طرقت الزيارة التي قام بها رئيس جهاز المخابرات العامة المصري إلى السودان يوم الإثنين الماضي، واجتماعه مع أطراف الأزمة السياسية في البلاد، بمن في ذلك الجيش والمدنيون، العديد من الأبواب المغلقة حولها، وطرحت أسئلة كثيرة حول أسبابها وتوقيتها.
وللنظر معاً في هذه المساحة، دعونا نبحث عن إجابات وافية خلال هذا السرد الذي نتناول فيه أبعاد الزيارة، ومدى تأثيرها في الوضع السياسي الراهن بالسودان.
أولاً: إذا بدأنا دلالاتها، نجد أن الزيارة لم تعلن عنها وزارة الخارجية باعتبارها أمنية بحتة، ولكن لماذا في هذا الوقت بالذات؟ تقول وسائل الإعلام التابعة لمجلس السيادة الانتقالي: إن البرهان التقى باللواء عباس كامل في القصر "الجمهوري" يوم الإثنين بحضور مدير جهاز المخابرات العامة في السودان الفريق أحمد إبراهيم مفضل، ونقل رئيس المخابرات المصرية رسالة (شفوية) إلى رئيس مجلس السيادة البرهان من نظيره المصري عبد الفتاح السيسي. وهنا نجد أن كامل قد التقى بالجانب العسكري (الانقلابي) ونقل هذه الرسالة إليه وأغلق الباب.
ثانياً: لم يعلن العسكريون أنهم ناقشوا مع نظيرهم المصري القضايا الحالية حول الترتيبات الجارية التي تكمل توقيع اتفاق (التسوية) الذي عُرف بالاتفاق السياسي "الإطاري" الموقع عليه في 25 ديسمبر 2022 بين الحرية والتغيير والجيش على عكس تصريحات الجانب المدني في هذا الصدد.
ثالثاً: مصر اليوم تسعى بكل السبل لاختراق المشهد السياسي قبل توقيع الاتفاق النهائي حتى تجد بذلك نفسها فاعلاً أكثر، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لتعمل على دعم معسكر الانقلاب للضغط على الحرية والتغيير لقبول تلك الأطراف التي تريدها هي في الاتفاق، لكن لا أعتقد أنها ستنجح في تغيير منبرها من الخرطوم إلى القاهرة.
فالناطق الرسمي باسم الحرية والتغيير، جعفر حسن، في لقاء تلفزيوني أمس لخص هذا، وقال: إن رئيس جهاز المخابرات المصرية الذي زار البلاد التقى بهم وأكد لهم دعم مصر للاتفاق الإطاري وطرح عليهم اجتماعاً آخر في مصر لتقريب وجهات النظر مع كُتل ذكرها، وهو هنا يقصد ائتلاف الحرية والتغيير الآخر الرافض للتوقيع، وهو الجسم المكون من الحركات المسلحة بشقيها مناوي وجبريل، إلى جانب الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، بقيادة الميرغني الكبير، الذي وصل البلاد برعاية مصرية كاملة بتاريخ 21 نوفمبر 2022م.
من دون شك، فإن الميرغني وأولاده هم رجال مصر في السودان الذين تعول عليهم وتمهد لهم الطريق لضم كل هذه الأجسام المناوئة للاتفاق في كتلة واحدة، وأرى أنها نجحت في تلك الخطوة الجامعة التي سميت بالكتلة الديموقراطية ويتزعمها "المراغنة".
وبطبيعة الحال يحسب لمصر اختراق وتهشيم الجليد لتلك الحركات المسلحة التي كانت تكابر وتمانع وتقف رافضة، وما بقي لها إلا التشبث بكارت اتفاق جوبا القديم إن نجحت الحرية والتغيير في إبعاد حليفهم العسكري الانقلابي عن السلطة والعودة مجدداً لتصدر المشهد من جديد.
