العلوم الإنسانية مفتاح تفوق الشعوب والسبيل إلى الهيمنة

عربي بوست
تم النشر: 2022/12/26 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/26 الساعة 11:37 بتوقيت غرينتش
العلوم الإنسانية مفتاح تفوق الشعوب والسبيل إلى الهيمنة/ Shutterstock

بدأ صراع الإنسان ضد الإنسان، منذ أن أدرك أن صراعه مع تلك القوى الغيبية التي ترجمها إلى أساطير هو صراع محسوم سلفاً لصالح تلك القوى، التي لم يجد لها عقله تفسيراً سوى أن لكل ظاهرة وقوة طبيعية إلهاً يتحكم فيها، فحوَّل الصراع من عمودي "سفلي – علوي"، إلى صراع أفقي، فلحظة اكتشافه أنه لا يعيش بمفرده على هذه اليابسة، وأن هناك بشراً مثله يعيشون في مناطق قد تكون بعيدة أو قريبة منه، يختلفون عنه في تقاليدهم وعاداتهم وحتى لون البشرة في كثير من الأحيان.

 أدرك أن السبيل الوحيد للبقاء على هذه الأرض أطول مدة هو التحكم بموارد الحياة فيها وكان أهم موردين هم الماء باعتباره أساس الحياة، والملح باعتباره المادة الوحيدة الحافظة في تلك الفترة، ولهذا أقيمت جل حضارات الإنسان الأول على ضفاف المسطحات المائية، فتمركز الإغريق والفينيقيون على شواطئ البحر المتوسط واستغل البابليون والآشوريون دجلة والفرات، كما بنا الفراعنة حضاراتهم على ضفتي النيل وشواطئ المتوسط والبحر الأحمر من جهة الشرق، وحتى حضارتي الأنكا والمايا في أمريكا الجنوبية شكل نهر الأمازون العمود الفقري لتلك الحضارات، وشكلت المياه أول مصادر الحياة التي عرفها الإنسان.

ومع بداية الصراع المباشر بين هذه الحضارات وحتى التي لم نذكرها؛ لأن المجال لا يتسع، بدأ تزول حضارات وتظهر أخرى وبدأت أسباب الصراع تتغير وتتطور مع اكتشافات الإنسان المتعددة، ومع ظهور الأديان تحول الصراع إلى صراع ديني أيديولوجي، فقد دامت الفتوحات الإسلامية لسنوات طويلة، وكذلك الحروب الصليبية في الشرق بعد ذلك.

والواقع أن تلك الحروب لم تتوقف ولن تتوقف، ولم تكن الحركات الاستعمارية مع بداية القرن التاسع عشر سوى امتداد لها، ولكن الشيء الوحيد المتغير هو أساليب الحرب واستراتيجياتها، فهل حروب الماضي هي نفسها حروب الحاضر؟ أم اختلفت الطريقة وظلت الغاية ذاتها؟  

مع تطور العلم وإثبات نظريات العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية فاعليتها ونجاعتها، تقلصت احتمالات الصراع المباشر والحروب العسكرية، ولماذا أقول تقلص وليس انتهت، لأن الكثير سيعارضني ويحيلني على الدمار المنتشر في جميع أنحاء العالم العربي، صحيح ولكن ليس بالطريقة السابقة في الماضي، الدمار اليوم هو نتاج أصحابه وليس نتاج قوى خارجية، صحيح أن للقوى الخارجية دوراً في ذلك، ولكن دون أن تستنزف إمكانياتها المادية والبشرية إليكم التوضيح.

  من المستحيل أن يكون هذا الآخر الغريب عنا قد انتصر علينا فقط بتطوره العسكري وبأس جنوده، بل الأمر أعمق من هذا بكثير، وهنا يأتي دور المعرفة التاريخية؛ إن آخر صدام غربي شرقي أو دعنا نقُل شمالي جنوبي خلال القرن العشرين خِلنا أننا انتصرنا فيه لم يكن كذلك، والدليل أنهم اليوم يصولون ويجولون داخل بلداننا ونحن لا نجرأ حتى على إطلاق رصاصة واحدة ضدهم.

 أدرك الغربي أن السبيل الأنجع في تدمير الآخر هو جعله يدمر نفسه بنفسه، وهذا ما غفل عنه الشرقي، فأعاد فتح مجلدات الماضي وقراءة التاريخ من جديد ففي التاريخ تكمن نقاط القوة ونقاط الضعف، المعرفة التاريخية تمكنك من دفع عدوك لإعادة أخطائه دون أن تظهر في الصورة، لأن معرفة تاريخ الأقوام سيقودك حتماً لمعرفة الطبيعة الاجتماعية التي تتكون منها المجتمعات.

