ترتفع أولى الأصوات المعارضة للدكتاتورية في إيران بالعصر الحالي من الجامعات، تلك الأصوات المترابط بعضها ببعض، ومع الوقت تحولت إلى تيار وحركة مناهضة للدكتاتورية وأسقطت نظام الشاه، والآن تحاول الإطاحة بالنظام أيضاً!
في الانتفاضة الحالية للشعب الإيراني ضد الدكتاتورية الدينية التي تأججت بمقتل الشابة مهسا أميني في طهران في الـ16 من سبتمبر الماضي، كانت أول أصوات الانتفاضة والاحتجاج الأولى من الوسط الجامعي، ذلك لأن الجامعة هي ألمع طبقة بالمجتمع في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، وهذا هو السبب في أن الأنظمة الدكتاتورية كانت تخاف دائماً من أسماء الجامعات والطلاب، وكان إخضاعها أحد أولوياتها.
صخرة الحرية
تسمى الجامعة بين الناس في إيران بـ"صخرة الحرية" ومعقل الأحرار، وإذا كان النظام غير راغب، أو غير قادر، على الاستجابة بشكل إيجابي لمطالب الأكاديميين فلا خيار أمامه سوى القمع المؤدي للانهيار لاحقاً، ومن هذا المنطلق فإن الاستجابة لمطالب الطلاب والأكاديميين هي أحد مؤشرات الحركة نحو المستقبل والمُقبل.
آية الله خميني وتياره لم يخفوا عداوتهم للجامعة وذوي التخصص والخبرات منذ بداية مجيئهم إلى سدة السلطة، وبهذا الصدد قال خميني سنة، 1980: "إن خطورة الجامعة أعلى من خط القنابل العنقودية، ومهما وُجد فساد في هذا البلد فهو من هؤلاء الذين درسوا في الجامعة وذوي تخصصات، وكلما كانوا أكثر تخصصاً كانوا أكثر سوءاً! سواء قبلنا أم أبينا، ستأخذنا الجامعة إلى حيز أمريكا أو الاتحاد السوفييتي، ولن يكون الأمر خلافاً لذلك، لأن التأسيس يبدأ من الجامعة، والجامعة هي أسوأ مركز يجرنا إلى الدمار، وكل هذه المصائب التي حلت بالبشرية كانت جذورها من الجامعة، كانت جذورها من هذه التخصصات الجامعية و …" إلخ.
ولم يأتِ من فراغ أن نفذ خميني عمل الدكتاتورية السابقة غير المكتمل بشأن الجامعة، وأطلق انقلاباً في ربيع عام 1980 وأسماه بـ"الثورة الثقافية"، ما أدى إلى طرد وتصفية حوالي 57000 طالب، وأكثر من 8000 أستاذ جامعي وأكاديمي!
كان آية الله خميني وتياره الفكري في صراع وعداء مع الأكاديميين ومعادين لعلمهم وخبراتهم، ذلك لأنه رأى أن القادة الحقيقيين للشعب الذين سُجنوا وأُعدم البعض منهم كانوا أكاديميين، وكانت أفكارهم وخططهم على عكس آرائه وأفكاره الرجعية، ومتطلعة إلى تقدم المجتمع ورفاهيته.
ولذلك عندما ننظر إلى تاريخ إيران من هذا الجانب نرى أنه خلال 43 سنةً من حكم نظام الملالي دائماً ما تعرضت حركة الطلاب والأكاديميين للقمع الوحشي من قبل القوات الحكومية، ولهذا الغرض تم استحداث هيئة تسمى بـ"إدارة الحماية" في الجامعات الإيرانية، ولم يكن هدفها سوى القمع والسيطرة على الأكاديميين، كانت هذه الهيئة الحكومية المعروفة بين الطلاب والأكاديميين كهيئة كريهة في المجتمع، خاصة بين الأكاديميين، وفي إيران تحت سلطان حكم الملالي لا يمكن إيجاد جامعة بمأمن عن الأعمال القمعية لهذه الهيئة الكريهة.
ويبلغ الغضب والكراهية والقمع لدى النظام الإيراني ذروته عشية "يوم الطالب"، الموافق 7 ديسمبر من كل عام، إذ ينظر النظام الحاكم بعين غاضبة لاضطهاد الأكاديميين، وإلى المجتمع بعين خادعة لصرف الرأي العام عن اضطهاد المجتمع، ومستعرضاً نفسه كمتحضرٍ ومعتدلٍ وإصلاحي، من أحد أهداف الاستعراض "الإصلاح" في فاترينة عرض النظام الحاكم غير الشرعي، الذي يسعى إلى خداع المجتمع، والحكومات الغربية بشكل خاص بهذا الموضوع!
