بعد فراغ سياسي استمر لأكثر من 15 شهراً، ظل السودان فيها بلا حكومة تنفيذية وبلا وزراء.. ها هي الآن ملامح الحكومة القادمة قد بدأت تتشكل. نعم، سوف تولد هذه الحكومة، وستكون مكتملة الهياكل، وسيتم الاحتفال بها والترويج لها، وإلقاء الكلمات الترحيبية والاحتفالية وتبادل التهاني، إلا أن هذه الحكومة، وبعد كل هذه الأجواء الاحتفالية، سرعان ما ستنهار؛ وذلك لأنها حملت بذرة فنائها في أحشائها حتى قبل ميلادها.
أول معاول الهدم الذاتي هي البنود المفخخة المكتوبة بجرأة في نص الاتفاق الإطاري المتشكلة بموجبه، ثم اللف والدوران واللغط الكبير الذي صاحب التمهيد لهذا الاتفاق منذ البداية.
البنود المفخخة
أولاً: اختيار قادة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وصلاحية هذا الاختيار أعطيت حصراً إلى التكوين السياسي (المسمى قحت) دون سواها من القوى السياسية الأخرى الموقعة على الاتفاق، وهذا تمييز تفضيلي لقحت، ظالم لغيرها.
ثانياً: تقوية قوات الدعم السريع مقابل إضعاف الجيش، خاصة في ناحيتي الاستثمار والسمعة، وهذا النص مكتوب بوضوح (نزع استثمارات الجيش مع الإبقاء على استثمارات الدعم السريع)، كما أن توقيع الفريق حميدتي أصالة عن نفسه، إلى جانب الفريق البرهان، يظهر الدعم السريع بمثابة القوى الموازية للجيش والمنفصلة عنه، والتي لها تقديراتها السياسية الخاصة بها، والتي تخول لها التوقيع بتمثيل وإرادة منفصلة.
ثالثاً: توجد العديد من المؤشرات القوية التي تدل على وجود بنود سرية في الاتفاق. وهو ما رشحت تسميته بـ(صفقة منح السلطة لـ(قحت)، مقابل منح الحماية القضائية للعسكر مع تهدئة الشارع ضده).
اعترف الرئيس البرهان بطلب هذه الحماية في لقائه مع مدير مكتب قناة الجزيرة بالخرطوم الأستاذ المسلمي الكباشي، وبرر طلب الحماية القضائية، أسوة بما حصل في ثورة 1964 للمجلس العسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود.
رابعاً: الصناعة الأجنبية الكاملة للاتفاق.. هذه الصناعة الأجنبية اعترف بها لاحقاً وعلى الملأ كل من المبعوث الأممي فولكر ود. مريم الصادق، مقابل الكذب والإنكار والمراوغة في البداية. رغم أن هذا الدور الخارجي معروف ومفضوح للرأي العام المحلي والخارجي، إلا أن الاعتراف الرسمي به جاء متأخراً بعد أن فضحه الإعلام المحلي.
خامساً: تصريح السفير الأمريكي للقائد مناوي، بحرمان الملتحقين حديثاً بالاتفاق الإطاري من التوقيع على البرنامج السياسي للحكومة المقبلة؛ أي السماح لهم بالتوقيع على الاتفاق الإطاري العام، مع حرمانهم من التوقيع على البرنامج السياسي التفصيلي. هذه واحدة من الأدلة الكثيرة الدامغة التي تؤكد تحكم القوى الأجنبية في صناعة وقيادة المشهد السياسي السوداني الحالي. يذكر أن السفير الأمريكي في طوافه على ولايات السودان لمقابلة الزعماء المحليين والإدارات الأهلية، كان قد صرح وبذات الوضوح لأحد الزعامات المحلية وهو الناظر دقل، بأنهم لن يسمحوا بإقامة انتخابات في الوقت الراهن، وبرر ذلك بالنص الآتي: تفادي أن يفوز بها الإسلاميون.
أما المبعوث الأممي فولكر فكان قد طلب من الزعيم القبلي الآخر الناظر ترك بأن يتخلى عن دعمه للتيار الإسلامي العريض. وهكذا وصل حال الجرأة من التدخل الخارجي في أدق التفاصيل بتجنيد الزعامات واستقطابها لصالح أحد التكتلات السياسية أو ضده كما التدخل في نتائج الانتخابات والاحتياط بأن يفوز بها هذا أو ذاك.