وهنا يأتي دور العلوم الاجتماعية، معرفتك لطبيعة المجتمعات سيقودك حتماً للنقاط الفارقة فيها، هذه النقاط تفكك المجتمع وتجعل منه جماهير متناحرة، فمعرفتك مثلاً بدقائق الفتنة الكبرى بعد وفاة الرسول، سيقودك للصراع الطائفي الذي لا تزال تبعاته لحد الساعة، ومعرفتك بالمجتمعات الهجينة والمركبة من عرقيات وإثنيات عدة، سيقودك حتماً لأزمة الهوية والأصول مثلاً كما هو الحال في شمال إفريقيا.

كل هذه النعرات ستسهل عليك زرع الصراعات الخلافات بين أبناء الوطن الواحد، لتفرض تواجدك داخل هذه الأقطار كوسيط للصلح دون أن تجد أي اعتراض، وهذا ما يمكن تسميته باستعمار القرن الواحد والعشرين.

لهذا فأهمية المعرفة التاريخية واقترانها المباشر بالعلوم الاجتماعية، يجعل منك تتوقع خطوات عدوك قبل أن يقدم عليها فهي تساعدك في تدارك أخطائك وغلق الطريق أمام عدوك لحيلولة دون استغلالها.

فالتاريخ لا يمكن دراسته بمعزل عن العلوم الاجتماعية، لأن العلوم الاجتماعية هي التي تفسر الأخبار التاريخية وتحولها لنظريات يستفاد منها في تسيير الشعوب نحو مشروع التنمية، والأمثلة على ذلك كثيرة فعربياً مثلاً قامت جل نظرياتها ابن خلدون في ما سماه علم العمران البشري، على المزاوجة بين المعرفة التاريخية والعلوم الاجتماعية في مقدمته-ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر- الشهيرة وليس هذا فقط فهو يتوجه بنقد لاذع للذين "إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً، محافظين على نقلها وهما أو صدقاً، لا يتعرضون لبدايتها.

ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متطلعا بعدُ إلى افتقاد أحوال مبادئ الدول ومراتبها، مفتش عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثاً عن المقنع في تباينها أو تناسبها"، فهو آخذ أغلب المؤرخين في عصره على اعتبارهم التاريخ مجرد قصص تروى مثل قصص الجدات.

 ويعتبر التمحيص والتدقيق والتحليل من أهم سمات المؤرخ وليس جمع الأخبار ومعرفتها، والتمحيص والتدقيق والتحليل وإعمال العقل والمنطق في التعامل مع المعرفة التاريخية لا يقوم إلا بمعرفة مستفيضة لأهم أساسيات ونظريات العلوم الاجتماعية، فالمؤرخ ليس مجرد ناقل للأخبار غثِّها وسمينها كما يصف ابن خلدون الفارابي بل هو العالم بطبيعة الشعوب واهتماماتها وتوجهاتها، ليقدر على تفسير حوادث التاريخ للمتلقي، فالمتلقي يهمه السبب والنتيجة أكثر من اهتمامه بالخبر وحسب وكل هذا يندرج تحت ما يعرف في العلوم الحديثة والمعاصرة بالعلوم الاجتماعية.

نجد عند الغرب أيضاً دراسات قيمة عن انفتاح المعرفة التاريخية على العلوم الاجتماعية، من أهم الدراسات التي "Gostave Le Bon" شكلت تلاقحاً بينهما دراسة عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون

   فهو على غرار ابن خلدون يعتبر La psychologie des foules في كتابه الشهير سيكولوجية الجماهير أن العلوم الاجتماعية ومعرفة طبيعة الشعوب أو حتى جهلها شكلت فارقاً كبيراً في عدة مفترقات تاريخية ويسوق لنا مثلاً عن القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت، "فنابليون مثلاً كان ينفذ بشكل رائع إلى نفسية الجماهير الفرنسية، ولكنه كان يجهل بشكل كل نفسية الجماهير التي تنتمي لأجناس وأعراق مختلفة، وهذا الجهل قاده إلى خوض حروب في إسبانيا وروسيا خصوصاً.

هذه الحروب التي أدت في ما بعد لسقوطه"، يمكننا القول إن المعرفة التاريخية وعلاقتها بالعلوم الاجتماعية قد أثرت في مسار نابليون بشقيها الإيجابي والسلبي، فهو من خلال معرفته الجيدة بمجتمعه الفرنسي استطاع تكوين جيش من أشد الجيوش في العالم ومن خلاله أسس إمبراطوريته وأن جهله بطبيعة المجتمعات والأقوام التي يحاربها جعله يستهتر ويتهور في خوض حروب لا يمكنه توقع نتيجتها وهذا ما أدى إلى اندثاره ونفيه في ما بعد.

وفي الأخير لا يمكننا إلا أن نقول إن علاقة المعرفة التاريخية بالعلوم الاجتماعية، تشبه علاقة الأدب باللغة فلا يمكن دراسة أحدهما دون دراسة الآخر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
يوسف بكاكرية
طالب جامعي ومدون
طالب جامعي ومدون
تحميل المزيد