لا شك أن عالمنا الإسلامي اليوم يعيش أزمة ثقافة وأزمة مثقف مما أدى إلى ذوبان هويتنا البنيوية وأصبحنا غير منتجين إنما مستهلكين ومقتبسين للأفكار والثقافات الأخرى وذلك يعود لعدة أسباب، فلقد توقف الزمن في الشرق، ولم تعد عقارب الساعة الحضارية تدور وتحققت مقولة هيغل عن انتقال شمس الحضارة من الشرق إلى الغرب ولكنها ليست أبدية ولا شك في ذلك، فلقد سقبنا الغرب في كل الميادين، تلك العقارب بدأت بالتوقف بعد أن تعرضت الأمة إلى صداماتٍ حضارية عدة حيث التقى الغرب مع الشرق في الشرق نفسه بعد أن استطاع أن يتفوّق علينا في جميع الميادين وتغلّب علينا وفرض هيمنته الثقافية والعلمانية واللبيرالية والرأسمالية وغيرها، تفوّق في علوم الطبيعيات والفلسفة والطب وغيرها، ولكن هذه المرحلة التنويرية والنهضة الغربية كانت نتيجة من التراكمات والإبداعات المأخوذة من التراث العربي والإسلامي، وهذا جزء من التفاعل الضروري والطبيعي بين الحضارات؛ مثل التطور العمراني والهندسي والفلسفي وغيره، ولكن الغرب لم يعترف بذلك، حينها كتبت ديانا دارك "السرقة من الساراسين" التي نسفت تلك الأكاذيب وأظهرت الحقائق، بعد أن كنّا منارة العالم أصبحنا نعيش في ظلمات الجهل والتراجع الحضاري، وذلك يعود إلى عدة أسبابٍ ومنها عدم إنتاج خطابٍ ديني عصري غير تقليدي والذي أصبح لا يتناسب مع السياق الزماني والتغيرات المجتمعية والسياسية والعولمة والليبرالية المتوحشة وطروحاتها التي تخالف الفطرة الإنسانية؛ مثل الجندرة والمساواة بين الجنسين والمثلية وغيرها من قضايا معاصرة لم يستطع الخطاب الديني أن يتصدى لها بشكلٍ علمي ومنطقي خصوصاً مع تراجع نسبة التدين وانتشار ظاهرة خلع الحجاب والإلحاد، كل تلك التحديات تؤكد أهمية إنتاج خطاب ديني جديد.
يشكل مصطلح التجديد حساسية في وجدان المسلمين؛ حيث أصبح يرمز إلى نسف القطعيات والتشكيك في الأحاديث النبوية وصولاً إلى الشك في القرآن، فعلى سبيل المثال عندما نذكر الاستشراق تعود بنا ذاكرتنا إلى الاستعمار الذي كرّس الاستشراق كوسيلة للسيطرة العسكرية والثقافية وإخضاع الشعوب وسرقة الثروات، كذلك التجديد، فهي في أذهان الناس ترمز إلى التبديد ونسف الثوابت الدينية وإنكار الحديث وهي أيضاً إحدى وسائل المستشرقين الذين بحثوا في صحة الأحاديث وتواترها ونقض القرآن، ولكن التجديد الصحيح يعني ترشيد الخطاب الذي يقوم على زرع الحكمة للوصول إلى الغاية وهي إثبات القطعيات من خلال العقل والعلم، فإن الخطاب هو وسيلة ليس إلا، فالترشيد هو تغيير الوسيلة وليس تغيير المضمون، فإن العقل لا يمكن أن يتنافى مع الدين، فإن تنافى وتعارض فإما قصوراً في العقل لأن المحدود لا يستطيع استيعاب اللامحدود، وإما قصوراً في الدين؛ وذلك لأنه لم يكن دينٌ إلهي من الأصل مثل الزردشتية وأديان وضعية أخرى. فإن أهمية الترشيد تكمن بترشيد العقل والمنطق والوعي وتكوين نظام معرفي متين عصري لا يتنكر لتراثه ولكن لا يعتبره مقدساً، وهنا تكمن أهمية الترشيد.
