"لقد كانت لعبته هو، شكراً بيليه على كل شيء، ارقد في سلام"
نعي ديفيد بيكهام لبيليه.
في وسط مئات عبارات النعي التي أطلقها اللاعبون لبيليه بعد وفاته، لم أجد أقرب لوصف مسيرة بيليه مع الكرة من جملة ديفيد بيكهام: "It wad HIS game". بيليه هو صاحب الكرة.
لقد فعلها منذ 50 عاماً.. عنوان لمقطع فيديو ظهر على الإنترنت منذ عشرة أعوام تقريباً، حقق مئات الملايين من المشاهدات على المنصات المتعددة. أقترح عليك ألا تُصدر أي حكم على مسيرة بيليه قبل أن ترى هذا الفيديو.
قبل هذا المقطع وأشباهه، كان بيليه بالنسبة لسكان الشرق الأوسط على الأقل رجلاً أسمر، يسمعون أنه سجّل أكثر من 1000 هدف، وجلب ثلاث كؤوس عالم لبلده، ويزاحم مارادونا، الذي رأوه يفعل- دون غيره- ما لا تصدقه عيونهم بالكرة.
سنصدق الفيفا والإعلام الذين يقولون إنه يتقاسم مع مارادونا عرش القرن العشرين، لكننا بيننا وبين أنفسنا نصدق ألّا أحد مثل دييغو مارادونا، الذي نشاهده على التلفاز هو الأفضل.
لكن عقب تمكُن الإنترنت من حياتنا بنهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، تفاجأت أجيال عديدة أن أغلب المهارات التي يرونها في الكرة الحديثة اليوم، قد فعلها رجل برازيلي أسمر منذ 50 أو 60 عاماً بالفعل، فعلها في زمن اعتقدت تلك الأجيال أن كرة القدم فيه كانت بسيطة، أهداف كثيرة ودفاعات ساذجة ومهارات شبه منعدمة.
هنا تغيرت علاقة بيليه بالأجيال الجديدة، من مساحة مجاراة الإعلام في ادعاءاته بتفرُّد بيليه، إلى اليقين بعظمة تلك الجوهرة السمراء، وبكونه نقطة فارقة أضافت بُعداً جديداً للعبة ومراوغاتها وأرقامها.
لكن هل كانت براعة بيليه بالكرة فقط هي سر أسطوريته ومزاحمته لمارادونا في القرن العشرين على لقب الأفضل بالتاريخ؟
عام 2000: حرب السير الذاتية
في عام 2000، وصلت حرب التصريحات بين بيليه ومارادونا إلى ذروتها. لقد أصدر الأسطورتان سيرتهما الذاتية في نفس العام، بل وفي نفس الشهر.
حدث اللقاء الأول بين النجمين عام 1979، بعد عامين تقريباً من انتهاء مسيرة أحدهما وبداية مسيرة الثاني، تلك الصورة الشهيرة التي التُقطت لهما وهما يلعبان الجيتار كانت في ذلك اللقاء.
توقّع العالم أن يسلّم بيليه عرش كرة القدم في سلام، لكن مع تعاظم قيمة مارادونا، وخاصة بعد مونديال 1986 اختلف الأمر، اختلف الأمر بسبب ارتفاع الأصوات بالسؤال الذي أرّق الجميع: مَن الأفضل في تاريخ كرة القدم؟
في سيرته الذاتية "I Am The Diego" يقول مارادونا إنه إذا صنف أعظم 100 لاعب كرة قدم عبر التاريخ سيكون بيليه في مقدمتهم، لكنه مع ذلك لا يحب نموذج بيليه كلاعب. لماذا؟ لأنه كان يتمنى أن يرى بيليه الذي يدافع عن حقوق اللاعبين، ويقف بجانب زميله جارينشيا لينقذه من الموت بالفقر والمرض. كان يحب أن يستغل بيليه مكانته التي وصل لها ليحارب أثرياء كرة القدم ونفوذهم لأجل كرة القدم الفقيرة.
في المقابل، وفي السيرة الذاتية لبيليه "Pele: His Life And Times"، يقول الكاتب هاري هاريس، إن بيليه صنّف مارادونا كأفضل لاعب كرة قدم رآه، لكنه لا يرى أنه رياضي يُحتذى به، لا ينبغي أن يكون الرياضي صاخباً أو مدمناً للمخدرات، أو لا يتردد في نعت منافسيه بالشواذ جنسياً، كما فعل مع بيليه نفسه قبل إصدار الكتاب بسنوات.
تخبرك تلك العبارات عن الطريقة التي رأى بها كل منهما الآخر، هذا فيما يتعلق بنظرة كل من الأسطورتين لبعضهما، فماذا عن نظرة شعبيهما لهما؟
ماذا نفعل في مواجهة الانقلاب العسكري؟ (1)
من المفارقات المثيرة في مسيرتَي كل من مارادونا وبيليه، أن كلاهما قد بدأ في ظل وجود بلاده تحت حُكم ديكتاتوري أتى به انقلاب عسكري.
أحب بيليه كلاعب، لكني لن أتوقف عن انتقاده كمواطن برازيلي، كلمة واحدة من بيليه كان بإمكانها أن تفعل الكثير لنا وقت الانقلاب، لكنه فضّل الصمت، رغم أنه كان في وضع أكثر أماناً من ملايين البرازيليين.
_باولو سيزار ليما زميل بيليه في المنتخب البرازيلي
في عام 1964 حدث الانقلاب العسكري في البرازيل، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، في ذلك الوقت كان بيليه رمزاً أسطورياً في البرازيل، رغم أنه لم يتجاوز 24 عاماً حينها، كان الصغير الأسمر قد جلب لبلاده نسختي كأس العالم لعامي 1958 و1962، وخلق شعوراً لدى البرازيليين بالثقة في قدرتهم على النجاح والتوحد بعد سنين من الإخفاق. لم يخلق بيليه مراوغات جديدة في كرة القدم فحسب، بل خلق هوية شعب بأسره، شعب مجنون بكرة القدم ومتفرّد بها.
