أسدل الستار يوم الأحد الماضي على مونديال قطر 2022، وانتهى بالضبط كما أراده الجميع أن ينتهي بتتويج ليونيل ميسي وخسارة الوصيف الفرنسي لتاجه، وكانت قطر أكبر المستفيدين من بعدهما بعد أن قدمت للعالم بطولة استثنائية في بلاد العرب والخليج، تحدت من خلالها جميع الاتهامات والتشكيكات وتمكنت بكفاءة عالية أن تنظم أضخم حدث رياضي في العالم فوق مساحة صغيرة في بيئة شرق أوسطية لا يعرف عنها الناس سوى الحروب والنزاعات والصحراء.
قد تكون التجربة القطرية باعتبارها مزيجاً لعناصر التخطيط والتنفيذ والتسويق ببراعة فائقة مصدر إلهام وأمل لباقي الدول العربية التي تطمح للريادة في عالم لا مكان فيه للمتخلفين عن الركب، وقد لا يعني نجاح تنظيم حدث مونديالي الشيء الكثير مالياً وتجارياً، لكنه وفي الحالة القطرية يجسد النجاح المنشود لاختلاف البيئة والأهداف والإمكانيات. بعد آخر مباراة ورغم حسرتي بخسارة مبابي أمام ميسي للتاج العالمي لكنني أردت أن أكتب ما يمكن وصفها بدروس نستطيع استخلاصها من المونديال القطري.
قدرة الأنظمة العربية على صناعة الرفاه
لقد أثبت مونديال قطر باعتباره أول كأس عالم يقام في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ بداية تاريخ هذه المنافسة الكروية، أن تنظيم هذا النوع من المسابقات لا يجب أن يكون حكراً على أحد.
ظهر جلياً الإبداع القطري في مجاراة هذا التنظيم من كل النواحي وحضر الإبداع البصري والفني سواء في حفلي الافتتاح أو الاختتام وطريقة إخراج المباريات، كما الإبداع الهندسي في عدد الملاعب وروعة معمارها وحتى لوجستياً من خلال توفير بنية تحتية مميزة في مساحة ضيقة وبيئة صحراوية قاسية، استطاعت أن تستقبل وتدير أكثر من مليوني سائح أتى لمشاهدة المونديال.
إن قدرة دولة قطر على التخطيط والإنجاز والوفاء بكل الالتزامات التي ينص عليها دفتر شروط الفيفا والبدء من نقطة الصفر لبلد خليجيق يدعم فكرة أن حسن الإدارة والحوكمة متواجدة في الأنظمة العربية ، لقد بات واضحاً لدى الكثيرين بنهاية هذا المونديال أن الأوروبيين ليسوا وحدهم القادرين على صناعة الرفاه.
القوة الناعمة تستحق المليارات
حتى بداية كأس العالم بلغت تكاليف التحضير للمونديال بحسب التقديرات حوالي 220 مليار دولار باحتساب مشاريع المسابقة المباشرة كالملاعب والمشاريع غير المباشرة التي تشمل البنية التحتية في إطار رؤية 2030 التي أطلقها البلد بالتزامن مع إعلان فوزها بالتنظيم سنة 2010، يعتبر هذا الرقم ضخماً مقارنة بما سبق من دورات، ويتوقع المنظمون أيضاً إيرادات مباشرة تقدر بـ12 مليار دولار، بمعنى أن ميزان الربح والخسارة يسير منطقياً نحو السلب، وهذا حال كل مسابقات الرياضة وكرة القدم لأن تنظيم كأس العالم في الواقع لم يكن يوماً لتحقيق ربح مادي باعتبار المكاسب اللامادية غير المباشرة هي الهدف الرئيسي الذي تتنافس عليه الدول.
إن الرابح الأكبر بجوار ميسي هو دولة قطر العربية الخليجية الصغير بمساحة لا تزيد على 12 ألف كلم التي استطاعت أن تضع لنفسها مكاناً في العالم وتثبت وجودها وتجعل الجميع -ببراعة تسويقية لا نظير لها- يتعرف عليها، ليس فقط حداثتها ولكن ثقافتها البدوية وتاريخها، وتستطيع في نفس الوقت التسويق للقيم الجامعة للعالم العربي والإسلامي وقضاياه والتعبير عن خوالج الكثير من العرب إزاء ما يحدث في المنطقة والعالم في ظل صمت إعلامي دولي مطبق.
سيساهم هذا لا محالة في الدفع بمشروع القوة الناعمة القطرية التي بدأتها منذ عقود بترسانتها الاعلامية ودبلوماسيتها الخارجية ليزيد من نفوذها الإقليمي والدولي.
الفيفا مؤسسة مستقلة عن سياسيات الدول
لعل تصريحات إنفانتينو قبل بداية المونديال عن الأحكام المسبقة التي يطلقها الغربيون على غيرهم وضرورة أن يطلب الغربيون "الصفح" من الشعوب الأخرى كانت انتصاراً واضحاً لقطر، بل تعتبر مفاجأة مدوية و"تصريحاً تاريخياً" يصدر من أكبر مسؤول في أكبر هيئة لأكثر لعبة شعبية في العالم.
