أعتقد أن تأثير بيليه لم يكن خاصاً بكرة القدم فحسب، لقد وضع بيليه خارطة طريق مختلفة للعبة، ولذوي البشرة السمراء، في وقت كانت أوروبا فيه تتعامل مع اللاتينيين على أنهم عمالة جيدة.
لم تطلب البرازيل من بيليه أن يُزين أقمصتها بالنجمات الخمس، لكنها كانت تبحث عن كل من هو "بيليه" ليفعل ذلك، وكان لها بيليه هو الحلم والواقع في آن واحد.
في التاسعة من عمره، رأى بيليه كيف خسرت البرازيل لقبها الأغلى على الإطلاق، والذي يُساوي -دون مبالغة- نجماتها الخمس كاملات؛ هذا اللقب يعود إلى عام 1950، حينما أقيم كأس العالم على أرض البرازيل.
على جانبي الماراكانا، كانت الاحتفالات الصاخبة تؤشر على اقتراب اللقب من أصحاب الأرض، لم تكن البرازيل حينها تحتفل باللقب فحسب، بل كانت تُحضر لنجمتها الأولى في كأس العالم، النجمة التي ستجعلها، ولأول مرة، تمزج المهارة بالذهب.
كانت الأوروغواي هي المنشودة، لتقف أمام البرازيل تحديداً، والأوروغواي هي أول من لامس كأس العالم في تاريخ كرة القدم، على أرضها ووسط جماهيرها، ولماذا لا تكون البرازيل مثلها إذاً؟
من الريف، خرج دوندينهو، والده، حاملاً آماله ونجله وأشياء أخرى تُسعف رحلته إلى الماراكانا، ولم يكن دوندينهو لاعباً فذاً، فبمجرد أن حدثت له تلك الإصابة في الركبة تخلى ناديه عنه، وآمن هو نفسه بأن كرة القدم ليست مصدر الرزق الذي سيُغير حياته، لكن ما حدث أن الصغير، بيليه، اكتشف أن البرازيل لن تحتفل أبداً بالكأس، وأن الأوروغواي ستضع نجمتها الثانية، ورأى والده يبكي ليلتها، الرجل الذي لم يستطع، حاله كحال معظم شعب البرازيل، أن يمنع مشاعره من الانتصار في النهاية على الواقع، والواقع يقول إن الاحتفالات اتجهت وغادرت صوب الأوروغواي.
لحظة حماس ربما، حينما ربت على كتف والده وقال: "سأحاول أن أمنح البرازيل نجمتها الأولى".
بعد ثماني سنوات، كانت البرازيل قريبة، من جديد، من ملامسة الكأس، وهذه المرة ليست في أرضها، ولا حتى كانت تتسلح بجماهيرها، بل كانت في أوروبا، وتواجه صاحب الأرض، وارتدت زي الأوروغواي لتفعل بالسويد نفس ما فعلته الأوروغواي بها.
في تلك النسخة، كان بيليه هو أحد أولئك الذين حملوا الكأس، وأبكوا السويد وشعبها، لم يكن قد قفز قفزات بعيدة من العمر، بل إن طبيب المنتخب كان يعتقد أن على المنتخب أن يبحث عن لاعبين أفضل منه؛ لأن جسده لن ينفعه لمواجهة الطموحات الضخمة للمنتخب.
لا يمكن وصف بيليه بالشخص الطموح، بل كانت رغبته هي تغيير النهج المتعارف عليه في البرازيل قبل أن يُغيره في العالم بأسره، هو الذي وُلد في باورو، وسط الفقر والضياع، الصغير الذي لم تمتلك أسرته المال الكافي لتمنحه ما يحلم به، حتى الأحذية كانت حلماً صعب المنال بالنسبة له.
كان عليه أن يبتكر في كثير من الأحيان، يبتكر لكسب المال، لدرجة أنه كان يُلمع الأحذية في ناديه باورو، وكانت المدرسة هي الأشياء الثانوية التي يهتم لها ويفكر فيها، عمل في وظائف لا تُناسب عمره ولا موهبته، لمجرد أنه وضع الكرة أولوية أولوياته!
قد يراه البعض مغروراً، ربما تصريحاته توحي بذلك، لكن من الجانب الذي لا يعرفه الكثير، بيليه لم يكن مغروراً، بل كان قائداً لأشياء تغيرت للأبد على يده في البرازيل.
حينما كان يتجول في أي مكان، كان الناس يُفتنون به، هذا البرازيلي "الأسود" كما كانوا يلقبونه، هو الأسود الذي أنهى احتكار الأوروبيين لفكرة "الأفضل"، ومنح عرقه فرصة التقدم بعض الشيء في مجالات اعتبرها الأوروبيون خاصتهم.
حقق كل شيء في فترة زمنية قياسية، وبدأت الأفكار الأوروبية تطوله، واعتبرته البرازيل حينها ملكاً لها، اعتبرته كنزاً وطنياً كما أعلن الكونغرس البرازيلي في عام 1962، بأن بيليه لن يخرج من البرازيل أبداً مهما بلغت العروض وتضخمت.
لم يكن القرار في صالح بيليه، على الرغم من أنه يبدو تكريمياً لأبعد حد، لكنه كان يهدف إلى استنزافه في الجولات التي خاضها سانتوس في مختلف بلاد العالم، والتي زار فيها إفريقيا وآسيا وأوروبا.
ولم يكتفِ سانتوس بالتوقف عند هذا الحاجز فحسب، بل دخل أرض الحروب والدمار، دخل إفريقيا في أوج فترات الصراعات الدموية فيها، والتي قالوا عنها، إن بيليه ورفاقه ساهموا في تقليل حدة الحروب هناك.