لكن بعد الانقلاب العسكري لم يُبدِ بيليه أي رد فعل معارض كما انتظر كثير من البرازيليين، آثر بيليه الهدوء كعادته، وخدمة شعبه كرياضي لا ثوري، فعاد وجلب كأس العالم لبلاده عام 1970، فأعاد للبرازيليين شعورهم بالتوحد مرة أخرى، بعدما فتت الانقلاب العسكري شملهم.
في الوثائقي الذي أنتجته شبكة Netflix عن بيليه، تم سؤاله بشكل مباشر عن تلك الفترة، فقال إنه ليس سياسياً، ولا يفهم بالسياسة، لكن عندما ازدادت الأوضاع سوءاً تحت الحكم العسكري كان باب بيته مفتوحاً لكافة البرازيليين، وأنه شارك بمونديال 1970 فقط من أجل إسعادهم وتخفيف جراحهم، رغم تعرضه لمضايقات من الحُكم العسكري، بسبب رفضه لاستغلاله سياسياً.
ماذا نفعل في مواجهة الانقلاب العسكري؟ (2)
في المقابل بدأ دييغو مسيرته عام 1977 تقريباً، كانت الأرجنتين حينها هي الأُخرى تحت الحُكم العسكري الديكتاتوري للجنرال خورخي فيديلا.
في عام 1982، دخلت الأرجنتين حرباً ضد إنجلترا في نزاعها على جزر الفوكلاند، والتي تبعد عن شواطئ الأرجنتين حوالي 500كم. هُزمت الأرجنتين وقُتل ما يزيد عن 600 شاب أرجنتيني في تلك الحرب، وتأججت الاحتجاجات داخل الأرجنتين ضد الحُكم العسكري، والذي سقط عام 1983.
لا يوجد أي مصدر أو مرجع يمكن الوثوق به، لأي فعل مقاوم قام به دييغو ضد الانقلاب العسكري. كان عمر مارادونا في ذلك الوقت حوالي 22 عاماً، وهو ما يجعل الأمر منطقياً، لكن الفعل المقاوم الذي فعله دييغو، وصار ملء السمع والبصر حتى يومنا هذا، هو انتقامه من الإنجليز في كأس العالم 1986.
لن يُمحى هدف مارادونا بيده، ومراوغته للمنتخب الإنجليزي بأكمله قبل هدفه الثاني في مباراة الأرجنتين وإنجلترا في تلك النسخة المونديالية، من ذاكرة البشرية، لن يكف البشر عن إعجابهم بتصريحاته الثورية بعد تلك المباراة.
هي يد الرب، الله قرر ذلك وأعمى بصيرة الحكام، لكي يسترد الأرجنتينيون جزءاً من كرامتهم المهدورة أمام الإنجليز. أشعر أننا استرددنا قطعة من أرض الفوكلاند اليوم.
_تصريحات مارادونا بعد مباراة الأرجنتين وإنجلترا في مونديال 1986.
اتخذ مارادونا مساراً ثورياً في مسيرته، وهو ما جعل ارتباط الأجيال به عاطفياً أكثر منه فنياً، حتى لو كان هذا المسار الثوري آمناً ضد بلد غريب، وليس مخاطراً ضد انقلاب عسكري داخلي، إلا أنه يظل ثورياً مثيراً للإعجاب.
فقير وصاخب وقائد
اختار كل من بيليه ومارادونا إسعاد شعبه، وإحياء همته وكرامته مرة أخرى، كل منهما على طريقته التي يراها صحيحة. كل منهما قام بالفعل ذاته، وليس كما يتصور البعض أن مارادونا فعل ذلك دون بيليه.
والأهم من ذلك، أنهما كما حدداً معاً إطار العبقرية في كرة القدم، فقد حددا أيضاً الشروط الثلاثة لدخول نادي الأفضل في التاريخ. الشرط الأول هو المجيء من خلفية فقيرة من وسط الشعب، أما الثاني فهو الإتيان بما لم يأتِ به غيرك في الملعب، سواء فنياً أو إحصائياً.
أما الثالث والأهم، فهو استرداد هوية شعبك المكلوم، إما بسبب حرب أو انقلاب عسكري أو ظروف اقتصادية طاحنة، مهما كلفك ذلك من ثمن. الشرط الثالث هذا هو ما جعل ميسي يسبق كريستيانو رونالدو بخطوة في صراع الأفضل عبر التاريخ في رأيي، وليس لقب كأس العالم في حد ذاته.
في عام 2016، وبعد تجاوز كل من مارادونا وبيليه مسافة كبيرة في رحلتهما مع الحياة والنظر خلفهما، أدركا كغيرهم من كبار السن مدى ضآلة صراعات الحياة وقصر وقت الرحلة. لذا قررا التغاضي عن خلافات الماضي والعودة بعلاقتهما كما بدأت عام 1977، وتصافحا بالأحضان في مباراة خيرية سبقت يورو 2016، ومن بعدها صارت تصريحاتهما عبارة عن عبارات مدح متبادلة.
رحل مارادونا عام 2020، لينعيه بيليه بشكل مؤثر، متمنياً أن يلعبا كرة القدم معاً في الجنة، ثم يرحل بيليه هو الآخر في أيام 2022 الأخيرة.
رحل الأسطورتان الأهم في تاريخ كرة القدم، تاركين وراءهما شعوباً مكلومة تبحث عمن يعيد لها هويتها وشعورها بالتفرُّد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.