في مقر "سودان فيلم فاكتوري"، يُعرض خلال ثلاث أمسيات سينمائية، عدّة أفلام من التراث السينمائي السوداني بعنوان (زيارة إلى سينما الطليعة).
أحد الأفلام المعروضة (الضريح)، فيلم قصير أنتج عام 1977، تدور أحداثه حول قبر أحد الأولياء، يتوافد إليه الناس طلباً للشفاء. يحاول الفيلم تحقيق قراءة تشريحية للواقع السوداني آنذاك، مبيّناً التداخل بين الواقع والمعتقدات الشعبية.
الفيلم الآخر (المحطّة)، وهو فيلم قصير أيضاً، يحاول توثيق الحياة في شرق السودان، مبيناً تفحّش الطرق الواصلة بين بورتسودان والخرطوم، يحفل الفيلم القصير بمدلولات قوية حول شكل الحياة السياسية في السودان. للمفارقة، كان هذا الفيلم، الذي يُعاد عرضه، أحد أواخر الإنتاجات السودانية في السينما، قبل الوقوع تحت سلطة أصولية تفرض سنين عجافاً طويلة.
منذ الفيلم المذكور في 1989، تراجع الإنتاج السينمائي السوداني بصورة كبيرة، وظل في حالة انزواء، حتى تلاشى، ولم يُستعَد الحضور السينمائي السوداني سوى منذ عدّة سنوات قليلة، تحديداً منذ 2019 وحتى الآن، لكن فعل العودة كان مقابلاً في الجودة لصعوبة سنوات الغياب الطويلة.
في هذا المقال نستعرض ثلاثة أفلام سودانية، تُمثّل الصحوة الكبيرة التي تُعيد المُنتج السوداني الفنّي إلى خريطة السينما العربية مرة أخرى، وربما العالمية أيضاً.
الحديث عن الأشجار: الكهولة تستعيد حيوية الشباب
أيُّ زمنٍ هذا؟
إنَّ الحديث فيه عن الأشجار يُوشِك أن يكون جريمة؛
لأنه يَعني الصَّمت على جرائم أشدَّ هَولاً!
ذلك الذي يَعبُر الطريق في هدوء،
ألم يعُد في إمكان أصدقائه الذين يُقاسون المِحنة
أن يَصِلوا إليه؟
فيلم الحديث عن الأشجار، الذي صدر في 2019، يقتبس عنوانه من برتولد بريخت، محاولاً مُحاكاة متن القصيدة، والذي يشتبك بشكل كبير مع الرؤية التي يعرضها الفيلم لواقع السينما في السودان.
يجتمعُ أربعة مُخرجين سودانيين، شاركوا بأفلام خلال حقبتي السبعينيات والثمانينيات، آنذاك كانوا في ذروة الشباب الفاعل، يجتمعون الآن، محاولةُ لإعادة إحياء السينما مرة أخرى في البلد الشحيح فنيّاً منذ زمن، ربما تتمثل نبتات العودة مرة أخرى في تقديم عروض سينمائية.
خلال رحلة البحث عن السينما من جديد، حاول المُخرج (صهيب الباري) أن يضع شخوصه الحقيقية في إطار متداخل، ما بين الواقع والخيال، إذ إنّهم مخرجون بالفعل، لديهم علاقة شخصية وقوية مع المكان، لكنّ مشاهد الفيلم تم الإتفاق عليها (أدائياً) بشكل مسبق. التداخل الحاصل أثرى الفيلم، وساعد، من خلال حوار الشخصيات واستدعائهم للزمن القديم، أن تكون هناك مُقابلة بين الماضي الثري والواقع الفقير فنياً.
خلال رحلة بحث الفنانين الأربعة عن أدوات شحيحة وصالة سينما مناسبة لعمل عروض سينما، يتمثّلُ البحث بشكل موسّع، عن مجتمع بأكمله، وتظهر مدلولات القِدم وتهالك شرائط الأفلام وتهالك صالات السينما، على أنّها مادة لقراءة وضع فنيّ عام.
