من منا لم يسمع عن بينوكيو من قبل؟ قصة الفتى الخشبي الذي نحته صانع الدمى جيبيتو ليكون ابناً له، لكن بينوكيو يترك والده لينطلق في مغامرة بحثاً عن طريقة تجعله طفلاً حقيقياً.
بالتأكيد قرأت القصة من قبل خلال سنين طفولتك، أو حتى رأيت المئات من الرسوم المتحركة التي تعيد سردها كل مرة بطريقة مختلفة، وفي كل مرة يُعاد فيها سرد القصة، نجدها تحافظ على قالبها الأساسي الذي سُرد لأول مرة الروائي الإيطالي Carlo Collodi في روايته الأصلية باسم Pinocchio.
أعاد لنا صانع الأفلام والفائز بالأوسكار Guillermo del Toro سرد القصة من جديد في فيلمه الصادر عن شبكة نتفليكس Guillermo del Toro's Pinocchio ليقدم أحد أعظم أفلام الرسوم المتحركة التي صدرت هذه السنة، في ساعتين كاملتين من المشاهد الساحرة الآسرة للعقل بتقنية الـstop motion والمشاعر العائلية الرائعة والمغامرات السحرية المبهرة.
لذا دعني آخذك في رحلة قصيرة حول هذا الفيلم، ولماذا أعتبره أحد أفضل أفلام عام 2022؟
عن الفيلم:
في البداية يسرد الفيلم قصة النجار العجوز جيبيتو، وابنه الوحيد كارلو، واللذان يعيشان معاً حياة مريحة مليئة بالحب المتبادل بين الأب وابنه، حب كان كافياً لهما ليعيشا بسعادة فترة من الوقت، لكن كعادة هذا العالم، تخطف الحرب منا أحباءنا، وسرعان ما يجد جيبيتو نفسه وقد دفن ابنه الوحيد بسبب قذيفة محت طفله من هذه الحياة.
يغرق جيبيتو في اليأس، وفي نزوة سكر يقرر أن يصنع دمية في حجم طفل، بينما يتمنى قلبه لو تستيقظ لتأخذ مكان طفله، وهكذا لا يدري جيبيتو أن هناك قوى خفية تستمع لأمنياته، فتستيقظ الدمية كطفل حي، وتبدأ مغامرته مع والده جيبيتو كي يعثر على حقيقة كونه طفلاً لا دمية، في مغامرة ساحرة ومريبة.
بالطبع كعادة أعمال ديل تورو حصد الفيلم تقييمات مرتفعة بشكل مبهر، فقد قيمه النقاد بدرجة 97% على موقع rotten tomatoes وكذلك تقييم 7.8 على IMDB و79% على موقع Metacritic.
ولم يكتفِ الفيلم فقط بالتقييمات، فقد استطاع حصد 12 جائزة و42 ترشيحاً منها جائزة AFCC كأفضل فيلم رسوم متحركة، وجائزة BOFCA كأفضل فيلم رسوم متحركة كذلك.
عن فن الـStop motion:
تكمن إحدى أهم نقاط قوة العمل وسحره، في كونه مصاغا بتقنية الـstop motion، والتي تتم عن طريق فنانين محترفين يحركون تماثيل الشخصيات بأيديهم بعيداً عن استخدام تقنيات الحاسب والجرافيك.
ولكي يمكنك فهم صعوبة هذا الأمر، وكيف يستغرق مدة طويلة وشغفاً لا يمكن وصفه، عليك أن تعرف أن شخصية واحدة من شخصيات الفيلم لتقوم بحركة لثانية واحدة، يجب أن يتم تصوير حركتها على مدار 24 إطاراً وصورة، ويمتد هذا الأمر لمدة ساعتين كاملتين أي ما يوازي 7200 ثانية بمعنى أننا سنحتاج لشخصية واحدة 172 ألف صورة، والآن نضيف بقية الشخصيات، وستدرك مقدار العمل والشغف والاهتمام والدقة الذي يتطلبه هذا الأمر، ولهذا ليس مستغرباً أبداً أن يأخذ هذا الفيلم سنتين كاملتين في صناعته، ولكن الناتج النهائي في النهاية يخبرك عن جمال هذا الفن وروعته، والذي يمنحك انطباعاً عن حقيقة العالم الذي تراه بعينيك وتسمعه بأذنيك، والدفء الملموس بعيداً عن تكنولوجيا الجرافيك الباردة.
بينوكيو بين القومية الفاشية والرأسمالية المتوحشة:
رغم أن أحداث الرواية الأصلية، تأخذ مجراها خلال القرن الـ19، إلا أن ديل تورو يقرر أن يجعل قصته تأخذ طريقاً مختلفاً عبر إيطاليا الفاشية تحت حكم موسوليني.
