الجدل القائم، اليوم، في المغرب حول مقومات الهوية الوطنية، يؤكد وجود تحديات حقيقية تواجه السيادة الوطنية في المجال الهوياتي. فقد عاش المغرب، لقرون، انسجاماً هوياتياً ساعد على تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، ومكن البلاد من فرض نفسها كرقم صعب في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وحتى خلال مرحلة التراجع السياسي، خلال القرن التاسع عشر، فإن المغرب تمكن من فرض شخصيته الوطنية، وفرض على الكيان الاستعماري تعاقداً جديداً لم يكن سائداً خلال تلك المرحلة الاستعمارية- في شكل نظام حماية يمكن البلاد من المحافظة على كيانها الهوياتي وشخصيتها الوطنية.
ولعل هذا، ما دفع الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا إلى اعتبار أن المغرب من الدول المستعمرة القليلة التي حافظت على تماسكها الثقافي والديني بفضل نظام الحماية الذي حصن الشخصية الحضارية للمغرب رغم فقدانه للاستقلال السياسي، وذلك لم يحدث مثلاً مع الجزائر ومجموعة من الدول الإفريقية، التي خضعت لسيطرة استعمارية كاملة خلفت جروحاً في الذاكرة الثقافية الجمعية لم تندمل إلى حدود اليوم.
"بلقنة" المغرب
لكن رغم هذه الخصوصية المغربية، فإن المستعمر الفرنسي جرب القوة الناعمة بعد فرض سيطرته السياسية، وذلك لزعزعة الاستقرار الهوياتي في المغرب، فمن جهة وظف منظومة التعليم لفرض اللغة الفرنسية واستئصال اللغة العربية، ومن جهة أخرى وظف البحث السوسيولوجي لتفكيك الهوية الوطنية المنسجمة إلى نزعات عرقية متصارعة، وكل ذلك كان يستهدف تفجير الهوية الوطنية من الداخل عبر توظيف ألغام عرقية ولغوية.
ويعتبر الظهير البربري تتويجاً للمخططات الاستعمارية التي سعت إلى الانتقال من مستوى التنظير إلى مستوى التجسيد والممارسة، وذلك لأن مخطط الفصل بين المكونين العرقيين واللغويين (العرب/العربية- الأمازيغ/الأمازيغية) يدخل ضمن خطة تفكيك مقومات الهوية الوطنية المنسجمة إلى هويات متصارعة من الداخل، وهذا يخدم الاستراتيجية الاستعمارية التي كانت تسعى إلى تحويل المغرب إلى امتداد مباشر للمستعمر.
في سياق هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المغرب كان التراث الحضاري المتجذر في التربة المغربية حاضراً بقوة، ليقود أشرس المعارك ضد المستعمر الفرنسي، وهكذا ولدت الحركة الوطنية من رحم التحدي الهوياتي الذي فرضه الاستعمار، وبعد ذلك تحولت المواجهة إلى المستوى السياسي والعسكري، وكان الهدف المرسوم من طرف القادة الوطنيين هو طرد الاستعمار، واستئصال مخططاته الرامية إلى زعزعة الاستقرار الهوياتي للمغرب.
بعد الاستقلال، حاول الاستعمار الفرنسي، من خلال أذرعه الثقافية، تحقيق الاستمرارية لمشروعه القاضي بـ"بلقنة" الهوية الوطنية في المغرب، كجزء من الامتداد الاستعماري السابق، وهذا ما كانت تجسده منظمة الفرنكفونية التي ارتبط ظهورها بمرحلة الانسحاب العسكري الفرنسي من المستعمرات السابقة؛ ولذلك تبلور مصطلح الفرنكفونية بهدف تحويل الخطة من استعمار عسكري إلى استعمار ثقافي يمر عبر الاختراق اللغوي، لكن الاستراتيجية ظلت هي نفسها: الخروج من الباب والعودة من النافذة!
ولعل العودة إلى مجموعة من التواريخ، ذات الصلة بتأسيس منظمة الفرنكفونية، لتؤكد بالملموس هذا الطرح. ففي سنة 1960 انعقد المؤتمر الأول لوزراء التربية والتعليم في فرنسا وإفريقيا، حيث تبلور مفهوم الفرنكفونية، نظرية ومنهجاً، وبعد قطع عدة أشواط في الدراسة والاستعداد انعقدت المناظرة الوزارية للفرانكفونية في بوخارست سنة 1988 حيث تم إقرار مصطلح (المنظمة الدولية للفرنكوفونية) للدلالة على مجموع الهيئات الفرانكفونية.