إن مقصد الشريعة الإسلامية هو تحقيق المقاصد الخماسية، فالغاية والوسيلة هي الميزان الثابت والمعيار الأساسي لقياس الأمور، فالغاية ثابتة وهي المقاصد ولكن الوسيلة تهدف لتحقيق المقاصد وهي متحركة وتحتاج إلى تعديلٍ وتغييرٍ في كل فترةٍ زمانية، فهناك مظاهر وظواهر كثيرة تستدعي ترشيد الخطاب الديني.
التخندق التاريخي:
منذ بداية الحضارات، تعيش الإنسانية حالة صراع بين ثقافاتٍ وأيديولوجياتٍ مختلفة، احتدم الصراع بعد نزول الشرائع السماوية حيث انقسم العالم بين عالم مسيحي وإسلامي، فجاءت الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية وترسخت تلك الأحداث في وجدان الإنسان والكتب التاريخية وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الواقع السياسي والاقتصادي الحالي، ولكن من واجب الخطاب الديني أن يفصل التاريخ عن الواقع، فالتاريخ فيه الصواب وفيه الخطأ ولا يمكن تغييره ولا تعديله، وقراءته واجب من أجل أخذ العبر والحكمة والاعتبار وليس من أجل التخندق فيه والعيش في صفحات الماضي التي أنتجت حروباً قُتل فيها الملايين، أما اليوم فقد تغيرت معالم الحضارات الإنسانية وتغير وجه الصراع، فمهمة الترشيد تقوم على فصل التاريخ عن الواقع الحالي ورفع منسوب الوعي النخبوي والعلمي وصولاً إلى أن تكون حالة مجتمعية قدر المستطاع كي لا تُعاد تجارب الماضي في الواقع والحاضر والمستقبل، وتلك مهمة صعبة وليست سهلة ولكن لا بد من الخوض فيها.
مكافحة الإلحاد:
نعيش اليوم في عالمٍ جامد ومادي ولم يعد للروح مكان فيه، وازدادت قوة مركزية الإنسان والعقل، وأصبحت المادة مسيطرة على الحضارات الإنسانية، إضافةً إلى التراجع في مقدرة الخطاب الديني على مواجهة الفلسفة المادية مثل الرأسمالية والليبيرالية في كل الطروحات؛ مما أدى إلى ازدياد نسبة الإلحاد عند الشباب إضافةً لحالة الشذوذ والأفكار الجندرية وغيرها، كل تلك المظاهر سببها هو البحث عن الروح لأن الإنسانية لا تستطيع أن تستمر إلا بتكامل المادة والروح مع بعضهما البعض، والشباب يريد من يحاكي أوجاعهم من خلال علم المنطق والعصرنة الحديثة وحل القضايا الشائكة من منطلق علمي؛ لذلك يتوجب على الخطاب الديني أن يطور ويرشّد علم الكلام الذي ظهر في أصله للرد على الباطل والفرق الباطنية، واليوم عليه أن يواجه تلك المظاهر بشكلٍ منطقي وهادئ ويطرح علاجاً كي يستطيع أن يعالج تلك الظواهر التي اجتاحت كل العالم من خلال العولمة المتوحشة.
