قبل أسبوعين رفع البنك المركزي سعر الفائدة بنسبة 3%، وتوقع السوق حينذاك طرح البنوك الحكومية شهادات ادخار بفائدة حوالي 20%، لكن رئيسي أكبر بنكين حكوميين، وهما الأهلي المصري ومصر، تحدثا إلى الفضائيات -وهو أمر يتم بالتنسيق المسبق مع البنك المركزي- نافيين إصدار شهادات إيداع جديدة بسعر أعلى من فائدة الشهادات، التي تم إصدارها أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي بفائدة 17.25% لمدة ثلاث سنوات، مبررين بأن ذلك من شأنه التأثير على أداء البنكين.
ورغم ذلك فقد أصدر البنكان، الأربعاء الماضي، شهادات ادخار بفائدة 25% لمدة عام، وجاء ذلك بالتزامن مع خفض البنك المركزي سعر الصرف بنسبة 7% خلال نفس اليوم أمام الدولار الأمريكى، لتصاب الأسواق المصرية بضربة مزدوجة نتيجة تلك الشهادات ذات الفائدة العالية، وكذلك لتحرك سعر الصرف الرسمي بما يزيد من تكلفة الواردات، والتي تشكل نسبة 60% من مكونات الصناعة المصرية.
وكان البنك المركزي قد اعتاد طرح شهادات ادخار من خلال البنوك الحكومية بالتزامن مع خفضه لسعر الصرف، لسحب السيولة من السوق لتقليل الطلب على المضاربة على الدولار بالسوق السوداء، وكذلك لسحب السيولة ودفع الجمهور للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع بإيداع أموالهم بالبنوك، لتقليل الطلب على السلع والخدمات سعياً لخفض نسبة التضخم المرتفع.
وفي نفس الوقت السعي إلى أن تؤدي تلك الفائدة المرتفعة على الودائع بالجنيه لدفع بعض حائزي الدولار إلى التخلص منه، وتحويله إلى جنيه مصري للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع عليه بالمقارنة بسعر الفائدة الأقل على الودائع بالدولار الأمريكي.
آثار سلبية للصناعة والتشغيل والطلب
ونرى أن تلك المستهدفات من رفع الفائدة على الجنيه لن تتحقق بالشكل المأمول فيه، بينما نرى أن المضار المتعددة لرفع الفائدة المصاحب لخفض قيمة الجنيه ستتحقق جميعها، مسببة آثاراً سلبية للصناعة والاستثمار والتشغيل والطلب بالأسواق المصابة أصلاً بالركود منذ سنوات.
فرفع الفائدة بتلك المعدلات الكبيرة يزيد تكلفة الاقتراض والمرافق بزيادة تكلفة السلع المستوردة نتيجة خفض سعر الصرف، ما يتسبب في انخفاض تنافسية المنتجات المحلية أمام المنتجات المستوردة محلياً، وكذلك أمام منتجات الدول الأخرى بالأسواق التصديرية، ما يقلل من عائدات التصدير، ومع ارتفاع الأسعار محلياً تقل القدرة الشرائية من جانب غالبية الجمهور، ما يقلل الطلب المحلي ويخفض مبيعات تلك الشركات، فتضطر إلى خفض العمالة لديها، وتؤجل إلى أجل غير معروف أية توسعات كانت تخطط لها.
كما سيتجه قطاع من الشركات لخفض حجم أعماله، والاكتفاء بإيداع أمواله بالبنوك للاستفادة من تلك الفائدة العالية، بدلاً من متاعب الإنتاج من رقابة وتفتيش وضوابط ورسوم وضرائب ونقل وتوزيع وتحصيل وتعثر بالسداد، بينما تخلو الفوائد المصرفية من الضرائب ومن الجهد والمخاطر، وكلها أمور ستنعكس على معدلات الاستثمار المحلي الذى سيؤثر بدوره على الاستثمار الأجنبي، الذي عادة ما يراقب أحوال الاستثمار المحلي قبل اتخاذ قرار دخول أي بلد.
