في تاريخ المماليك الجراكسة في القرن الخامس عشر الميلادي حكايات وغرائب لا يكاد ينتبه لها أكثر الناس من القراء، وهي حكايات تكشف الواقع المزري للسياسة في ذلك العصر، حتى كثرت الانقلابات العسكرية بينهم، وارتقى إلى سلطنة مصر والشام من هو غير جدير بهذا المنصب من العسكريين المماليك غير المؤهلين، ومنهم، لشدة ضعفه، من سيطرت عليه زوجته ومماليكُه، وكان بينهم ضعيفاً محجوراً عليه، ألعوبة، فمن هؤلاء السلطان الأشرف إينال بن عبد الله الظاهري الجركسي، الذي اشتراه السلطان الظاهر برقوق من أحد تجّار المماليك في سلطنته، وقد ظل مملوكاً في الرّق حتى تخرّج من ثكنات القلعة جندياً، ثم أعتقه السلطان الناصر فرج بن برقوق (801 – 815هـ)، وجعله من الفرسان الخاصكية، وهم الحرس السلطاني الخاص، وفي سلطنة المظفر أحمد بن المؤيد شيخ سنة 824هـ/1421م تمت ترقيته إلى منصب "أمير عشرة"، أي قائد فصيلة.
ومن بعدها بدأ الأمير إينال يترقى في المناصب العسكرية كغيره في ذلك العصر، من أدنى سلم المراتب حتى استطاع في سلطنة الأشرف برسباي (825 – 841هـ/ت 1438م) أن يتولى عدة مناصب ووظائف قيادية في الدولة؛ مثل نائب السلطنة (والي) غزة، كما سافر معه إلى الحملة العسكرية على التركمان جنوب الأناضول سنة 836هـ/1433م، ثم جعله برسباي نائب السلطنة على مدينة الرها، وهو ما لم يقبله إينال، لكنه أذعن بعد غضب الأشرف، وبعد 3 سنوات عاد إلى القاهرة "أمير مائة مقدم ألف"، وهي أعلى رتبة عسكرية تعادل "لواء" أو "فريق" اليوم، وسرعان ما عيّنه الأشرف نائب السلطنة على منطقة صفد في فلسطين.
ظلّ إينال الظاهري في نيابة صفد، حتى وفاة السلطان برسباي، ثم سرعان ما استدعاه السلطان الجديد الظاهر جَقْمَق (842 – 857هـ/ 1438- 1453م) إلى القاهرة في حدود سنة 843هـ/1439م فجعله مقرّباً منه من جملة رؤساء الفرق الأساسية في الجيش المملوكي حتى أمر بتعيينه قائداً للجيش، أي باصطلاح ذلك العصر "أتابك العساكر" سنة 849هـ/1445م، فظلّ في منصبه ذاك حتى وفاة الظاهر جقمق، فأبقاه السلطان الجديد المنصور عثمان بن جقمق، لكن اشترك إينال في خلعه؛ لأن المماليك كانوا يرفضون تعيين أبناء السلاطين مكان آبائهم، ومن ثم اتفق كبار الأمراء من الطوائف الجركسية على تعيينه سلطاناً في شهر ربيع الأول سنة 857هـ/1453م حيث لقّبَ نفسه "السلطان الملك الأشرف".
ولقد تميزت سلطنة الأشرف بالعديد من مظاهر الفساد، وعلى رأسها ثورات وتمردات الجلبان أو الأجلاب، وهم مماليكُ السلطان المقربين والمجلوبين من الخارج، "ومن المعروف أن سلاطين المماليك الأوائل اعتادوا منذ منتصف القرن الثالث عشر [منتصف القرن السابع الهجري] أن يشتروا مماليكهم صغاراً أطفالاً، ويتعهّدون تربيتهم وتنشئتهم نشأة خاصة، فيشبّ المملوك وقد اختصّ بولائه أستاذه الذي اشتراه وقام على تربيته وحباه بعطفه.
أما ذلك الدور الأخير من تاريخ دولة المماليك فقد دأب السلاطين على شراء المماليك كباراً في سن البلوغ؛ ما جعل أولئك الجلبان لا يتشرّبون روح النظام والولاء لأستاذهم في طفولتهم، فصاروا مصدر خطر على السلطان نفسه، وتعدّدت ثوراتهم حتى صار السلاطين أنفسهم ألعوبة في أيديهم، ولعلّ هذا السرّ فيما نلحظه في ذلك الدور بالذات من سهولة عزل السلاطين وإقامة غيرهم، فلا يكاد السلطان يبقى في منصبه أياماً، بل ساعات، حتى يُعزل ويقام غيره"، كما يقول المؤرخ سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه "العصر المماليكي".
ورغم أن الجيش هو الذي ولّى إينال السلطنة؛ فإنّه شحّ في النفقة عليه، وكان أول من فعل ذلك من السلاطين، الأمر الذي أدّى إلى استطالة وتمرد المماليك الأجلاب على الناس والأمراء، فصاروا ينهبون الأسواق ومخازن الحبوب، حتّى عُدّ من سيئات عهده ما ارتكبه الجلبان؛ "ففي سلطنته، التي دامت 8 سنوات ثار الجلبان 7 مرات"، كما يلاحظ ذلك المؤرخ إبراهيم طرخان في كتابه "مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة".
