كرة القدم "الساحرة المستديرة" لها قدرتها العنيدة على جذب القلوب والإدهاش، وتفجير الغايات والمصالح، هي الميدان الذي خلق روحاً جماعيةً: أنا ألعب وأفوز إذن أنا موجود. فأسلوب اللعب هو طريقة في الحياة يعكس التصور الخاص لكل مجتمع ولكل بلد وقومية، فهو تماثل إجباري بين المتنافسين، وإيقاع اجتماعي وسياسي واقتصادي منقطع النظير، فمع انتهاء مونديال 1994م وفوز البرازيل على الأراضي الأمريكية، أُطلق اسم روماريو على جميع الأطفال الذين ولدوا في البرازيل آنذاك، وبِيع عشب استاد لوس أنجلوس مجزأً في قطع صغيرة مثل البيتزا، بعشرين دولاراً للقطعة الواحدة، وهذا هو الجنون الجدير بالتأمل والدراسة، ولا نقتصر في حديثنا على التحايل والإلهاء والتجارة المبتذلة، ونجلد ذاتنا في كل فرصة تنفست فيها أمتنا الصعداء.
كوارث وفواجع في مباريات كرة القدم
رغم انتظام كرة القدم وفق قواعد تحكيمية ودولية ووطنية صارمة، وتطور الرياضة عبر مراحل متتابعة، فإن هذه الرياضة سببت كوارث وحروباً لا تزال آثارها قائمة. ومن أبرز تلك الكوارث في رياضة كرة القدم:
أعمال الشغب في كرة القدم التي أسفرت عن سقوط 318 قتيلاً، وإصابة أكثر من 500 مشجع بالاستاد الوطني في عاصمة البيرو ليما، في مايو/أيار 1964، وذلك نتيجة إلغاء مباراة جمعت منتخب بوليفيا مع المنتخب الأرجنتيني، ما سبب إثارة وغضب الجماهير، وتدخلت قوات الأمن بإلقاء قنابل دخان على المدرجات، وكانت الأبواب موصدة، ما أدى إلى سقوط المئات بسبب التدافع والاختناق.
حرب كرة القدم، أو "حرب المئة ساعة"، التي نشبت بين هندوراس والسلفادور ضمن تصفيات كأس العالم بالمكسيك، وقد كانت بين الدولتين مشاكل حدودية.
وعندما خاض المنتخبان مباراة فاصلة، وسط أجواء عدائية بينهما، في 26 يونيو/حزيران 1969، على ملعب "أزتيكا"، بالعاصمة المكسيكية، فازت السلفادور بنتيجة 3-2 في الوقت الإضافي، وتأهلت إلى الدور النهائي للتصفيات. وعقب ذلك تظاهر جمهور هندوراس غاضباً في الشوارع، واعتدى على المواطنين السلفادوريين المقيمين في بلدهم، ليضطر معظمهم إلى الفرار للسلفادور، تاركين ممتلكاتهم. وفي اليوم نفسه، اتخذت السلفادور قراراً بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع هندوراس؛ بدعوى أن هذه الأخيرة لم تتخذ أي إجراءات فعلية للتعويض أو معاقبة مرتكبي هذه الجرائم، وتلك كانت فرصة حكام السلفادور الذين كانوا يملكون قوات عسكرية أضخم لغزو هندوراس، ووصلوا إلى أطراف العاصمة، في 14 يوليو/تموز 1969م، وخلَّفت الحرب نحو 3000 قتيل عسكري ومدني، و15 ألف جريح ومشرد، وخسائر مادية في البيوت والمنشآت، وصلت إلى نحو 8 مليارات دولار، وتوقفت العلاقات والحركة التجارية بين الدولتين، بعد إغلاق الحدود بينهما، حتى عادت برعاية محكمة العدل الدولية عام 1980، والتقى منتخبا البلدين بعد ذلك في عدة مباريات رسمية دون وقوع أي مشاكل في المدرجات أو خارجها، كما نجح الفريقان في التأهل معاً لكأس العالم في إسبانيا عام 1982.
في الأرجنتين، سقط 74 قتيلاً دهساً تحت الأقدام، وأُصيب أكثر من 150 مشجعاً، في مباراة بين فريقي ريفر بليت وبوكا جونيورز عام 1974، نتيجة تدافع جماهيري من إحدى البوابات المغلقة.
في عام 1982 سقط 340 قتيلاً خلال مباراة بالبطولة الأوروبية، وذلك بين سبارتاك موسكو الروسي وهارليم الهولندي، وذلك حينما أجبرت الشرطة المشجعين على الخروج من الملعب خلال الدقائق الأخيرة عبر أحد الأنفاق الضيقة، لكن إحراز هدف في الدقيقة الأخيرة دفع المئات لمحاولة العودة إلى الملعب من جديد، ليسقطوا تحت الأقدام بسبب التدافع في اتجاهات مختلفة.