بالنا ببلد تصنفه وكالات التصنيف الدولية الثلاثة استاندر أند بور وموديز وفيتش بأنه غير استثماري، وترى آخر وكالتين منها أن النظرة المستقبلية له سلبية، ناهيك عن ظروف المنافسة غير العادلة بين شركات القطاع الخاص وبين الشركات التابعة للجهات السيادية، والتعسف الذي جرى مع عدد من رجال الأعمال المناصرين للنظام الحاكم، لمجرد تلفظ بعضهم بألفاظ في مجالس خاصة بكلمات رآها النظام غير مناسبة فكان مصيرهم السجن.
أسباب عدم تحقق مستهدفات المركزي
والفائدة الأخيرة البالغة 25% على شهادات الادخار غير مسبوقة منذ عقود، حيث كانت فائدة الشهادات التى تم طرحها مع اتفاق 2016 مع صندوق النقد الدولي 20% لمدة عام ونصف و16% لمدة ثلاث سنوات، كما بلغت الشهادات التى تم طرحها مع خفض الجنيه أمام الدولار في مارس/آذار الماضي 18%، والشهادات التي تم طرحها بالتزامن مع الاتفاق الأخير مع صندوق النقد 17.25%.
وعادة ما يتم النظر إلى أية دولة ذات فائدة مرتفعة على أن ذلك علامة على مواجهتها لظروف اقتصادية صعبة، تدفعها لرفع سعر الفائدة لتعويض المدخرين عن معدل المخاطر المرتفع للإيداع بها، حيث تشير قائمة أعلى البلدان من حيث سعر الفائدة حالياً إلى تصدر زيمبابوي بنسبة 200%، والأرجنتين 75% وفنزويلا 57.5% والسودان 27.3%، وغانا التى تخلفت مؤخراً عن سداد ديونها 27%، وأوكرانيا التى تعيش حرباً مستمرة منذ فبراير/شباط الماضي 25%.
أما رؤيتنا لصعوبة تحقيق البنك المركزي المصري مستهدفاته من رفع الفائدة بتلك المستويات العالية، فتستند إلى العديد من العوامل، فهدف سحب السيولة من السوق لمحاربة التضخم المرتفع لن يتحقق، لأن التضخم المرتفع بمصر سببه نقص السلع بالأسواق، بسبب احتجاز سلع مستوردة بالموانئ منذ شهر فبراير/شباط الماضي وحتى الآن، وبسبب ارتفاع الأسعار العالمية كالوقود والغذاء، وليس راجعاً إلى كثرة الطلب من قبل جمهور المستهلكين، فى بلد تشير بيانات مؤشر مديري المشتريات به، لوجود ركود بالشهر الماضي للشهر الخامس والعشرين على التوالي بلا انقطاع، وهو أمر اعترف به محافظ البنك المركزي نفسه فى بيان لجنة السياسة النقدية الصادر فى سبتمبر/أيلول الماضي حين ثبتت سعر الفائدة، لكنه خضع بعد ذلك لمطلب صندوق النقد الدولي برفع الفائدة كموظف عام يأتمر بأوامر النظام الحاكم.
بل إن الكثيرين من الخبراء والذين نوافقهم فى الرأي، يرون أن رفع الفائدة يزيد من معدل التضخم ولا يخفضه بالحالة المصرية، نظراً لتسببها في زيادة التكلفة ونقص الإنتاج، ما يدفع لتعويض ذلك بمنتجات مستوردة أعلى سعراً.
وها هى تركيا تثبت عملياً أن رفع سعر الفائدة ليس هو الوسيلة الوحيدة لخفض التضخم، حيث اتخذت مساراً معاكساً وخفضت سعر الفائدة رغم التضخم المرتفع لديها، وها هو معدل التضخم ينخفض فى الشهر الماضي إلى 64.3%، مقابل 84.4% بالشهر الأسبق رغم ثبات سعر الفائدة عند 9%!