المشروع الفرنكفوني
إن الفرنكفونية باعتبارها استعماراً ثقافياً، لم تتأسس من فراغ بل إن المشروع الفرنكفوني كان حاضراً خلال المرحلة الاستعمارية، حيث كان الاستثمار الاستعماري في إفريقيا يتخذ طابعاً ثقافياً، من خلال محو المكونات الثقافية للبلدان المُستعمَرة وتعويضها بالمكون الثقافي الاستعماري، وذلك ما تحقق في الكثير من البلدان الإفريقية التي عاشت طوال المرحلة الاستعمارية على وقع ( تطهير ثقافي) لا يختلف كثيراً عن التطهير العرقي الذي مورس على الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية.
في المغرب، دشنت فرنسا تجربة فريدة لتحقيق مشروعها في التطهير الثقافي، فقد أسست تجربة مدرسية فريدة من نوعها أطلقت عليها اسم المدارس الفرنسية-البربرية، وهي تجربة لم يكن المقصود منها تعليم الناشئة والمساهمة في إرساء أسس تعليم ناجح، بل إن ذلك يدخل في سيرورة متصلة الحلقات في إطار سعي الاستعمار الفرنسي إلى تحقيق مشروعه القاضي بزعزعة استقرار الهوية الوطنية لأنه أدرك، مبكراً، أن قوة المغرب، التي مكنته من مواجهة أعتى القوى الاستعمارية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، تكمن في انسجامه الهوياتي في علاقة بالامتداد الحضاري العربي الإسلامي، هذا الامتداد الذي كان المغرب فاعلاً في بنائه والدفاع عنه في تجسيده الأندلسي – المغربي.
لقد كانت هذه التجربة المدرسية، إذاً، موجهة لاستئصال الجذور الثقافية واللغوية العربية في المغرب، من خلال تقديم اللغة والثقافة الفرنسية كبديل، وذلك من منظور استعماري يعتبر أن الثقافة العربية في المغرب لا تتميز بالأصالة، بل هي ثقافة دخيلة مثلها في ذلك مثل الثقافة الفرنسية!
وللإيهام بحقيقة هذه الفرضية حاولت السوسيولوجيا الكولونيالية تقديم أبحاث سعت من خلالها إلى تقسيم سكان المغرب إلى مكونين اثنين، المكون الأمازيغي الذي اعتبرته مكوناً أصيلاً والمكون العربي الذي اعتبرته طارئاً.
ولذلك فإن التجربة التعليمية الجديدة كانت موجهة، في الأساس، إلى المكون الأصيل قصد تكوينه وتأهيله للعب دور مستقبلي في تحقيق المشروع الاستعماري القاضي بزعزعة استقرار الهوية الوطنية الموحدة، هذه الهوية التي يعتبرها منظرو السوسيولوجيا الكولونيالية طارئة وغير أصيلة.
من خلال العودة إلى البدايات الأولى لهذا المشروع الثقافي الاستعماري، نجد أنه واجه تحديات جمة لما حاول الانتقال من مستوى التنظير إلى مستوى التجسيد على أرض الواقع، وقد تجلت أبرز هذه التحديات خلال مرحلة الثلاثينات من القرن العشرين، هذه المرحلة التي تؤرخ لصدور الظهير البربري عن سلطات الحماية، وهو نص قانوني كان يؤسس لمشروع الفصل الإثني بين المكون العربي والمكون الأمازيغي في المغرب.
لقد أسس صدور هذا الظهير لمرحلة جديدة من النضال الوطني، الذي اتخذ في البداية طابعاً هوياتياً من خلال توحد كل المغاربة الوطنيين للدفاع عن مقومات الهوية الوطنية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ المغربي، وقد تحول هذا النضال الهوياتي إلى مشروع سياسي كبير هو الذي قاد المغاربة إلى تأسيس حركة وطنية، ذات أبعاد سياسية وعسكرية، تمكنت من طرد الاستعمار وإفشال مشروعه .
وعندما نتحدث عن مشروع الحركة الوطنية، فإننا على تمام الوعي بالتحديات التي واجهها هذا المشروع، خارجياً وداخلياً، فعلى المستوى الخارجي تجندت فرنسا للدفاع عن مصالحها الاستعمارية في المغرب المستقل، وظلت متمسكة بالعمل على تهديد الانسجام الهوياتي كمدخل لتحقيق استمرارية المشروع الاستعماري، سياسياً واقتصادياً، وهذا ما جسدته منظمة الفرنكفونية التابعة لوزارة الخارجية الفرنسية، هذه المنظمة التي تمثل استمرارية لوزارة المستعمرات إبان الفترة الاستعمارية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.