أما هذا العام، وفي خضم الانتفاضة الكبرى للشعب الإيراني ضد الدكتاتورية الدينية فقد تمتعت الحركة الطلابية والأكاديمية في إيران بمكانة خاصة، بعد مقتل مهسا أميني، حيث انضمت جامعة طهران على الفور إلى انتفاضة الشعب الإيراني في إدانة هذه الجريمة، وسرعان ما ألهم ودفع هذا العمل الأكاديمي العشرات من الجامعات الإيرانية إلى النهوض لدعم الانتفاضة، الأمر الذي أدى أيضاً إلى نهوض جامعة "شريف الصناعية" في طهران بعد أسبوعين من هذه الجريمة ضد الحاكمين وجُرِح منهم الكثيرين، ولا يزال البعض منهم في عداد المفقودين (!) نتيجة إطلاق القوات الحكومية النار على الطلاب.
في ظل الأوضاع الحالية الملتهبة استخدمت سلطات النظام جهازاً خطيراً آخر يسمى ذوي "الملابس الشخصية" لقمع الانتفاضة بشكل عام، والأكاديميين بشكل خاص، وهم في حالة هلع شديدة للغاية من تفعيل دور الأكاديميين في انتفاضة الشعب، حيث أعلن زلفي كل، وزير العلوم والبحوث والتكنولوجيا في حكومة "إبراهيم رئيسي"، يوم الأربعاء 19 أكتوبر 2022، أنه سيتم تخصيص مكتب لممثل القوات المسلحة في كل جامعة، حتى أن العقود ومذكرات التفاهم بين هذه الوزارة والقوات المسلحة ستتم متابعتها عن طريقه.
السجل الأسود
السجل الأسود الموثق بالحقائق للنظام الإيراني هو أنه، وطوال فترة حكمه، تم إعدام أو اغتيال الآلاف من أساتذة الجامعات والأكاديميين الحاصلين على درجات الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس والطلاب من قبل الهيئات الحكومية، وأصبحوا بين ملايين الإيرانيين المنفيين خارج إيران، وقد أُجبِر عشرات الآلاف من الأكاديميين والشخصيات الأكاديمية على مغادرة إيران، وإن هجرة العقول من إيران في ظل سلطة حكم الملالي هي حقيقة لا يمكن إنكارها، كما أنها دليلٌ على الافتقار إلى الحرية والمنصة الصحية اللازمة للتقدم والرقي في المجتمع الإيراني الحالي.
لعب الأكاديميون الإيرانيون دوراً مهماً في انتفاضة عام 2017 في تحقيق شعار "إصلاحيين- أصوليين.. انتهت الحكاية"، كما أن هؤلاء الأكاديميين هم الذين تحدوا البدائل غير الواقعية في المشهد الإيراني حتى في انتفاضة 2018 من خلال شعار "الموت للطاغية، سواء كان الشاه أو الملالي"، وأظهروا أن البديل الوحيد الممكن هو من ينهض من داخل المجتمع والشعب الإيراني!
إن لدور الأكاديميين المؤثر، وخاصة الطلاب، في توجيه وتحد اتجاهات انتفاضة الشعب الإيراني أهمية خاصة، باعتبارهم شريحة المجتمع المطلعة والخبيرة، فقد استطاعوا أن يكونوا عامل التضامن بين الناس والتيارات الشعبية، وعامل التركيز على الشعار والمطلب الأساسي للمجتمع وهو إسقاط الدكتاتورية، وعليه فقد كانوا في المحصلة عاملاً تقدمياً باتجاه تقدم وتطور وإنقاذ المجتمع من أي نوع من أنواع الدكتاتورية.
ولم تأتِ مخاوف خامنئي ونظامه من فراغ من احتمالية ربط القدرات الفعلية والقوية للانتفاضة الحالية بالاحتفال باليوم الطلابي في إيران، خاصة في ظل ترابط الحركة الطلابية بالانتفاضة الشعبية، وفي بيان من قبل مجلس الأمن التابع لوزارة الداخلية أنها قامت بوضع قواعد للحد من التجمعات الاحتجاجية، يعلنون فيها أنه "سنتعامل من الآن فصاعداً مع أي تجمعات احتجاجية غير قانونية!".
وتُصدر وزارة الداخلية هذه التهديدات، فيما تم سجن أكثر من 30 ألفاً من المنتفضين، وقتل أكثر من 700 منهم، وعلى الرغم من ذلك فقد استمرت الانتفاضة بالانتشار والتوسع، وأصبحت استحالة التراجع للوراء حقيقةً، وأمراً واقعاً.
ما يتم التأكيد عليه كثيراً هو وجود أكبر قدر من الدعم من جانب الحركة الاحتجاجية للأكاديميين، خاصة أن الطلاب الإيرانيين على صلة وثيقة بالانتفاضة الشعبية الواسعة النطاق والجارية حالياً في إيران، ذلك لأن استخبارات ما يسمى بـ"الحرس الثوري" وحكومة إبراهيم رئيسي يحاولان بشكل مشترك على مواجهة نهضة الطلاب وانتفاضة، والحد من انتشار الاحتجاجات والتظاهرات من داخل الجامعات إلى الشوارع، خوفاً من اشتباك الشعب مع القوى القمعية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.