كما ذكرت في المقال السابق كانت مسألة التعامل والتعود على الاختلافات فيما يتعلق بأصناف الطعام والمواد الغذائية في المجتمعات الأوروبية تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، ومع مرور الوقت ومعرفة اللغة بشكل أكثر والتعود على الحياة في المجتمع الجديد أصبحت المسألة أسهل إلى حد ما، وصار بإمكاني تمييز المنتجات واختيار ما أريده من بينها أو ما يمكن أن يكون بديلاً لما كنت أعرفه من منتجات في وطني، ومع ذلك ظلت هناك بعض الأمور الغامضة فيما يتعلق بهذا الجانب؛ لكن هذه المسألة لم تعد تحتل حيزاً مهماً كما كانت في السابق، ربما بسبب التعود أو حتى الملل!
لكن الأمر لا يقتصر فقط على شراء منتج غذائي ما أو البحث عن بديل له، فقد يضطر المرء إلى أن يتناول الطعام في أحد المطاعم، وهنا قد يكون الأمر عادياً حين تزور مطعماً يقدم أطباقاً شرقية معروفة، لكن المشكلة قد تحدث أحياناً حين تتناول الطعام في مطعم أوروبي، وهذا ما حدث ذات مرة حين دعتنا سيدة ألمانية تربطنا بها معرفة وثيقة إلى تناول الغداء في مطعم ألماني شهير متخصص في تقديم المأكولات البحرية "اللذيذة"!
كنت وزوجتي نعتقد أن الأمر لن يكون معقداً أو مزعجاً؛ لأن الموضوع يتعلق بصنف نعرفه جيداً ولا يُشكل أكله أية مشكلة مهما كانت الاختلافات الثقافية أو الدينية أو الصحية ألا وهو "السمك" الذي يمكنك أن تتناوله بأريحية، سواء كنت في شمال النرويج أو في أقصى جنوب الصين..
لذا اتخذنا مقاعدنا في ذلك المطعم الأنيق وجاءت النادلة لتوزع علينا قائمة الوجبات لنختار منها، وهنا بدأ الاسترخاء يتلاشى وتبادلنا أنا وزوجتي النظرات بشيء من الحيرة والارتباك الذي لم نشأ أن يظهرا على ملامحنا بوضوح! فالأصناف المذكورة كانت عجيبة وأجرؤ على القول "مخيفة"، سواء من ناحية الوصف أم الصور المصاحبة لكل صنف.
كنت أقلب بعيني هنا وهناك بحثاً عن شيء ما أعرفه يتعلق بالسمك الذي ألفته وطالما أحببت أكله، لكن بلا فائدة، نفس الشيء كانت زوجتي تحاول فعله عبثاً ونحن نختلس النظرات إلى مُضيفتنا التي التمعت عيناها بسعادة وقد وجدت ضالتها بسرعة ثم سألتنا بمرح عما اخترناه، وهنا لم نجد بُداً من اتباع سياسة الاختيار بين مُرين، فأشرنا بتعاسة إلى أحد الأصناف التي بدت لنا "سمكية" إلى حد ما..
بعد دقائق جاءت أطباق الطعام لنفاجأ -بعد الاستفسارـ بأن الطبق الذي اخترناه هو عبارة عن سمك نيئ مع صلصة الكريمة الحلوة وأشياء أخرى هُلامية تحيط بالسمك لم أجرؤ على سؤال النادلة الشقراء عنها وهي التي كانت تُهنئنا أنا وزوجتي على ذوقنا "الراقي" في اختيار هذا الطبق بالذات!
وبينما شرعت مُضيفتنا الألمانية بالأكل في استمتاع طفقنا نتبادل النظرات أنا وزوجتي ونحن لا ندري بالفعل كيف يمكن أن ننجو من هذا المأزق، كنت أمسك بالملعقة والشوكة وأعبث بهما في الطبق وأنا أحاول أن أقنع نفسي بأن الذي في طبقي هو "سمك"، ويجب أن آكله بشهية كمكافأة لي على ذوقي "الراقي" في اختيار الأصناف!
وهنا خطرت لي فكرة فنهضت متعللاً بالذهاب إلى استراحة الرجال بينما عينا زوجتي تتابعانني في توتر ربما ظناً منها أنني سوف أفر من المكان وأتركها وحيدة! لكن هذا لم يكن هدفي وإن كنت لا أنكر أنه دار ببالي للحظات!
المهم اتجهت بخطوات سريعة إلى حيث كانت تلك النادلة واقفة وتأكدت أن مُضيفتنا الألمانية لا تراني وبصوت خافت محاولاً ألا أجلب الانتباه قلت للنادلة إن لديَّ سؤالاً صغيراً يتعلق بالطعام، تقلص وجهها في قلق وهي تتساءل إن كان كل شيء على ما يرام، كدت أقول لها بحنق إن الأمر مُقلق بالتأكيد ما دمتم تقدمون السمك بصلصة الكريمة الحلوة والأدهى أنه نيئ! حتى الأخ روبنسون كروزو كان يطهو السمك في جزيرته! لكني تمالكت أعصابي وسألتها بصوت هادئ إن كان السمك الذي اخترناه نيئاً بالفعل أم إن هناك لبساً في الموضوع؟ ربما تم طهي هذا السمك لكنهم فقط يسمونه نيئاً، كنت كالغريق الذي يتشبث بقشة أمل، فلو أنها قالت إن السمك مطبوخ فسوف أتغاضى عن موضوع الكريمة الحلوة وتلك الهلاميات وأتناوله وأمري إلى الله، لكن النادلة هزت رأسها بقوة وهي تؤكد لي بحماس و كبرياء أن السمك نيئ 100 %، أعدت السؤال برجاء هذه المرة وبصوت متهدج لكنها أصرت بذات الإباء وكأنني أهين المطعم لو فكرت للحظة أنهم يطهون السمك قبل تقديمه!
