في صباح يوم الأحد، 25 ديسمبر/كانون الأول 2022، تفاجأ المصريون بإعلان الأختين ياسمين وفريدة محمد خميس، وريثتا رجل الأعمال الراحل محمد فريد خميس، بيعَ حصتيهما من شركة "النساجون الشرقيون"، التي تقدر بمجموع 24.6%، لصالح شركة "FKY limited". وبحسب إفصاح الشركة للبورصة المصرية يصل عدد الأسهم المباعة إلى نحو 163.7 مليون سهم، بقيمة مليار و375 مليون جنيه.
واستحوذ الخبر على اهتمام الكثيرين، وأثار الجدل والتساؤل من أن يكون "آل خميس" تخارجوا من السوق المصري، وباعوا حصتهم من إمبراطورية صناعة المنسوجات المصرية لمستثمر أجنبي، أو تم الاستحواذ عليها من قبل أحد الصناديق السيادية الخليجية، على غرار ما يحدث مؤخراً من استحواذات تقوم بها تلك الصناديق، على العديد من الشركات المصرية الناجحة في القطاع العام والخاص على السواء. وهي الشركة التي يعرفها غالبية المصريين، ويكاد لا يخلو أي منزل مصري من منتجاتها من السجاد والموكيت.
وتأتي هذه العملية في وقت تشهد فيه مصر أزمةً خانقة، نتيجة عدم توفر العملة الأجنبية، بالإضافة إلى العديد من الصعوبات الاقتصادية التي ظهرت منذ فبراير/شباط الماضي، مع هروب نحو 25 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية خلال العام الحالي.
وسرعان ما اتضح الأمر بعد البيان الذي أصدرته شركة "النساجون الشرقيون"، والذي توضح فيه أن صندوق "FYK Limited" الذي اشترى نسبة 24.61% من الشركة، تم تأسيسه في بريطانيا، وهو مملوك بالكامل للسيدتين فريدة وياسمين، حتى إن اسم الصندوق هو نفس الحروف الأولى من اسميهما، أي أن كلتيهما تحتفظان بملكيتهما في شركة النساجون الشرقيون. وهو ما يعني أن العملية لم تكن بيعاً، وإنما هي تغيير في صياغة وشكل الملكية، وبعد أن كانتا مستثمرتين محليتين أصبحتا مستثمرتين أجنبيتين.
وفي اليوم التالي لهذا التحرك، ردّ البنك المركزي المصري في بيان له، بأنه يرصد العديد من الممارسات غير المشروعة في سوق النقد الأجنبي، معتبراً أنها تستهدف زعزعة الاستقرار النقدي والمالي للبلاد، عبر محاولة البعض تحقيق أرباح سريعة بطرق غير صحيحة، على حد وصف المركزي، ومن ضمن التجاوزات التي رصدها البيان: "تأسيس البعض لشركات ذات طبيعة خاصة خارج البلاد، لاسيما بنشاط الوساطة، في مجالي التصدير والسياحة، وتستهدف الاحتفاظ بالنقد الأجنبي خارج السوق المصري".
وتعتبر شركة "النساجون الشرقيون" أحد أكبر مصنّعي السجاد في العالم، وهي من أبرز وأعرق الصناعات المصرية، وأسسها رجل الأعمال الراحل محمد فريد خميس في نهاية السبعينيات، وتبيع منتجاتها في أكثر من 130 دولة حول العالم، حيث تصدّر كميات ضخمة من منتجاتها، وتستحوذ على 10% من سوق السجاد في الولايات المتحدة وأوروبا، كما أن لديها مصانع إنتاج في كل من الصين والولايات المتحدة.