خلال محاولات الفنانين الأربعة لعمل عرض سينمائي في السودان، ثمّة اشتباك مكاني مع حضورهم، تعطي الصورة مدلولات فنّية للقيود التي يتعرضون لها، هناك انحباس دائماً في الصورة، قيد ما، يحيلنا إلى النظر حول سلطة الحاضر التي قبضت على البلد قرابة ثلاثة عقود.
ستموت في العشرين.. البحث عن حياة جديدة
اقتباساً من قصة (النوم عند قدمي الجبل) للكاتب السوداني حمّور زيادة، أخرج أمجد أبو العلاء فيلماً عن حكاية ولدت من الثقافة الشعبية السودانية، لكنها على نفس مستوى الانتماء، تقف ضد سيادة (الموت) على مجتمع بأكمله.
يولد (مُزمّل) في جنوب السودان بالجزيرة، يصحبه فأل تطيّري بأنه سيموت في سن العشرين، حينما يفقد الشيخ وعيه أثناء عدّ السبحات، يهجر الأب عائلته خوفاً من وحش الموت الذي سكن البيت، بينما تتولى الأم رعاية والدها، وهي مُتشحّة بالسواد، كي تُسلّمه للموت، إيماناً بالنبوء.
لم يُكن حصول (ستموت في العشرين) على جائزة العمل الأول (أسد المستقبل) في مهرجان برلين آتياً من محليّة الفيلم فقط، بل لأنه تكوّن من تركيبة جاورت التجريد بالتوثيق الواقعي ومدلولات الوضع المجتمعي والسياسي في السودان.
بين هاجس الموت والرغبة في الحياة، يعيش مُزمّل مُقيّداً، كل شيء حوله يُخبره بنذير الموت، لكن المُقابل لنبوءة الشيخ، كان شخصية (سليمان) الذي ترك الجزيرة مُبكراً، لف الدنيا ورأى العالم خارج محدودية القرية الصغيرة. يُعلّم سليمان مُزمّل الحساب، ليس ليعد أيام موته، ولكن لينفتح على الدنيا وإعمال العقل، يُعرّفه على السينما، ويدفعه إلى التفكير بعيداً عن إرثه المُهترئ، الذي قتل حياته منذ بدئها.
ثمّة نزاع تأملي حول مفارقة الموت والحياة في الفيلم، لا تعني المكان وحيثياته فقط، وإنما تستحيل إلى تقديم معالجة عالمية للنزاع الإنساني المُعاصر بين الحياة والموت، بين جذور ثقافته، وبين ضرورة التعاطي مع اللحظة الراهنة بالأدوات التي تتطلّب ذلك، جاء ذلك بالإضافة إلى توظيف الحكاية في إطار محليّ، إذ تُحاكي الكاميرا مدى فقر المكان، ليس على المستوى المادي والمعيشي فقط، وإنما فقر النفوس ذاتها، تبدو مسلوبة الإرادة والاشتباك مع الواقع، بعيدةً عن أي سياق خارجي.
ولا يمكننا أن نتعرّض للفيلم دون إحالة خصوصية التجربة ونمذجة الجزيرة كمادة لقراءة الوضع المُعاصر للمجتمع السوداني، وتبعات التفحّش العسكري الحاكم بداخله. الموت، كدلالة للانتهاء والانفصال عن حياتها، يشير إلى حالة الشلل الكليّة داخل المجتمع السوداني، والذي لا يستطيع فقط أن ينظر إلى حقوقه في (العيش)، بل هو منزوع القدرة على التحُكّم بحرية داخل إطار الزمن، المادة الأكثر جوهرية، والتي تُعطي للتجربة البشرية حق الاستقلال، أو نزعه تماماً.
