عند الاجتهاد لاستشراف ورسم معالم المشهد الفلسطيني بالعام الجديد 2023 لا بد من استحضار أربعة معطيات ومحددات أساسية رافقت العام المنصرف للبناء عليها، وهي المقاومة الشعبية التي تطوّرت منذ هبّة الشيخ الجراح وباب العامود من السلمية إلى العمليات المسلحة الفردية، ثم المنظمة عبر كتيبة جنين وعرين الأسود بنابلس، كما استمرار الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس والضفة وغزة، إضافة إلى الطابع التقليدي الرسمي البارد لموجة التطبيع العربية الجديدة التي قادتها الإمارات مع إسرائيل، وأخيراً الانتخابات العامة في هذه الأخيرة التي أعادت بنيامين نتنياهو وحلفاءه المتطرّفين إلى السلطة لتشكيل الحكومة الأكثر يمينية تطرّفاً وعنصرية في تاريخ الدولة العبرية.
المقاومة الشعبية
بداية، وفيما يخص المقاومة الشعبية، يمكن الاستنتاج دون عناء أنها ستتواصل أيضاً في العام الجديد كون الأسباب والمعطيات التي أدت إلى ظهورها وتطورها في العامين الماضيين لا تزال حاضرة ومتواصلة حيث الضفة الغربية -بما فيها القدس- تمثل ساحة المقاومة المركزية اليومية والمتواصلة بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي المباشر، كما عدم التوافق الداخلي على استراتيجية وطنية موحدة لإدارة الصراع وتولي الشعب الفلسطيني بنفسه زمام القيادة والمواجهة في الميدان، ثم المحاولات الإسرائيلية المستمرة لتغيير الواقع الراهن بالمسجد الأقصى والقدس بشكل عام، والسعي لإقامة مستوطنات جديدة أو إحياء وترميم تلك القديمة التي تم تفكيكها والانسحاب منها إثر تنفيذ إسرائيل خطة فك الارتباط والانفصال الاحتلال عن غزة وشمال الضفة الغربية في العام 2005.
مع تولّي حكومة نتنياهو السلطة وسعيها العلني وغير الخفي لتعميق وتوسيع التهويد والاستيطان في الضفة بما في ذلك القدس واستغلال الظرف المناسب لفرض التقسيم الزماني والمكاني بالمسجد الأقصى والحرم الشريف بشكل عام ستزداد المقاومة حتماً في مواجهتها، خاصة مع المجاهرة بالرغبة في فرض السيادة بالضفة الغربية حسب مصطلح التذاكي والتحايل الإسرائيلي؛ ما يعني ضمّ مناطق واسعة منها تحديداً منطقة "ج" التي تبلغ مساحتها 60% أي أكثر من نصف الضفة، مع نية واضحة لتهجير آلاف الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم. وعليه ستتطور وتتصاعد المقاومة الشعبية لتلامس حدود الانتفاضة خلال العام القادم انطلاقاً من شهر رمضان أواخر مارس/آذار القادم وما بعده من مناسبات وطنية فلسطينية؛ مثل ذكرى النكبة -أيار/مايو- واحتلال القدس -يونيو/حزيران- وبينهما ما تسمى مسيرة الأعلام الإسرائيلية، وسنرى بالتأكيد مزيجاً من المقاومة الشعبية السلمية والمسلحة سواء أكانت فردية أو منظمة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الإحصائية الإسرائيلية الرسمية المعلنة أمس الخميس -29 ديسمبر/كانون الأول- والتي تحدثت عن قتل "استشهاد" 227 مواطناً فلسطينياً، وتنفيذ الاحتلال 3000 عملية اعتقال، وهدم قرابة الـ1000 منزل ومبنى ومؤسسة ثلثها بالقدس، مع آلاف العمليات الفلسطينية خلال العام الماضي، ويمكن بالتأكيد توقع تضاعف تلك الأرقام خلال العام القادم.
الانقسام الفلسطيني
أما بالنسبة لعملية إنهاء الانقسام والمصالحة، وللأسف وقياساً إلى ما رأيناه العام الماضي فلا بوادر جدية وملموسة لإنهاء الانقسام وتطبيق تفاهمات ووثائق المصالحة ذات الصلة بما فيها إعلان الجزائر الذي بدا نظرياً ودعائياً بامتياز مع هروب سلطة رام الله المنهجي من الاستحقاق الانتخابي، وترتيب البيت الوطني والمؤسسات بشكل ديمقراطي ووطني ونزيه وشفاف، ومع تسريبات نهاية العام الصادمة لحسين الشيخ، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والمرشح الأبرز لخلافة الرئيس محمود عباس.