سادساً: المنهج الذي كُتب به الاتفاق الإطاري، والذي هو قائم، وبكل وضوح وبلا مواربة، على تقسيم المؤيدين له إلى عدة فئات. فئة درجة أولى وسماهم القوى الثورية (صلاحيات سيوبر)، وفئة أخرى درجة ثانية سماهم (قوى الانتقال)، وهؤلاء ليس لهم الحق في اختيار هياكل السلطة التنفيذية العليا.
أما الفئة الثالثة فهي التي وقعت على الاتفاق الإطاري بعد إعلانه، فهذه ممنوعة من التوقيع على البرنامج السياسي. هذا التقسيم ستتولد عنه انقسامات داخلية في المستقبل القريب جداً.
تصريحات الرئيس البرهان غير الحصيفة
اعترف الرئيس البرهان في تصريحاته بعدم وقوف الجيش على مسافة واحدة من القوى السياسية، وبرر ذلك بأن قسم القوى السياسية السودانية بمعياره هو إلى (قوى وطنية مثلنا، أي مثله هو)، وقوى أخرى كال لها الاتهامات القاسية فوصفهم بالمكابرة وبأصحاب الأجندة، ثم اعترافه في ذات التصريحات بطلبهم للحماية القضائية وتبريره لها.
موقف حزب المؤتمر الوطني والتكتلات السياسية المعارضة
لكل ما ورد أعلاه، أعتقد أنه لا حزب المؤتمر الوطني، ولا التيار الإسلامي العريض، ولا التكتلات السياسية المعارضة الأخرى، ستجد في الاتفاق الإطاري والبرامج السياسية والحكومة القادمة، ما يمكن أن يقنعها بدعم أو تأييد أو التوقيع على هذا الاتفاق، أو أن تتحمل النتائج الكارثية المتوقعة له.
التوقيع على الاتفاق الإطاري من أجل مقاومته من الداخل
ظهرت بعض الأصوات التي تنادي بالتوقيع على الاتفاق من أجل إصلاحه من الداخل أو مقاومته، ولكن هذا المقترح بمثابة حبل المشنقة الغليظ؛ لأن الأهداف السرية للاتفاق، المحلية منها والأجنبية، قد تم تحديدها مسبقاً، لذا فإن إمكانية تغيير جوهر الاتفاق غير واردة. كل شيء معد سلفاِ، والآن يحتاجون لهذه القوى الرديفة، فقط من أجل الإخراج والديكور، خاصة بعد تحديد إمكانية التوقيع على مسودة الاتفاق الإطاري للملتحقين الجدد، مع حرمانهم من التوقيع على البرنامج السياسي غير المنشور.
مستقبل الاتفاق الإطاري.. ماذا سوف يحدث؟
أولاً: ستوقع مزيد من القوى لزوم الديكور والترويج.
ثانياً: ستتشكل الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية للحكومة الجديدة.
ثالثاً: ستقام الاحتفالات وتتبادل التهنئات، ولكن سرعان ما ستظهر التناقضات والاختلافات من الداخل.
رابعاً: ستواجه الحكومة المقبلة بمقاومة شرسة ومتزايدة ومتنوعة ومتصاعدة. كشر القائمون عليها عن أنيابهم، وأعدوا العدة إلى عملهم، وشكلوا تحالفاتهم، وأعلنوا عن برامجهم، وأخرجوا مظاهراتهم وهي ما سموه: سلسلة مواكب الكرامة.. كما أعلنوا عن هياكلهم وقادتهم ومتحدثيهم.
خامساً: ستنهار الحكومة كما انهارت التي قبلها، بل أسرع منها.
سادساً: الخاسر الأكبر هو الوطن، مع عدم الاستطاعة للتنبؤ بمقدار عمق الجرح، أو قيمة الفاتورة الباهظة التي سيدفعها بسبب تجريب المجرب وإعادة تسليم حكومة الفترة الانتقالية لأحزاب بعينها دون سواها، وإضعاف مؤسسات الدولة عوضاً عن تقويتها ونشر خطاب الكراهية والإقصاء وتمزيق النسيج الاجتماعي إضافة إلى بؤس الأداء التنفيذي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.