على مستوى جمالي، حاول أمجد أبو العلاء تقديم المكان بعين مُحب جواراً إلى الرؤية الفاحصة، رغم أن أمجد غادر السودان مُبكراً وانتقل مع عائلته إلى الإمارات، مع ذلك تظلُ حالة التودد إلى المكان بالكاميرا حاضرة، دون وضع إضافة جمالية ظاهرة، هناك مُحاكاة لما ينطوي عليه المحيطُ الذي يتناوله الفيلم، لاستنطاق جمالياته المُختبئة، والتي تقف بالتوازي أمام قبحه الظاهر.
لم تكن محاولات دفع مُزمّل إلى الحياة بعيداً عن هاجس الموت سوى مدلول لصرخة تجاه مُجتمع بأكمله، يفتقد الحق في الحياة ذاتها، في عيشها ولو بقليل من الحريّة، وفي ضرورة النظر إلى المُجتمع ككل، الذي تتصاعد آفته درجة أن تقتل وجوده منذ البدء.
السد: إلى البعيد
في إحدى قصائده القصيرة، يقول الشاعر الإيطالي أونجاريتي (إلى البعيد البعيد.. أخذوني من يدي). في فيلم السد، دفع ماهر نفسه إلى ذلك البعيد، مُتجرداً هو والمكان من أي معالم، فقط الصحراء والطوب الطيني والبناء، إلا أنّ ذلك التجرد كان غارقاً في جماعية اللحظة الراهنة.
شارك فيلم السد في مهرجان كان 2022، عُرض في مهرجان القاهرة وحصل ممثله الرئيسي جائزة أفضل مُمثّل. خلال عمل علي على الفيلم، اندلعت مُظاهرات السودان في 2018، تم تضمينها في الفيلم كخلفية تتجه إليها أحداث الفيلم الانطباعية، التي قامت على مُحاكاة بصرية تماماً وبجمل حوارية قليلة.
يعملُ ماهر في سد يُنذر بخطر بيئي، نراه هو وأصدقاءه داخل روتين البناء بالطوب الطيني، بعيدين تماماً في مكان هو بالفعل شبه مكان، يسمعون عن مظاهرات في العاصمة، لكن مُشكلتهم الكُبرى هي الحصول على مُستحقات عملهم كاملة.
حينما يُغادر ماهر إلى الصحراء، يقوم ببناء قوام شبه بشري، يُحدّثه، يسأله عن السراب الأبدي الذي يندفع تجاهه، لكن ماهر بطموح يبوح به وجهه، يُكمل عمليات الإضافة والحذف للبناء.
خلق مُخرج الفيلم تجربة بصرية تماماً، لا تشتبك مع الظرف الفارق سوى من خلال دلالات مُركّبة، الصمت الطويل والانفعالات البدائية لماهر تُنذرنا برهبة الحدث، وبالخطر الناتج عنه أيضاً، ربما تشير فكرة البناء غير متكمل التعريف إلى واقع مجتمعي، لكن التجريد البصري والخروج عن سياقات الزمان والمكان تضعُ كل التأويلات في حيّز بعيد عن الواقع.
ضمن الإشارات الأكثر قرباً، ظهر المكان الصحراوي بشاعرية جميلة، وحميمية تنطلق من مكان لا يشير إلا للفراغ والقسوة الناتجة عنه، تظل محاولات ماهر العنيدة في خلق (عمار) ما يشغلُ ذلك الفراغ، دلالة لمحاولة تأمل الحُميّة الثورية الحاصلة في العاصمة، والتي تبحث، بإصرار، عن بديل لسلب الحياة.
جدير بالذكر أن الأفلام الثلاثة، أثناء تصويرها، توقفت مؤقتاً بسبب المظاهرات الثورية في السودان، وربما لذلك تُنثر مفردات التغيير مُضمنّة في الأفلام الثلاثة، تُنذرنا بأننا امام مجتمع يبحث عن عالم جديد، يريدُ خلقه بالتعاون والعدالة، والحراك الفنّي والسينمائي ركن أساسي، لا بدَّ أن يُعاد ميلاده في ذلك العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.