كانت هذه التصريحات غير منتظرة وجاءت في سياق حملة إعلامية ضد المونديال العربي الأول تحذوها "عقدة فوقية" متنامية من الغرب تجاه قطر ورغبة الكثير من الفرق الوطنية لاعبين ومسؤولين في كسر الإصرار القطري على التمسك بمبادئه وشروطه باعتباره البلد المضيف الذي أعلنها للجميع.
ورغم الضغوط الكبيرة التي مارستها كبار الدول واللوبيات العالمية سياسياً ومالياً على هيئة الفيفا من أجل تغيير هذه الشروط إلا أن أكبر هيئة كروية دولية وقفت إلى جانب الدولة القطرية، وقد كان هذا أكبر امتحان لاستقلالية الفيفا التي بينت أن قرارها بيدها، وأنها الوحيدة التي تقرر في كرة القدم العالمية مهما كان المعارضون.
تجنيس الكرة وصدام الشرق والغرب
من بين المواضيع التي أثارت الجدل في هذا المونديال قضية شارة المثليين التي وبرغم أن الموضوع يعتبر دخيلاً في عالم كرة القدم إلا أنها كانت وجهاً للتباين في المونديال القطري بين بيئة مسلمة شرقية متدينة وضيوف غربيين حداثيين.
لقد كان الإصرار الغربي كبيراً من أجل كسر صمود دولة قطر المضيفة التي أعلنت منذ البداية رفضها لأي صورة من صور تجنيس اللعبة في بلادها، يتضح هذا في البلبلة التي أحدثها الفريقان الألماني والهولندي اللذان أصرَّا على حمل شعار دعم المثليين فوق أرض الملعب ثم أعقبها تصريحات مسؤولين غربيين عن ضرورة دعم المنتخبين في مسعاهما، إلا أن الفيفا استطاعت تحجيم الأمر بتهديدها بعقوبة البطاقة الصفراء والتي كانت كفيلة بتغيير رأي المنتخبين إلا أن الموضوع حتماً لن ينتهي هنا، لقد كانت هناك أصوات معارضة من طرف المشجعين والصحفيين الذين أصروا على إظهار دعمهم للقضية المثلية وفي قطر التي منعتهم، يوحي هذا بأننا أمام انقسام يتجه للتصادم بين مجتمعين مختلفتين عجز كلاهما على الالتقاء والتحاور. قد يكون هذا التحول أول مظاهر "صدام الحضارات" الذي تكلم عنه المفكر الأمريكي صامويل هنتغتون منذ أربعين سنة، خصوصاً مع بداية تكوين عالم متعدد الأقطاب وانهيار النفوذ الغربي الأحادي على العالم.
أفضل طريقة للهجوم هي الدفاع
من الناحية الفنية والتكتيكية، كان المونديال القطري مملاً ونمطياً مشابهاً في مبارياته لمونديال روسيا 2018 عدا مفاجأة وصول المغرب للنصف نهائي كان الباقي شرفياً فقط منها فوز تونس على فرنسا، والكاميرون على البرازيل وحتى السعودية على الأرجنتين، ولم يؤثر عملياً على سير المونديال وميزان القوة الذي كان ولا زال بيد المنتخبات العريقة الأوروبية واللاتينية.
مع هذا اتسمت أغلب المباريات بنمط واحد بين فريقين أحدهما يستحوذ على الكرة وخصم يدافع بكتلة متوسطة، وغالباً ما كان الفريق المدافع هو الفائز، ونتيجة لذلك وصل للمربع الذهبي أربعة منتخبات كلها تتبع فلسفة الدفاع كفرنسا وكرواتيا والأرجنتين بدرجة أقل، بينما أقصيت المنتخبات المعروفة بصنع اللعب والهجوم كإسبانيا والبرازيل.
لقد انتصر المونديال مرةً أخرى للكرة الدفاعية واللعب المغلق وأكد نهاية "فلسفة الكرة الشاملة"، وأثبت أن أفكار جوزيه مورينيو هي في النهاية التي انتصرت للفرق التي اتبعتها، حتى لو كان ذلك حماقة تكتيكية أن تدافع وأنت تملك أفضل المهاجمين في العالم.
أكد مونديال القطر أيضاً مرةً أخرى أن التباين بين الفرق الضعيفة والقوية لا زال يتقلص خصوصاً على مستوى المنتخبات؛ بدليل أن النتائج الثقيلة كانت قليلة جداً، وأن الانضباط التكتيكي يستطيع قهر الموهبة مهما كان قدرها، وفوز كرواتيا على البرازيل خير مثال. لقد كان الخصم الصعب هو من يدافع جيداً وليس من يهاجم، وكانت أحسن طريقة للفوز هي الدفاع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.