حدث ذلك في عام 1969، حينما كانت نيجيريا تحاول استرداد بيافرا، الدولة الانفصالية التي أراد شعبها أن ينفصل عن الحكومة المركزية، في حرب قُدر عدد ضحاياها بما يُقارب المليوني مواطن.
قرر سانتوس حينها، أن يدخل بكافة نجومه تلك الأرض، وأن تصمت مدافعها ولو لأيام وجوده فيها، وهو ما حدث فعلاً، قالوا إن السبب الوحيد الذي جعل اتفاقية وقف إطلاق النار يُوافق عليها؛ كان وجود بيليه في الأراضي النيجيرية ومحاولة الاستمتاع به.
لكن أصله الإفريقي كان وسواساً يزعجه، خاصة لمن هم مثله، من نفس اللون والعرق في البرازيل، كانوا يعتقدون أنه يُوالي الديكتاتورية، ولا يعترف بأن ذوي البشرة السمراء يتعرضون لكافة أنواع الاضطهاد والعنصرية، وأن محمد علي كلاي، الأمريكي الذي رفض خوض حرب فيتنام، والطبيب سقراط الذي ساهم في ثورات التحرير رغم موهبته كلاعب كرة قدم؛ وضعا بيليه أمام سؤال: لماذا لا تتحدث؟
كان بيليه يختار الحياد دائماً، لم يكن أسود ولم يكن أبيض، اختار أن يتمنى أن يسود العدل والمساواة بين شعب البرازيل كافة، لكن ذوي عرقه لم يتوقفوا عن سؤاله: هل تؤمن بما تقول؟
لماذا بيليه تحديداً؟
حينما يُذكر اسم بيليه، يتبادر للأذهان فكرة كؤوس العالم الثلاث، حينما احتلت البرازيل كأس العالم في الفترة من 1958 حتى 1970 ولم تتنازل عنه إلا في 1966 لصالح منتخب إنجلترا، رغم أنها في عصور ما قبل ذلك، لم تكن البرازيل التي نعرفها حالياً، سيدة اللعبة وبطلة العالم خمس مرات.
فيما عدا ذلك، كان بيليه هو الفارس الذي يتقدم جيشه الوطني والمحلي، في المنتخب البرازيلي وناديه سانتوس، والأمر كان يفوق قدرته على التسجيل، وإبداعه في الصناعة، وكذلك في تتويجه الرسمي بكافة البطولات.
قال أحد مدربي البرازيل في حقبة بيليه، إنه سيختار بيليه كأفضل حارس مرمى، وأفضل لاعب وسط، وأفضل مهاجم، لو لم يكن بيليه فمن إذاً؟
لقد كان يتنازل عن دوره كمهاجم في بعض الأحيان ليصنع لزملائه، وهو ما يظهر في مباريات مهمة لم يكن يحسمها بنفسه، لكن دوره خلالها لم يكن أبداً هامشياً، وهو ما كان يقصده مدربه بالفعل، لولا بيليه، ما كانت البرازيل لتحصد ثلاث نجمات لم تحقق مثلها في تاريخها الطويل خلال كل مشاركاتها في كأس العالم.
لعب بجوار بيليه لاعبون قد يكونون أفضل موهبة منه، لكن أحداً لم يكن أبداً بيليه، ليس لأنه بيليه فحسب، بل لأنه كان يتمتع بعقلية تفوق عصره، وقدرته على التكيف وضعته في تلك المرتبة.
كان يُسجل برأسه، ويلعب بقدمه اليمنى، ويُعادلها بقدمه اليسرى، ربما خانته الظروف في أن التلفاز لم يكن ينقل المباريات بجودة عصرنا الحالي، ولم يُغطِّ الإعلام كل تفصيلة، كبرت أو صغرت، في أحداث كل مباراة.
هذا الأمر لم يكن أبداً في صالحه؛ لأنه كان يسبق عصره كما وُصف، كان يفعل أشياء يعتقد الناس أنها تبدو سهلة ويمكن تقليدها، لكن على العكس، لم تكن كرة القدم بدائية، بل كان بيليه طفرة عصره.
ورغم نقص الموارد والإمكانيات، إلا أن بيليه وصل إلينا كأسطورة لا تُمس، في البرازيل وخارجها، وربما تصف روايته نفسها بأنه كان يُقدس نفسه لدرجة أنه أطلق تصريحاً في الماضي مفاده: "لن يُولد بيليه جديد، انسوا هذا الأمر للأبد، أبي وأمي قد أغلقا المصنع من بعدي، على ميسي أن يُسجل نفس القدر من الأهداف حتى نُفكر فيما إذا كان بيليه الجديد أم لا".
المؤكد أن كرة القدم قد خسرت لاعباً أضاف إليها الكثير، وستظل البرازيل تذكره إلى أن تتلاشى كرة القدم من البرازيل وتختفي البرازيل نفسها من خريطة الكرة الأرضية، وسيتذكره التاريخ على أنه الرجل الذي كسر حواجز الأوروبيين في التمييز بين ذوي البشرة السمراء وأقرانهم من البيض، وأنه أيضاً كان يتحدث بقدمه إذا ما كان الأمر يتعلق بكرة القدم، ويصمت إذا ما اضطرته الظروف للتحدث بلسانه.
ليس لأنه حقق كأس العالم ثلاث مرات، بل لأنه عرف كيف يكون قائداً حقيقياً أمتع العالم وجعل الجميع يجلس ويُشاهد في صمت من شدة البراعة، في وقت كانت كرة القدم فيه تتلطخ بالدماء والديكتاتورية والحروب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.