شهدت مصر مذبحة دامية لم يتوقع أحد أن يكون مسرحَها ملعب رياضي، وذلك خلال مباراة كرة قدم في الدوري المحلي بين فريقي الأهلي والمصري البورسعيدي في مدينة بورسعيد، وقد راح ضحيتها 72 مشجعاً للنادي الأهلي، في 1 فبراير/شباط 2012.
استفاق العالم، صباح تاريخ 2 أكتوبر/تشرين الأول 2022م، على خبر مفجع، بعد أن لقيَ أكثر من 174 مشجعاً مصرعهم، عقب أعمال شغب حدثت عندما اجتاح آلاف المشجعين ملعباً لكرة القدم، بعد مباراة في الدوري المحلي في جزيرة جاوة الشرقية الإندونيسية، وقامت السلطات بعدها بهدم الملعب وتفكيكه.
كرة القدم بين الحرب والسياسة
في صيف عام 1916م، وفي أوج الحرب العالمية الأولى، شن النقيب الإنجليزي نيفيل هجومه على الألمان، وهو يشوط كرةً، وانطلق يركض وراء كرةٍ متقدماً الهجوم باتجاه الخنادق الألمانية، ولحقت به فرقته التي كانت مترددة، فقد قُتل النقيب بقذيفة مدفع، ولكن إنجلترا استولت على تلك الأرض، واستطاعت أن تحتفل بالمعركة، باعتبارها أول انتصار لكرة القدم الإنجليزية في جبهة حرب.
كما كانت كرة القدم بالنسبة إلى النازيين الألمان مسألة كرامة وأمن دولة، تدلل على ذلك حادثة في أوكرانيا خُلدت بنصب تذكاري، يذكر بلاعبي فريق دينامو كييف عام 1942م، ففي أوج الاحتلال الألماني اقترف أولئك اللاعبون حماقة بإلحاق الهزيمة بمنتخب النازيين في الملعب الأوكراني، وكان التحذير الألماني: "إذا ربحتهم ستموتون جميعاً"، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع بأرضية الملعب، ومصممون على الخسارة، ولكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في خوض المغامرة بتحدٍّ وصمود، ونتيجة فوزهم أُعدم اللاعبون الأحد عشر وهم بقمصان اللعب عند حافة هاوية بعد انتهاء المباراة مباشرة.
وفي عام 1958م، وخلال ثورة التحرير الجزائرية، شكلت الجزائر منتخب كرة قدم ارتدى لأول مرة قميصاً بألوان العلم الوطني، وقد تألف الفريق من اللاعبين مخلوفي وبن طيفور، وجزائريين آخرين كانوا محترفين في كرة القدم، ولكن الحصار الذي فرضته فرنسا حال دون تمكن الجزائر من اللعب إلا مع المغرب، الذي تعرض بسبب هذه الخطيئة إلى الإبعاد من الفيفا لعدة سنوات، ولعب عدداً من المباريات الأخرى التي نظمتها الجمعيات الرياضية في المنطقة العربية وأوروبا الشرقية.
وفي أوج كرنفال الفوز بمونديال 1970م، منح ديكتاتور البرازيل الجنرال ميديشي نقوداً للاعبين، ووقف أمام المصورين وهو يحمل الكأس بين يديه، ومضى أبعد من ذلك حين ضرب كرةً برأسه أمام الكاميرات، وعندما فازت الأرجنتين في مونديال 1978م، استخدم الجنرال فيديلا صورة كيمبيس المندفع كإعصار لأهداف مماثلة تماماً، وفي تلك الأثناء كان الجنرال بين وشيت، الآمر العسكري الأعلى في تشيلي، قد عين نفسه رئيساً لنادي كولو كولو، وهو أوسع أندية البلاد شهرة وشعبية.
وفي أواخر القرن العشرين، كسب صاحب نادي ميلان الانتخابات الإيطالية تحت شعار: "قوة إيطاليا"، والمأخوذ من مدرجات ملاعب كرة القدم، ولقد وعد سيلفيو بيرلسكوني بإنقاذ إيطاليا، مثلما أنقذ نادي ميلان بطل إيطاليا.