سنكون ولا شك أمام استمرار معركة كسر العظام والصراع داخل حركة فتح والمنظمة بشكل عام في غياب آليات مؤسساتية منهجية وراسخة لنقل السلطة والقيادة ما ينعكس سلباً على ملف المصالحة برمته، إضافة بالطبع إلى انشغال غزة بإنعاش نفسها وأخذ ما تشبه استراحة المحارب وتضميد جراحها بعد أربع حروب وعدة جولات قتالية خلال 15 سنة تقريباً.
غير أن هذا لن ينعكس بالتأكيد على المقاومة نفسها نهجاً وفعاليات وحتى احتمال اندلاع انتفاضة جديدة في ظل السوابق التاريخية المماثلة؛ حيث كان الشعب الفلسطيني دوماً سابقاً قيادته في الميدان، كما رأينا في الانتفاضتين؛ الأولى انتفاضة الحجارة، كانون الأول/ديسمبر 1987، والثانية انتفاضة الأقصى في أيلول/سبتمبر 2000.
ملف التطبيع
وفيما يتعلق بالتطبيع وتحديداً الموجة الجديدة منه، فهي وعلى عكس ما سعى أو تمنّى مطلقوها فقد جاءت تقليدية رسمية وباردة تماماً كما النموذج القديم المصري-الأردني. وعليه يمكن الاستنتاج أن فكرة توسيع مسيرة التطبيع خلال العام القادم لتضم دولاً عربية إضافية تبدو غير منطقية كون الموجة نفسها غير جذابة، ناهيك عن تصرفات وممارسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي خطت برجلها الشمال ولن تكون سياساتها وممارساتها مشجعة للدول العربية على التحرك والتطبيع مع إسرائيل حتى إذا أرادت ذلك، خاصة مع الأجواء التي شهدها مونديال العرب بقطر الشهر الماضي، والتي لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها تحديداً لجهة الرفض الجماهيري القاطع للتطبيع بما فيها الموجة الجديدة، وتأكيد أن فلسطين كانت ولا تزال القضية المركزية للشعوب العربية.
وعندما يقر الملك الأردني عبد الله الثاني بهذه الحقيقة -كما فعل في حواره مع قناة سي إن إن الأربعاء الماضي- أي صعوبة تجاهل القضية الفلسطينية في ظل التمسك الشعبي الراسخ بها، ويصل الى درجة القول إن حكومته مستعدة للمواجهة إذا سعت الحكومة الإسرائيلية لتجاوز الخطوط الحمراء، خاصة في القدس والمسجد الأقصى. يبدو التصريح واقعياً تماماً مع الانتباه إلى أنها محاولة "محمودة بالطبع" لاسترضاء واستمالة الشارع الأردني الغاضب من الحكومة وسياساتها الداخلية والخارجية والرافض قطعياً للتطبيع مع إسرائيل.
أما فيما يخص حكومة نتنياهو وكما تبدى من الاتفاقيات الائتلافية فستكون حكومة استيطان وتهويد وقتل وتشريد وتمييز وفصل عنصري، سواء في الأراضي المحتلة عام 1967 أو تلك التي احتُلت عام 1948، وستكشف القناع عن وجه الدولة العبرية الحقيقي؛ ما يساعدنا كفلسطينيين على تظهير جوهر الصراع وحقيقته، وشرح روايتنا العادلة للعالم، وفرض العزلة والمقاطعة عليها سيكون أسهل بالتأكيد. وفي السياق ستتسارع بالتأكيد خلال العام القادم الوتيرة القضائية لمحاسبة إسرائيل على جرائمها الفردية والجماعية، أمام المحكمة الجنائية الدولية وباقي المحاكم والساحات القضائية ذات الصلة.
وداخلياً، بالتأكيد لن تكون الحكومة الجديدة عامل استقرار في الدولة العبرية، وستتزايد الأزمات والاحتجاجات الداخلية خلال العام القادم وصولاً إلى انتخابات مبكرة -ولو بعد حين- وستكون تداعيات وهزّات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية لا تنتهي مع استحضار هاجس النبوءة حيث لم تتجاوز أي دولة يهودية تاريخياً عقدها الثامن، خاصة إذا ما كانت استعمارية وغريبة في مواجهة بيئة معادية لا ولم ولن تتقبلها، وشعب صامد عنيد ومقاوم لا يستسلم ولا يلين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.