الطريف أنها قالت وهي تبتسم ابتسامة عريضة إنه بإمكاني أن أطمئن تماماً وأن آكل السمك وأنا على ثقة كاملة أنه نيئ كما باضته أمه في عرض البحر! هكذا عدت أدراجي وأنا محطم وفاقد للأمل وجلست جوار زوجتي التي كانت مستمرة في العبث بشوكتها على حواف الطبق ونظرت لها بيأس، لا فائدة من المراوغة وعلينا أن نأكل كي لا نفسد فرحة مُضيفتنا اللطيفة والتي كانت منهمكة في الأكل بسعادة كبيرة أثارت غيظنا! ومن نافلة القول أن أذكر أننا ومنذ ذلك اليوم لم ندخل أي مطعم متخصص في تقديم الوجبات البحرية!
وبعيداً عن تجربة المطاعم التي قد تكون مزعجة أحياناً، فإن شراء وتناول المنتجات الأخرى مثل المُعجنات كان ولا يزال يمثل تجربة جميلة بسبب التنوع الكبير الموجود في أصناف الخبز، خصوصاً في بلد كألمانيا يفخر كثيراً بهذا الجانب، لكن الإفراط في الثقة له مساوئه أيضاً، ففي مرة كنت وزوجتي نتسوق في مركز تجاري كبير وشعرنا بالجوع ففكرنا أن نتناول بعض المعجنات مع كوب من القهوة ثم نواصل مشاويرنا، وهكذا ذهبت إلى أقرب محل يبيع المعجنات، وفي العادة أقوم باختيار أشياء مألوفة خصوصاً، حين لا يكون لديّ وقت للسؤال عن المكونات أو التدقيق فيها، لكن في تلك المرة فكرت في نوع من التغيير، وهكذا جلت ببصري بسرعة على الرفوف التي امتلأت بأصناف وأشكال متنوعة وشهية من المخبوزات والحلويات التي أحتاج إلى أسبوع على الأقل كي أفهم ما الذي يحتويه كل صنف منها، أما الأسماء فلا يكفي العمر كله لحفظها، وفي الحقيقة بعض تلك المخبوزات كان له منظر غامض ومخيف ولن أستبعد لو قال لي البائع وهو يبتسم إن هذه الأشياء هي ساندوتشات عيون السلاحف بالصلصة أو أرجل الضفادع المقلية بالزبدة!
المهم وقع بصري على ما يشبه الكرواسان بالجبنة وعلى الفور اخترت كمية منها مع كوبين من القهوة، عدت أدراجي حيث كانت زوجتي في انتظاري وبدأنا نأكل، كان مذاق الكراوسان جديداً وغير مألوف لكلينا إلا أنني لم أجده سيئاً على الأقل بالمقارنة مع ساندوتش السلاحف ذاك، لكن زوجتي أمسكت بالكرواسون تتأمله في شك قبل أن تسألني إن كنت واثقاً أن هذا الكرواسون لا يحتوي على أية أشياء أخرى مُريبة، هززت رأسي بثقة وأنا مستمر في القضم والرشف.
كنت آكل بأريحية بينما ظلت زوجتي متشككة خصوصاً أن المذاق لم يرُق لها على عكسي أنا وسمعتها تعلق على منظر القطع البنية الصغيرة المتناثرة هنا وهناك.. لكني لم أشعر بأي قلق، بعد كل هذا الوقت والخبرة التي تولدت لديَّ لا يمكن أن أخطئ، بل يمكنني القول إنني أستطيع أن أشتم رائحة مشتقات الكحول أو الخنزير في أي منتج ولو عن بُعد! لكن في وقت متأخر من ذلك اليوم وقبل أن أخلد إلى النوم طاف بذهني خاطر مفاجئ ومنغص بعض الشيء، وعلى تقنية "الفلاش باك" تذكرت بشكل ضبابي أنني في خضم العجلة لم أنتبه إلى بعض الكلمات التي كانت مكتوبة أسفل الرف الذي اشتريت منه ذلك الكرواسون، ثم وجدت نفسي أفكر في تلك القطع البنية الصغيرة التي كانت موزعة فيه والتي أثارت شكوك زوجتي.. أعرف أن هناك عشرات الأنواع من الجبنة هنا لكني لم أرَ من قبل مثل هذا الشكل.. ترى هل تكون تلك القطع عبارة عن……؟
وهنا بدأت عضلات بطني تتقلص! لكن ما زال هناك شك في الموضوع، قلت لنفسي غداً صباحاً أعود إلى المكان وأتأكد، وفي اليوم التالي ذهبت وتأكدت شكوكي، بالفعل وبخط صغير كان ذلك الكرواسون يحتوي على شيئين الجبنة -وهو خبر طيب ويعني أنني كنت على نصف حق- وكان أيضاً يحتوي على لحم الخنزير وهو ما يفسر تلك القطع الصغيرة الغامضة والمذاق غير المألوف والذي أشعر به الآن وأتقزز منه بأثر رجعي! طبعاً الأمر هنا كان بالخطأ لكن الشعور بالتقزز كان قوياً، وكان يعني أيضاً أن الثقة الزائدة بالنفس قد تؤدي بصاحبها إلى الوقوع في الخطأ وهو درس تعلمته بالطريقة الصعبة وصرت بعدها أكثر حذراً وتدقيقاً وعرفت أن المعركة بيني وبين مشتقات الكحول والخنزير لم تنته بعد، وبالإضافة إلى هذا كله، كانت لدي مشكلة أخرى وهي كيف أصارح زوجتي بالحقيقة وبأن شكها كان في محله!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.