الحرية والتغيير رفضت العرض بطريقة لطيفة، وبررت لمصر أن الاتفاق الموقع عليه محدد الأطراف ومحدد المواضيع، وطلبت من مصر دعمها بالعمل في هذا الاتجاه، باعتبارها دولة محورية فقط وفق تصريحات القيادي جعفر حسن.
رابعاً: مصر قلقة من الاتفاق النهائي، لكنها تصرّ على دعم الانقلاب، في الوقت الذي يريد فيه الانقلابيون أنفسهم التخلص من ورطته.. لماذا؟
يقول الناشط السياسي المعروف، مجاهد بشرى: إن زيارة مدير المخابرات المصرية إلى الخرطوم تعني أن القاهرة في أشد حالات خوفها من مآلات سيطرة المدنيين وعودتهم إلى الحكم، ورعبها من زوال سيطرتها العسكرية بخروج البرهان.
أجد نفسي أتفق مع حديث مجاهد، لأن أكثر ما يُقلق مصر هو ذهاب البرهان لكنها لا تزال تعمل على تقوية موقف هذا الجانب للقبول بحلفاء الانقلاب فيه حتى تتمكن من إدخال تعديلات تصبُّ في مصلحتها سياسياً وأمنياً وهذا متوقع إن وافق الموقعون على تعديله، لكنه استبعد هذا في الوقت الحالي، لأن الوقت ليس في صالح الجميع.
المدون الصحفي عوض الحاج يقول "السودان في مخيلة العقل الجمعي المصري يُعتبر بمثابة الحديقة الخلفية لهم، لذا يسعون بأي شكل من الأشكال لتمكين رجالاتهم من السلطة فيه حتى يتثنى لهم نهب موارده، هذا بالإضافة لتخوفهم من عودة الإسلاميين إلى الواجهة مجدداً، وهذا واقع يفرض عليهم الهرولة لجمع شتات القوى السياسية، وحثهم على توقيع اتفاق، وتشكيل حكومة لقطع الطريق على الإسلاميين.
تلخيصاً لكل ما ذُكر، فإنني أقول إن القاهرة لن تنجح في إحداث اختراقات سياسية ناجحة في هذا التوقيت الذي مر عليه توقيع الاتفاق الأولي برعاية دولية، ولا أعتقد أن مصر تستطيع الآن إقناع الأطراف الدولية الراعية للاتفاق لتحويله وتعديله.
لكن يمكن لمصر إقناع حركتي العدل والمساواة جبريل مناوي في المضي باتجاه التوقيع مع مدنيي الحرية والتغيير، في ظل وجود الجبهة الثورية الموقعة على الاتفاق، وكانت واحدة من تلك المكونات التي شاركت وناصرت انقلاب البرهان.
ويمكن القول إن زيارة مدير جهاز المخابرات المصري للسودان أصبحت سنوية ثابتة منذ التغيير الكبير الذي شهدته البلاد بثورة ديسمبر المجيدة، التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، ولا تزال (الثورة) عصية على سيطرة العسكريين على الحكم مجدداً.
إن زيارة كامل المخابراتية هي لإنقاذ ما تبقى من الانقلاب، ولن تكون سبب انفراجة بقدر ما يمكن أن تُعقد المشهد أكثر بسبب مواصلة دعمها لأطراف الانقلاب العسكري، والتعويل عليهم أكثر لصناعة حواضن سياسية تحتويها، على عكس قولها إنها تعمل على تقريب وجهات النظر لاستعادة التحول الديمقراطي المتفق عليه.
يجب أن يكون دور مصر محايداً ذا طبيعة سياسية واستراتيجية غير أمنية أو عسكرية لطرفي الأزمة. والواجب على طرفي الأزمة تغيير نمط هذا التفكير الذي يعتمد على المبادرات الخارجية الجاهزة بدلاً من الجلوس مع بعضهم البعض لإنهاء الأزمة والإسهام في إصلاح الوضع الأمني والاقتصادي المذري الذي تشهده البلاد، ويعاني منه المواطن طيلة فترة الانقلاب المدعوم من مصر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.