسلام (وعلى عكس ما يتخيله المتشبعون بالنظرة الغربية وثقافتها الاستشراقية) لا يُنكر أن الإنسان سيمارس الفاحشة، لأنه يعترف بتناقض الإنسان، لكن يرفض بالقطعية وبالجذرية انتشار تلك الفاحشة، أي إن تصبح موضوع "فتنة"، والفتنة بمعناها الفيلولوجي، هو التأثير على حرية الآخرين تحت ضغط الضرورة. (فمثلاً جعل الناس يتخلون عن عباداتهم عن طريق التجويع تعتبر فتنة.. وما قامت به تلك الفتاة في المثال أعلاه فتنة أيضاً، ولكن ليست انتشارية).
قال تعالى (إن الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ).
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
في الدُّنيا والآخِرَة)
فالفاحشة في حد ذاتها لها إمكانية الحصول، وإمكانية القبول كممارسة فردية تخص سرية الشخص (لكن القبول هنا لا يعني إباحتها، وإنما إمكانية وقوع المسلم فيها) أما نشر هذه الفاحشة وكأنها أمر عادي، فهذا غير مقبول في الإسلام، ولهذا قد تجد ملما يمارس الفاحشة، لكن يرفض أن تصبح منتشرة وعادية.
7- الإسلام والمجتمع:
فالإسلام كما هو واضح يتدخل في المجتمع لتنظيمه، (وليس بتلك الطريقة الشمولية التي يتخيل بها العلماني المتشبع كما قلت- بالنظرة الاستشراقية المعتمدة على الفهم المسيحي). الإسلام لا يراقب المسلم إن مارس الفاحشة، بل هو ينهاه في علاقته مع الله. أي إن الإسلام لا يضع كاميرات في المنزل لمراقبة أفعال المسلمين وتتبعهم في خلواتهم.
إنه يتدخل في المجتمع بمنع انتشار الفاحشة، ومعاقبة من يقومون بذلك. وحين ينادي العلمانيون بالحرية الجنسية، فإن هذا النداء يعتبره الإسلام "فتنة" وليس فاحشة، لأن المسلم يمكن أن يمارس الجنس خارج إطار الزواج، وكلمة "يمكن" لا تعني هنا "مباح" أي إن الإسلام لا يبيح ذلك، بل يعترف بوجوده ويسميه فاحشة، لكن النداء بالحرية الجنسية هو فتنة أي النداء بانتشار الفاحشة، وهنا فرق شاسع، لهذا يجادل العلمانيون بأن الشعب المسلم منافق، يمارس الفاحشة ويعارضنا حين نطلب بتلك الحرية.
هذا ليس نفاقاً وإنما تناقض (ولا مكان يخلو من التناقض ولا يمكن إفناء الآخر المتناقض)، فالمسلمون يعترفون بوجود الفاحشة وحدوثها أيضاً، ويعلمون بأن المسلم يمكن أن يخطئ ويشرب الخمر ويمارس الزنا، لأن هذه أفعال ترتبط بالتقوى والتوبة، والتي تجد أسسها في العلاقة بين المسلم وربه، أما الفتنة، فهي الدعوة إلى جعل الفاحشة، كفعل حر، ومقبول. والاعتراف ليس هو القبول، يمكن أن أعترف بوجود المطر لكن لن أقبل الجلوس تحته.
إذاً، وختاماً، فإن الإسلام لا ينكر وجود الفاحشة في المجتمع المسلم، ولكنه ينكر "الفتنة" التي تحاول نشر تلك الفاحشة. المجتمع المسلم (عكس ما يدعيه العلمانيون المتشبعون الاستشراق الغربي) ليس منافقاً، وإنما هو متناقض، يمكن أن يمارس المسلم الجنس خارج الزواج، لأنه لم يتقِ الله في ذلك، لكنه سيرفض بكل إيمان وجود الدعارة في بلدته، أي إن ما يدعيه هنا هو ما يؤمن به، أما المنافق فما يدعيه عكس ما يؤمن به.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.