وارتفعت مبيعات الشركة خلال الأشهر التسعة الماضية إلى 9.48 مليار جنيه، مقارنة بــ8.39 مليار جنيه خلال الفترة ذاتها من العام الماضي. كما ارتفعت أرباحها في نتائجها المستقلة إلى 1.04 مليار جنيه خلال الفترة من يناير/كانون الثاني حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2022. ورغم هذه الأرباح الهائلة والنجاح الذي تحققه الشركة، فلماذا قرر مُلاكها تحويل الملكية إلى الخارج؟
في البداية فإن هذا الأسلوب التي أتبعه ورثة "خميس"، بتسجيل ملكية الاستثمارات الداخلية في شركات مسجلة قانونياً في الخارج، ليس بالجديد ولا الأول من نوعه، بل إنه مُتبع وبشكل شائع، لأسباب سنذكرها بالتفاصيل، بل إن العديد من رجال الأعمال المصريين المعروفين، والعائلات المصرية الثرية، مثل عائلة ساويرس وعائلة منصور، اشتهروا بتكوينهم ثروات ضخمة داخل الأسواق المصرية، بفعل التسهيلات والدعم الحكومي، وأحيانًا تواطؤ الأنظمة المصرية، ومن ثم استطاعوا تحويل هذه الأرباح للأسواق الخارجية، وهو ما سنتناوله أيضاً. ولكن قبل ذلك يجب معرفة لماذا يُخرج المستثمرون أموالهم خارج مصر؟
صعوبات داخلية
يكمن السبب الأول لخروج رؤوس الأموال من الأسواق المصرية في الأزمة التي يعانيها الاقتصاد، منذ مطلع العام، والتي أثرت بشكل بالغ على القطاع الخاص المصري، ووفقاً لتقرير حديث لوكالة "بلومبرغ" فإن القطاع الخاص المصري متشائم بشأن مستقبل الاقتصاد المصري خلال الفترة المقبلة، بحسب أحدث استطلاع رأي شاركت فيه 120 شركة مصرية، ويعود ذلك إلى أزمة تدهور قيمة الجنيه ونقص الدولار، وما صاحبهما من نقص في الخامات ومستلزمات الإنتاج.
وكانت الحكومة المصرية، منذ مارس/آذار الماضي، قد خفضت قيمة الجنيه بنسبة 16%، ثم أعقبه تخفيض آخر بنسبة 18% في أكتوبر/تشرين الأول، لتبلغ نسبة انخفاض الجنيه منذ بداية العام نحو 57% أمام الدولار. وتستمر الصعوبات التي تواجه شركات القطاع الخاص داخل السوق المصري، من صعوبات خارجية خاصة باضطرابات سلاسل التوريد وارتفاع الأسعار وتكاليف الشحن وعدم توافر المواد الخام.
بالإضافة إلى الصعوبات الداخلية الخاصة بأزمة النقد الاجنبي، وعدم قدرة البنك المركزي على توفيرها، وتلبية طلبات الاستيراد للشركات. وخلال الشهر الحالي تكدست في الموانئ المصرية واردات من الخارج، تقدر قيمتها بـ9.5 مليار دولار، وتنتظر تدبير المركزي لعملة صعبة من أجل الأفراج عنها، وهو ما أدى إلى تعطل القطاع الصناعي والتجاري، بسبب نقص مستلزمات الإنتاج. ومن ثم استمرار الانكماش في النشاط الاقتصادي.
امتيازات أجنبية
كما أوضحنا سابقاً، فإن العملية التي قامت بها الأختان من بيع حصتهما من الشركة داخل مصر، لشركة أخرى يملتكانها في بريطانيا، عملية معتادة، ويقوم بها الكثير من المستثمرين، للحصول على العديد من الامتيازات. أول الأمر فإن الشركات التي تتأسس خارج الدولة يطلق عليها: "شركات الأوف شور، "Offshore Companies" وتحصل على امتيازات المستثمر الأجنبي فيما يتعلق بنشاطها في الأسواق المصرية.
وتستقطب الحكومة المصرية الاستثمار الأجنبي عبر إتاحة حزمة من التسهيلات، منها إعفاءات ضريبية ودعم عيني، والحق في تحويل الأرباح ورأس المال للخارج بالعملة الصعبة، وهو ما لا يتوفر للمستثمر المحلي في الوقت الحالي. وغير ذلك فإن الشركات الأجنبية تحصل على كافة حقوقها القانونية، من حماية أصولها من خلال ضمانات عدم انتزاع الملكية، أو مصادرة الأصول أو تأميمها، أو حتى فرض تسعير إجباري على منتجاتها.