كذلك لن يتحقق هدف سحب السيولة لإيداعها بالبنوك، وما تعلنه البنوك الحكومية من أرقام كبيرة لحصيلة مبيعات الشهادات التى تطرحها في مثل تلك المواقف بالسنوات السابقة، مصدرها تحويل ودائع مصرفية من وعاء ذي فائدة أقل إلى الشهادات الجديدة ذات العائد الأكبر داخل نفس البنك، أو ما بين بنك وآخر.
ففى البنك الأهلى نفسه تصل فائدة حسابات التوفير لحوالي 9%، كما تصل فائدة الودائع التي تصرف بنهاية المدة ما بين 5% لمدة أسبوع إلى 6.57% لمدة 3 سنوات فأكثر، وقرب ذلك للودائع التى تصرف دورياً والتى تتراوح فائدتها ما بين 7% إلى 6.75%، حيث تقل كلما طالت المدة.
السوق السوداء مستمرة لشهور مقبلة
ومن الطبيعى أن يتحول جانب كبير من هؤلاء من تلك الأوعية الأقل بالعائد إلى الشهادة الجديدة داخل البنك نفسه، خاصة أن بنكي الأهلى المصري ومصر يستحوذان على نسبة 57% من مجمل الودائع بالبنوك المصرية البالغ عددها 37 بنكاً، حسب بيانات الودائع بمنتصف العام الماضي، لتظل العبرة بجلب ودائع من خارج الأوعية المصرفية الحالية.
وحتى هذه أيضاً يجب توضيح نوعيتها، حيث سيقوم الكثيرون بتحويل مدخراتهم من صندوق توفير البريد الذي يمنح فائدة 7% إلى الشهادات الجديدة للاستفادة بفارق سعر الفائدة، مع الأخذ فى الاعتبار أن قيمة ودائع صندوق توفير البريد قد بلغت 265 مليار جنيه، حسب بيانات نهاية يونيو/حزيران 2021، أي قبل عام ونصف، لكنها آخر بيانات متاحة، إلى جانب المشتريات بصناديق الاستثمار النقدية التي يمكن تحويلها للوعاء الجديد.
كذلك من الصعب تحقق هدف دفع حائزي الدولار إلى تحويله إلى جنيه مصري، والاستفادة من فارق سعر الفائدة كما حدث فى مصر عام 1991، رغم أن فائدة شهادات الادخار الدولارية بالبنوك المصرية يصل أعلاها لـ5.3% لمدة ثلاث سنوات، ويقل عن ذلك للودائع العادية، لكن كثيراً من حائزي الدولار يحتفظون به تحوطاً لنقصه.
والبعض يستخدمونه بالمضاربة وفي تحقيق أرباح خلال مدة قصيرة، وها هم حائزو الدولار خارج المصارف قد حققوا أرباحاً بنسبة 69%، ما بين بداية مارس/آذار الماضي وحتى الرابع من الشهر الحالي.
إلى جانب استمرار نقص الدولار بالسوق، بدليل أن البنوك تشتري الدولار فقط دون أن تبيعه للجمهور، كما فرضت قيوداً على كروت الائتمان للتعامل بها خارج البلاد رغم فرض رسوم سحب بنسبة 10% على القيمة، كذلك فإن السماح مرة أخرى بالاستيراد من خلال نظام مستندات التحصيل، سيزيد الطلب على الدولار بالسوق السوداء الأعلى سعراً، والتي من المتوقع استمرار نشاطها عدة أشهر مقبلة حتى يتم حل مشكلة البضائع المتأخرة بالموانئ، واستجابة البنوك لتمويل طلبات الاستيراد الجديدة فى توقيتات مناسبة وبعمولات أقل.
وهو أمر مرهون بالقروض التى ستحصل عليها مصر من الدول والمؤسسات الدولية خلال النصف الأول من العام الحالي، إلى جانب بيع حصص مؤثرة من الشركات المصرية الحكومية والخاصة للصناديق السيادية الخليجية، لجلب قدر جيد من الدولارات يسد فجوة العجز بصافي العملات الأجنبية بالجهاز المصرفي، البالغة 22 مليار دولار حتى بيانات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.