الصراعات الدامية:
عاشت منطقة الشرق الأوسط حروباً دامية كانت ركيزتها الفرق الجهادية التي كانت ردة فعل على الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإطلاق العنان للمليشيات الطائفية في كل من سوريا والعراق، فلقد ارتكزت بنيتها الفكرية على الأفكار الجهادية والخطاب الديني الذي لم يترك آية قرآنية ترمز للجهاد إلا وقد أسقطها من خلال تأويلاتهم الخاصة على الواقع الحالي، وخير دليل على ذلك كتاب "الفريضة الغائبة". إن معظم الكتب الجهادية تم اقتباسها من أفكار ابن تيمية آخذين الأحكام التي أفتاها في زمانه، غير آخذين في عين الاعتبار أن زمانه غير زماننا، والمخاطر التي عاشها وظروف نشأته كانت أحد أسباب فتاواه بسبب الفتن التي كانت في عصره مثل الغزو التتاري والحروب الصليبية والخيانات التي كانت تسهل دخول الأعداء للمنطقة، فإن خطاب الأمس لا يمكن أن يعيش في يومنا هذا، وفي ظل غياب الخطاب الديني غير المرتبط بالأنظمة العربية، اتجه وتأثر الكثير من شبابنا بتلك الخطابات القادرة على التجييش والتحريك مستخدمين سيكولوجيا الجماهير من أجل السيطرة على العقول، مقابل ذلك الخطاب المقنع لكثير من الناس بعد مشاهد القتل والمجازر الطائفية وقمع السلطات السياسية والحالة الاقتصادية المتردية؛ مما دفع الشباب إلى الدخول في تلك الجماعات. كان هناك غيابٌ شبه تام لخطابٍ ديني رصين غير مرتبط بالسلطات السياسية التي بطشت بالشعوب. من هذا المنطلق ومن أجل تفادي تكرار تلك الحالة، يجب على السلطات الدينية الاستقلال عن السلطات السياسية وتقوم بعملية ترشيد الخطاب الديني كي تستطيع أن تنقذ ألوفاً من الشباب من شبهة الإرهاب وتقوم بتصحيح المفاهيم الدينية وتكوين شخصية متزنة مؤمنة لا تنجرف في أي اتجاه.
أما اليوم، فإن العالم يشهد صعوداً لليمين المتطرف انطلاقاً من أوروبا، تلك الظاهرة سوف تؤدي بطبيعة الحال إلى تعزيز الخطاب الكراهية ضد المهاجرين وضد المسلمين مستخدمين مصطلحات لا تعبر عن واقع الحال؛ مثل الإسلاموفوبيا؛ مما يستدعي التسريع في ترشيد الخطاب الديني كي نستطيع استيعاب تلك الحالة ومواجهتها.
يقوم الترشيد الخطابي على دراساتٍ مُجتمعية علمية معمقة للقضايا المعاصرة التي تواجهها البلاد الإسلامية بعد أصبحت بلاداً تتكون من هوياتٍ مركبة وثقافاتٍ مختلفة ودولٍ قطرية غير إسلامية بالمعنى السياسي والتشريعي ولكنها بطبيعتها محافظة حيث تتعرض للعولمة والليبرالية وتشويه الهوية تحت مسمى الحريات الفردية وحقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، يتناول محمد أركون في مشروعه الفكري قضية الآيات التي لها طابعٌ أسطوري ميثيولوجي البنية، كما أن طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" اعتبر أن الكثير من الأنبياء غير موجودين، فالترشيد يقوم على المنهج التأريخي وغيره من المناهج كي نقوم بقراءة القرآن كي نفهمه ونستخرج الأحكام المعاصرة وإنتاج الخطاب القادر على مواجهة تلك الأباطيل. فقراءة القرآن مجدداً يجب أن تكون متسقة مع التغيرات وهذا لا يعني نسفه أو إنكاره، فهناك الكثير من الحقائق العلمية التي أكدت على صدقية القرآن وكلام الله تعالى. فإن الأبحاث العلمية أصبحت حتمية لإنتاج خطابٍ ديني يحمل في طياته الروح والمادة، الإيمان والعلم، الأخلاق والتطور، الحفاظ على التراث والانفتاح الحضاري.
ترشيد الخطاب الديني ضروري وحتمي في معركة النهضة والصحوة الحضارية، وهي معركة أساسية من أجل صحوة الأمة من كبوتها الثقافية وتراجعها الحضاري والأخلاقي، خطاب اليوم يحب أن يقوم على الحقائق العلمية ويواكب التطورات والتحديات المعاصرة متبعاً الفقه الذكي الذي رفع لواءه الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله تعالى. الأمة اليوم بأمس الحاجة إلى خطابٍ وسطي وعقلي وهادئ وعلمي يطرح ويعالج الأزمات الإنسانية مثل الأزمات الاقتصادية والسياسية وقضية المرأة والجندرة وغيرها منطلقاً من الثوابت القرآنية ولكن بأسلوبٍ عصري ومنطقي وعلمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.