"الصبي من الجنة" هو آخر فيلم لطارق صالح ،وقد تمت ترجمة عنوانه للجمهور الفرنسي إلى " "La conspiration du Caireبمعنى "المؤامرة القاهرية".
يحكي الفيلم عن النزاع الذي اندلع حول الخلافة بعد وفاة شيخ الأزهر ،وقد نجح المخرج المصري المنفي في السويد ،في إنجاز فيلم جذاب على عدة أصعدة، منها أنه يُذكرنا (بشجاعة) بحضور أجهزة المخابرات المصرية وممارساتها المرعبة لأشد أنواع التعذيب والتلاعب.
ينبهنا الفيلم أيضاً إلى الوضع الحالي للرقابة في مصر ،التي تغولت لدرجة اضطرت فريق الفيلم إلى تصويره في تركيا ،ولم يُصوَّر منه في مصر إلا مشاهد محدودة، تحسها وكأنها خُطفت خطفاً.
تدعو العديد من العناصر لمشاهدة هذا الفيلم والحقيقة ،أني لم أندم على الذهاب لمشاهدته في قاعات السينما.
لكن ،الثناء المتكرر ،في نغمة أقرب للإجماع تجاهه، والمديح المتكرر تجاه فيلم "الصبي من الجنة"، ترك في نفسي إحساساً بالمرارة ،وإحساساً قوياً بعدم الاكتمال.
لماذا؟
لأنه ببضع كلمات إذا كان هذا السيناريو، الذي أشادت به هيئة محلفين، كان يقدم بالفعل نقداً أساسياً للوضع السياسي المخيف في مصر السيسي ،في المقابل فإن إشاراته بأكملها ترن مثل التأييد الأعمى والمأساوي، محاولة لإضفاء الشرعية على القمع الذي يمارسه هذا النظام، ويقبل به ويدعمه حلفاؤه العرب والغربيون.
أولاً، وربما فوق العوامل الأخرى، لأن هذه الرواية للوضع المصري هي رواية مريحة للمشاهد الغربي (أشك في أن تتمكن أغلبية المصريين في الاندماج معه)، إذ إن المروية القديمة يعاد بعثها بشكل مزعج، وهي أن: الانقسام المصري -ومعه العربي -هو انقسام ذو طبيعة دينية. وعلى الرغم من أن العالم الغربي يضيع الوقت في هذا الوهم ،فإني متيقن من جهتي أن هذا الانقسام أصله المباشر سياسي وحول الديمقراطية.
هنا تأتي قصة الفيلم، الذي حصل على جائزة أحسن سيناريو من مهرجان كان ،2022 ليؤكد السراب الأوروبي ،معلناً أن مؤسسة التنازع ليس جيش عبد الفتاح السيسي ،بل الجامعة الشهيرة الأزهر ،التي توصف بأنها "أول مؤسسة للإسلام السني في العالم".
الواقع في تقديري مختلف بشكل جذري؛ إذ منذ عبد الناصر ،أُعلنت هذه المؤسسة المرموقة كمؤسسة "طاعة" ،ويأكل شيوخها منذ عقود على موائد الديكتاتوريات، ويشكل هندستها (الذي نُقل عن مسجد إسطنبول) كما هندامها ظلٌّ بارد عما كانت عليه.
أخيراً وليس آخِراً ،لكن الأشياء تأخذ ببعضها ،نجد في السيناريو الذي نال إعجاب لجنة تحكيم مهرجان كان ،أن البديل الأساسي المعارض في مصر والعالم العربي، يتلخص في صورة كاريكاتيرية مُجَرمة (مع أو ضد سيد قطب) دفع المشهد إلى هذا الكلِيشيه الفارغ والمتكرر.
بالنسبة لشخص كان من حظه قضاء وقت (ولو محدوداً ولكنه كافٍ) للتعرف في إسطنبول على الوزراء المنفيين لمرحلة مرسي ،أجد أن النموذج الذي اختاره مخرج الفيلم للإخوان المسلمين والمعارضة المصرية إجمالاً ،هو نموذج شديد الاختزال والتضليل (يمكن أن نذكر هنا أن المعارضة الإسلامية حصلت على %66 من أصوات الكتلة الناخبة المصرية).
هذا ليس أمراً مفاجئاً، أن يتم استعمال العامل الأكثر نشراً في الإعلام، وهو الخطاب الذي يصدر عن طرف من اليسار العربي ،والذي يشكل الأغلال الإقصائية لمنافسيه من الطرف الإسلامي ،ويجد هذا الخطاب كل الترحيب والآذان المفتوحة حينما يقال أمام الرأي العام الغربي المهيأ للإنصات، إذ إن وقع هذه الفكرة "برد وسلام" على قلوب الغربيين.
إن اليسار ،ينشرون هذا الرأي ويعتبرونه مبرراً ،من أجل تحقير الفوز الانتخابي لمنافسيهم الإسلاميين، ويتصايحون باتهامهم بتغيير قواعد اللعبة" :إنهم يمرون من السياسي إلى الديني". لكن الحقيقة أنهذه فقط شماعة لتبرير الفشل بدعوى أن الإسلاميين يرفضون السياسة ويذهبون للدين.
يجب الانتباه إلى أن استعمال الأحزاب السياسية الإسلامية لكلمات ومفاهيم وقاموس ديني لا يخرجهم من التنازع السياسي والتنازع على الديمقراطية.
إن بعض اليساريين يقومون بإلقاء المسؤولية عن الانزلاق بين الديني والسياسي على غريمها الإسلامي. وذلك لتبرير عجزهم الانتخابي في سياق الربيع العربي.
لم يبدع هذا الخطاب المأزوم أي جديد يحسد عليه ،فهذه الفكرة هي تحديداً ما تكرره كل الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة ،من السيسي إلى الإمارات ،بل أكثر من تلك الجغرافيا هي ما يتكرر في الإعلام والمشهد السياسي في أوروبا وأمريكا وإسرائيل وأيضاً روسيا!
يتطابق هذا الخطاب ،أيضاً، مع سِجل المخرج "الكبير" المصري الراحل يوسف شاهين ،في تطابق كاريكاتوري ،عبر فيلمه "المصير" ،الذي تُوج بدوره في مهرجان كان عام 1997.. هل هذه صدفة مفاجئة حقاً؟!
إن أكثر ما يحزنني كمشاهد لهذا الفيلم الجميل ،أن يرى كل هذه المواهب وكيف يتم تدويرها، من أجل أن تحافظ على صمت وسلبية المجتمع الدولي ،في وجه المأساة المصرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.