هناك، حيث الحرب تلوح في كل جانب، ويسيطر على الدولة رجال يعانون من عقدة نقص مزمنة، ويتخلل جذورها رأسمالية متوحشة، يجد بينوكيو الطفل الحالم والذي لا يزال في شهوره الأولى في هذا العالم بين ضباط لا يفهمون معنى الأبوة، ويخضعون بالكامل لقومية فاشية ترمي بشباب أمتها في آتون حرب بلا هدف، وبين شيطان رأسمالي حقير لا يجد غضاضة في استغلال طفل لأجل ربحه المادي.
وبين هذين الاثنين، يجد جيبيتو الأب وبينوكيو الابن نفسيهما في رحلة بحث عن حقيقة علاقتهما كأب وطفله.
وهاتان الشخصيتان هما الكونت فولب المالك للسيرك، والذي لا يهمه شيء سوى المال، وبوديستا الضابط في حكومة موسوليني الفاشية، والذي يؤمن بكل ما في قلبه في مبادئه الفاشية.
في البداية، سيمكنك أن ترى بكل وضوح كيف ترى هاتين الشخصيتين بينوكيو، وكيف تعكس رؤيتهما منظور الأفكار التي يعبران عنها إلى شبابنا.
فبالنسبة إلى الكون فولب، والذي يمثل الرأسمالية في أكثر وجوهها قبحاً وشيطانية، مهما أدرك أن بينوكيو ليس سوى طفل يسعى لإرضاء أباه جيبيتو، لا يمثل له إدراكه ذاك شيئاً يُذكر، فبينوكيو في النهاية ليس سوى دمية تتحرك بلا خيوط، منتج يسوقه لأجل المال، قطع معدنية من النقود بلا روح وبلا صوت.
وهذا بالضبط ما تراه الرأسمالية في البشر، فهم ليسوا سوى أرقام مالية، بلا روح وبلا حياة، ولا تتعامل معنا في النهاية سوى بهذه النظرة.
أما بالنسبة إلى بوديستا، فهو الوجه الفاشي المثالي لحكومات الحرب العالمية الثانية وحكومات اليمين المتطرف اليوم، فهذا الرجل الفاشي، لم يرَ في بينوكيو الطفل سوى جندي خارق لا يموت، سيرسله إلى الجبهة ليموت مراراً و تكراراً لأجل حفنة تراب يسميها بوديستا الوطن، ولأجل قزم مجنون يسمونه موسوليني.
وهكذا يمكنك أن ترى بكل وضوح حقيقة عالمنا الفاشي في هذه الشخصية، حيث يتم إلقاء ملايين الشباب في أتون حرب لا تعني لهم شيئاً ولا تمثل سوى أطماع لزعماء مختلين والحرب الروسية الأوكرانية لا تزال أمام أعيننا حتى هذه اللحظة.
فكم بينوكيو يا ترى قضى في أتون تلك الحرب من الجانبين، ولكن بلا قدرة على العودة للحياة كما بينوكيو الخيالي؟
أعمال أخرى لديل تورو ستنال إعجابك بكل تأكيد:
1-Pan's Labyrinth
تنتقل أوفيليا مع والدتها إلى منزل زوج أمها، وفي الليل، تقابل جنية تأخذها إلى كائن غريب، حيث يخبر الكائن أوفيليا بأنها أميرة، وأن عليها النجاح بـ3 اختبارات لتثبت حقيقة كونها أميرة.
إحدى التحف الفنية الخالدة لديل تورو، حيث تمثل متاهة بان، مزيجاً سحرياً من الرعب والجمال.
2-Crimson Peak
تتجاهل إيديث تحذيرات والدها، وتتزوج من السير توماس شارب، وحين تنتقل إلى قصر آل شارب، تكتشف حقيقة أسرار زوجها، والأشباح التي تسكن قصره.
فيلم رائع من الرومانسية والرعب، سيجعلك تندم على انتهائه.
3-Pacific Rim
في مواجهة تهديد عالمي لمخلوقات ضخمة، تصمم الحكومات آليين في غاية الضخامة تسمى الييجرز، ولكن بعد زمن ليس بالطويل، تقرر الحكومات التخلي عن مشروع الييجرز لاستبداله بجدار ضخم، ولكن التهديدات الجديدة للعالم تثبت أن الييجرز هم أمل البشرية الوحيد.
أحد أكثر الأفلام الممتعة والمبهرة بصرياً، تجربة ستستمتع بكل ثانية فيها.
في النهاية، يمكن القول إن فيلم بينوكيو من إخراج ديل تورو، من أفضل الأفلام التي شاهدتها، لذا أنصحك بألا تقوم بتفويته، فهو فيلم عائلي غني بالمشاعر والجمال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.