وعلى الجانب الآخر من المحيط، تحصل هذه الشركات على امتيازات وقدرة على الاندماج في بيئة الأعمال بسهولة، كما أنها ليست ملزمة بقوانين الضرائب المحلية، وذلك لأن تعاملاتها المالية تتم خارج الدولة. ومن المؤكد أن كل ما سبق يُسهم في هروب رؤوس الأموال من الدولة عند اشتداد الأزمات، رغم أن هؤلاء المستثمرين قد يكونون تمتعوا في العصور السابقة بالعديد من التسهيلات التي أتاحها لهم تكوين هذه الثروة.
تتكون في الداخل وتهرب للخارج
مما يجدر ذكره أن سياسة الدولة خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات ساعدت على هيمنة شريحة من رجال الأعمال المصريين، حيث ركزت جهود الدولة على الاستجابة لهذه الشريحة الصاعدة، من خلال توجيه السياسة الحكومية لخدمة مصالحهم التجارية، وهو ما ظهر في تغيير سياسة الضرائب والسياسة النقدية وأسعار الفائدة والسياسة التجارية، كما هيأت لهم البنية التحتية الأساسية في المدن الصناعية، ومنحتهم أراضي بأثمان بخسة ودعم للطاقة.
وفي دراسة "سامر سليمان، عن تطور الرأسمالية الصناعية في مصر، يقول إن الأمر لا يقتصر فقط على زيادة نصيب هذه الشريحة من عوائد التراكم الرأسمالي، ومن توجه الحكومة، بل امتد الأمر إلى أن شكلت هذه الشريحة من رجال الأعمال تطوراً تنظيمياً بالغ الأهمية، وهو ما ظهر في الدور البارز الذي لعبه "اتحاد الصناعات المصرية"، بقيادة رجل الأعمال محمد فريد خميس، مالك شركة "النساجون الشرقيون"، الذي لعب دوراً في توحيد هذه المصالح وتوجيه جهودها، لكسب جولات تفاوضية مع الدولة تتعلق بالسياسات الاقتصادية.
ولعلّ "خميس" أحد أبرز النماذج على العلاقة بين رجال الأعمال والنظام المصري.
والعلاقة القريبة بين نخبة المال والأعمال ونخبة السياسة والسلطة، أنتجت مجموعة من رجال الأعمال واسعي النفوذ، ويتقلد معظمهم مقاعد الوزارات والمناصب الحكومية الهامة، وتحول دفة سياسات هذه الحكومة لصالح عالم الشركات الجديد في مصر، أسهم في زيادة إنتاجية وتنافسية هذه الشركات في الأسواق العالمية، وتحولت إلى شركات عابرة للقارات، وتتجاوزت قيمتها مليارات الدولارات. مثل شركة السويدي للكابلات، وأوراسكوم للإنشاءات، والنساجون الشرقيون.
ومما لا شك فيه، أن الفضل في الوزن غير المسبوق في الاقتصاد، الذي اكتسبته تلك الشركات، يعود إلى سياسات الحكومة المصرية في عصر الرئيس الأسبق مبارك. من قوانين وتشريعات وتخفيضات ضريبية، وتحويل لكم هائل من أراضي وثروات الدولة لحسابهم، والدعم غير المشروط الذي كان يقدم. وهو ما أدى إلى تكون أرباح هائلة، وزيادة تراكم رؤوس أموال تلك الشركات إلى اليوم.
وبالطبع، نهاية عصر مبارك لم تُنه هذا التشابك بين نخبة الأعمال والسياسة، وكانت هناك جولات أخرى من الدعم وتلاقي المصالح، أو الضغط والتفاوض. ولكن في النهاية، نرى رؤوس الأموال التي تكونت وتراكمت داخل الاقتصاد المصري تتسابق للخروج مع اشتداد العاصفة، وهو ما يُثير التساؤل عن جدوى كل ما قُدم من دعم غير مُستحق، وتخفيض ضريبي، وأراضٍ شبه مجانية، والذي كان ينعكس على الناحية الأخرى من زيادة ورفع على المواطنين العاديين الذين كانوا الأكثر استحقاقاً بكل تأكيد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.