من هم أسياد الكرة؟
يمتلك الفيفا عرشاً وبلاطات في زيوريخ، بجانب اللجنة الأولمبية الدولية التي تحكم في لوزان، ومعهما مؤسسة الإعلان ISL ماركتنغ، التي تنسج لهما تجارتهما من لوسرن، وتملك ماركتينغ حتى نهاية القرن العشرين الحق الحصري ببيع الإعلانات في الاستادات والأفلام وأشرطة الفيديو وتمائم المنافسات الدولية، وهذه التجارة تتبع لورثة أدولف داسلير، مؤسس شركة أديداس، وهو أكبر منتج للأدوات الرياضية في العالم. وفي أواخر عام 1994م، وفي نيويورك، اعترف رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم البرازيلي جوا هافيلانج (1974- 1998م) بالحقيقة حين قال: "يمكنني أن أؤكد أن الحركة المالية لكرة القدم في العالم تصل إلى مبلغ 225 ألف مليون دولار"، وأضاف: كرة القدم سلعة تجارية يجب تسويقها بأكبر حكمة ممكنة.
وفي اليابان، حيث اشتهرت كرة القدم الاحترافية، أخذت الشركات الكبرى بتأسيس الأندية، وتعاقدت مع نجوم عالميين انطلاقاً من قناعتها بأن كرة القدم هي لغة عالمية، يمكنها أن تسهم في ترويج منتجاتها في العالم كله، حيث أنجبت شركة تويوتا نادي ناغويا غرامبوس، ووقع اللاعب المخضرم زيكو عقداً مع نادي كاشيما الذي ينتمي إلى مجموعة سوميتومو الصناعية وشركات نيسان وميتسوبيشي والخطوط الجوية اليابانية.
هل كرة القدم أفيون الشعوب؟!
عندما لم تعد كرة القدم شيئاً خاصاً بالإنجليز والبرجوازيين، ولدت في الأرجنتين والأوروغواي أول الأندية الشعبية، فجرى تنظيمها في ورش السكك الحديدية وترسانات الموانئ، وفي ذلك الوقت استنكر بعض القادة الاشتراكيين هذه الآلية البرجوازية لمنع الاضطرابات وللتستر على الطبقية الاجتماعية، فانتشار كرة القدم في العالم برأيهم مؤامرة إمبريالية للإبقاء على الشعوب المقهورة متخلفة في طور الطفولة. ومع ذلك فإن نادي جونيورز الأرجنتيني بدأ أول الأمر باسم نادي شهداء شيكاغو، تكريماً للعمال الذين شُنقوا في أول مايو/أيار، وخفت صوت مثقفي اليسار، وصاروا يحتفلون بكرة القدم بدلاً من ازدرائها كمخدر للوعي، ومن بينهم الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي امتدح كرة القدم واعتبرها: "مملكة الوفاء البشري، وهي التي تُمارس في الهواء الطلق".
واعتبر بعض المفكرين والعلماء المسلمين رياضة كرة القدم جزءاً من المؤامرة التي خطط لها الغرب والصهاينة ضد الأمة، فاقتبس الدكتور عباس محمود العقاد النص (13) من بروتوكولات حكماء صهيون، والتي نشرت لأول مرة في روسيا القيصرية عام 1903م: "إنما نوافق الجماهير على التخلي والكف عما تظنه نشاطاً سياسياً إذا أعطيناها ملاهي جديدة، داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى في كل أنواع المشروعات والرياضة وما إليهما، وهذه المتع ستلهي ذهن الشعب حتماً عن المسائل التي سنختلف فيها معه". وبناء عليها اعتبرت كرة القدم (الساحرة المستديرة) من المتع التي تشغل أذهان الشعوب، وتنهك طاقات الأمة وتبددها، ورغم أن الكرة ليست الميدان الاستراتيجي للنهضة والتقدم، فإن هناك مبالغة كبيرة حين نعتبر أن مخاطر كرة القدم تمس جوهر العقيدة والولاء والبراء لدى شبابنا، كما جاء في جريدة الرياض في مقال عنوانه "أضخم مؤامرة في تاريخ البشرية"، بأن الصهيونية جندت الحجر والبشر للتآمر على المسلمين لنسف الولاء والبراء عندهم، عبر إغراقهم بحب اللاعبين الكبار وتسويق شعارات النوادي العالمية ومنتجات الشركات الرياضية، فالرياضة ثقافة جماعية، وفضاء لتحقيق الرغبات المالية والسياسية والأمنية دون شك، ولكنها هوىً شعبي لها حظها الوافر في سعادة الشعوب وعلاقة الأمم فيما بينها، وهو ما عبّر عنه العرب في مونديال قطر عبر الاعتزاز بهويتهم ورفع علم فلسطين والثورات العربية في الميادين، ومرونة التلاقي مع أبناء المجتمعات الإنسانية، في فرصة للتعريف بالإسلام والثقافة والقيم والأخلاق العربية؛ لتغيير الصورة النمطية والعداء التقليدي الذي استشرى بين الشعوب، وخاصة بين الغرب والمسلمين، على مر الأزمان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.