ولقد بدأ عصره بتولية ولده، الأمير أحمد بن إينال، منصب قائد الجيش "أتابك العساكر" خلَفاً له؛ مخالفاً بذلك القواعد المتعارف عليها بين المماليك، عاملاً منذ اليوم الأول على توريث السُّلطة لابنه الأثير؛ ما حمل الأمراء على التحدث في هذا الأمر، فخشي من هذا الحديث، وخلع ابنه في اليوم التالي، وعيّن بدلاً منه الأمير تنبك البردبكي في منصب أتابك العساكر "من غير أمر يقتضي ذلك، ولو صمّم على بقاء ولاية ولده لتمّ له ذلك"، واعتبر المؤرخ جمال الدين بن تغري بردي ذلك "أول وهن وقع في دولة الأشرف إينال"، كما يقول مؤرخ ذلك العصر ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة".
والأغرب أن السلطان الأشرف جعل لمماليكه حقّاً على خزانة الدولة؛ ليُرضيَ أطماعهم، فأفرغها من المال، حتى فسدت أحوال الموظفين الكبار مثل المحتسب الذي اضطر إلى الاستجداء، وبسبب عبء هذه الوظائف كان الأشرف قد اضطر في بعض الأوقات إلى جلد بعض كبار الأمراء ليقبلوا القيام بأعمالهم، ولما أمر بتجريد حملة عسكرية على الدلتا لحفظ الأمن فيها طلب مماليكه مزيداً من الأموال، ولما لم تُعط لهم انتفضوا على حكمه، وانضمّ لهم المماليك الظاهرية – مماليك الظاهر جقمق الذي سبقه في السلطة – واستقطبوا الخليفة القائم بأمر الله حمزة، وتحدّثوا بخلع السلطان، ولكن فشلوا في حركتهم تلك.
ونتيجة لضعف السلطان إينال أمام ثورات الأجلاب، فإنهم صاروا قوة لا يُستهان بها، فاعتدُّوا بأنفسهم، وصاروا يتدخلون في عزل وتولية الموظفين، وراح الناسُ يتهافتون عليهم لإنصافهم، وبسبب تدخل هؤلاء العسكر في الاقتصاد والسياسة والقضاء فسدت أحوال البلاد كما يقول المؤرخ الشاهد على ذلك العصر ابن تغري بردي في حوادث شهر رجب سنة 863هـ/1462م: "تعرّض جماعة من المماليك الأجلاب للأمير زين الدين الأستادار فهرب منهم، فضربوا الوزير وبهدلوه إلى الغاية، ولم ينتطح في ذلك عنزان؛ لقوة شوكة الأجلاب في هذه الأيام، حتى تجاوزت الحدّ، وبطل أمر حكام (قُضاة) الدّيار المصرية قاطبة، وصار من كان له حق أو شبه حق لا يشتكى غريمه إلا عند المماليك الأجلاب، ففي الحال يخلّص حقه من غريمه، إمّا على وجه الحق أو غيره، فخافَهم كلّ أحد، لا سيما التّجار والبَيَعة من كل صنف، وترك غالبُ الناس معايشهم؛ خوفاً على رأس مالهم، فعزّ بسبب ذلك وجود أشياء كثيرة، ووقع الغلاء في جميع الأشياء".
من الأمور الغريبة أيضاً، والتي لم تُعهد على السلاطين سيطرة زوجة السلطان الأشرف إينال على مقاليد الأمور في الدولة، بل وعلى السلطان نفسه، حتى أصبح تابعاً لها في تولية وعزل بعض الموظفين، حتى قال عنه معاصره المؤرخ البقاعي إن الأشرف كان دائم "الانقياد لزوجته؛ فكانت هي تخبط في أحكامه من داخل، وملاح أجلابه من خارج، فأفسد ذلك جميع محاسنه، وأطبق الناس على بُغضِ دولته والدعاء عليه".
ولقد لخّص معاصره المؤرخ العلامة جمال الدين بن تغري بردي سياسته في تاريخه "النجوم الزاهرة" بقوله: "وبالجملة فكانت أيّامه سكونا وهدوءا ورياقة وحضور بال، لولا ما شانَ سؤدده من مماليكه الأجلاب، وفسدت أحوال الديار المصرية بأفعالهم القبيحة، ولولا أن الله تعالى لطف بموته، لكان حصل الخلل بها، وربما خربت وتلاشى أمرها، هذا ما أوردناه من محاسنه، بحسب القوة والباعثة. وأما مساوئه، فكان بخيلاً شحيحاً مسيكاً، يبخل ويشح حتى على نفسه، وكان عارياً من العلوم والفنون المتعلقة بالفضائل، كان أميّاً لا يعرف القراءة والكتابة حتى كان لا يحسن العلامة (التوقيع) على المناشير والمراسيم إلا برسم الموقع له بالنقط على المناشير، فيعيد هو على النقط بالقلم".
ورغم ذلك ترك الأشرف عدة آثار معمارية مهمة، أهمها مجُمّعة في قرافة المماليك بالقاهرة، وتعتبر هذه المجموعة من المبانى من أهم المنشآت الأثرية التي أنشئت بقرافة المماليك، فهي تتكون من قبة ومدرسة وخانقاه لعبادة واعتكاف الصوفية، وهى وإن اعتدى عليها الزمان فأضاع بعض أجزائها إلا أنها احتفظت بأغلب معالمها ناطقة بما كانت عليه من روعة وجلال. ويُستدل من الكتابات التاريخية على باب القبة، ومن انفصال هذه القبة عن مبانى المسجد أن الانتهاء من إنشائها كان في حدود سنة 855 هـ/1451م، عندما كان إينال أتابك للعساكر في عهد السلطان جقمق، أما الخانقاه والمدرسة فقد أنشئا بعد أن ولي الملك والسلطنة، فأنشئت الخانقاه سنة 858هـ/1454م وأنشئت المدرسة سنة 860ه/1456م.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.