يتميز الموسيقار رياض السنباطي عن غيره من الملحنين الكبار بأنه استطاع كتابة ألحان عربية شرقية خالصة مركبة على السلم الموسيقي الكلاسيكي الغربي، بحيث تنبض قوةً وعظمة وتشعر عند سماعك لها بالتواضع، كما حصل معي، عندما سمعت لأول مرة مقدمة السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، واستصغرت نفسي في حضرتها.
كان السنباطي شبه ناسك، بيته صومعة لفنه، ولا يختلط بأحد تقريباً، يمكن القول إن شخصيته كانت انعزالية وانطوائية؛ لأنه كان يفضل الاعتكاف في بيته؛ ليتسنى له كتابة الخواطر الموسيقية حين يأتيه الإلهام، فقد كانت زوجته، التي كانت من خارج الوسط الفني، تعتذر لضيوفه النادرين عندما يهرع فجأة لغرفته ليسجل اللحن وينسى هناك نفسه ومن هم في انتظاره، حتى إن الحفلات الشهرية لأم كلثوم التي تغني فيها ألحانه، كان يكتفي بسماعها من خلال الراديو مثل ملايين المستمعين في الوطن العربي.
هناك رأي آخر يقول إن كبرياء السنباطي جعله يعيش دائماً في منأى عن الأحداث الفنية منصرفاً إلى فنه وإبداعه، يقول ابنه محمد السنباطي عنه: (شخصيته كانت مركبة، كان واثقاً وقوياً ومهيباً وبنفس الوقت كان متواضعاً ومهذباً ومنخفض الصوت، دقيقاً في مواعيده ومنظَّماً لدرجة الوسوسة، ويكره الضجيج).
توقعت عند قراءتي وبحثي عن حياته وفنه، بأنه قد تتلمذ على يد أساتذة الموسيقى الكلاسيكية العظام في معاهد الموسيقى العريقة الموجودة في فيينا أو روما أو برلين، لكن المفاجأة كانت عند اكتشافي أنه لم يتتلمذ على يد أحدٍ منهم، وعندما قام بتقديم طلب للالتحاق بمعهد الموسيقى العربية في القاهرة، اختبرته لجنة من المختصين بالموسيقى العربية في ذلك الوقت، وأصيبوا جميعاً بالذهول، حينما تيقنوا بأن قدراته أكبر من أن يكون طالباً، فأصدروا قراراً بتعيينه في المعهد أستاذاً لآلة العود.
ظهرت في مصر مجموعة أغانٍ قصيرة في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات، اشتركت جميعها بالحداثة والخفة ولاقت قبولاً كبيراً من الجمهور، ومنها "افرح يا قلبي" و"يا ليلة العيد"، وقامت أم كلثوم بغناء هذين اللحنين لرياض السنباطي.
وقدم الملحن الكبير أحمد زكريا ألحاناً شبيهة وجميلة لأم كلثوم مثل: "يا صباح الخير وحبيبي يسعد أوقاته"، ولكن كان يصعب على المستمع التمييز بينها؛ لأن المجال كان ضيقاً لمعرفة شخصية الملحن. لكن في عام 1946 لحن السنباطي أغنية "غلبت أصالح في روحي" لأم كلثوم من كلمات أحمد رامي، والتي ردَّ بها على رائعة القصبجي "رَّقْ الحبيب"، وكانت هذه الاغنية بداية عهد جديد لما يسمى الأغنية العاطفية الطويلة، التي تفوق فيها موسيقارنا وأبدع بعد ذلك في نقل الموسيقى الشرقية التي تعمَّق فيها حتى عام 1948، إلى القوالب الغربية الكلاسيكية، وعلى يده تم الاندماج التطويري المستقبلي للموسيقى العربية.
أظن أنه الوحيد بين الموسيقيِّين العرب الذي استطاع أن يسيطر على الأصوات التي كان يلحن لها ويخرج الطبقة الصوتية المثالية لكل منهم، وسِرُّه في ذلك أنه كان يقوم باحتواء مختلف التجارب الغنائية، ويعيد هيكلة أصواتها لتتكيف مع مفهومه عن الغناء، بعد أن يهذب مخارج الالفاظ ويبرز المقامات الصوتية لديهم.
لاحظوا كيف استطاع أن يروض صوت ميادة الحناوي ويجعله ليناً في أغنية "أشواق"، وخاصة عندما تقول: "آه لو تسمعني أشكو الجوى يا حبيبي….آه.. آه.. لو تسمعني".
هذه الأغنية لم تأخذ حقها من الإعجاب والتقدير؛ لأن موجة انحدار الاغنية العربية كانت قد بدأت وطغت على إبداعات رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي بعد رحيل عمالقة الطرب في منتصف السبعينيات.
ولكن برأيي، فإن "أشواق" تفوقت على جميع الأغاني التي لحنها بليغ حمدي لميادة، من حيث التركيبة اللحنية المتينة والمتكاملة والتي تعجز عن إيجاد أي هفوة فيها.
كما قلت سابقاً، فقد بدأت التجربة الكلثوسنباطية والتي أساسها القصيدة الكلاسيكية العاطفية، في منتصف الاربعينيات، واستمرت بقوة حتى بداية الستينيات، وكما قال الملحن العراقي نصير شمة: (رياض السنباطي عمل مشروع للقصيدة ما كان مسبوقاً أو موجوداً، كان يلعب في الساحة بمفرده).
الذي تغير في الستينيات والسبعينيات أن السنباطي لم يعد بمفرده في الساحة الكلثومية، فلقد نجح بليغ حمدي في كسر الاحتكار ثم تبعه محمد عبد الوهاب، وتتالت ألحانهما الحديثة ذات الشجن والديناميكية التعبيرية، والتي نجحت في جذب الأجيال الشابة لغناء أم كلثوم، بحيث ظن الجميع أن عهد رياض السنباطي مع كوكب الشرق قد انتهى.
والذي حصل فعلياً أن هذه المنافسة الثلاثية الشرسة على الفوز بصوت أم كلثوم نتج عنها مناخ من الموسيقى الراقية الإبداعية، استمتعت به أجيال تلك الحقبة من المشرق العربي إلى مغربه.
كنت أسمع على الراديو والتلفزيون أغنية "الأطلال" كثيراً في صغري، طبعاً مقاطع قصيرة منها، فدماغي الصغير لم يكن يستوعب أو يتحمل عظمة تلك الأغنية، أذكر أنني كنت أحاول أن أقلد أم كلثوم فأعيد بصوتٍ عالٍ وأنا رافعة يديَّ الصغيرتين إلى أعلى، المقطع الذي تقول فيه: (أعطني حريتي أطلق يديَّ)، وكنت أتمتم بكلمات لا تمُت بصلة للمقطع الذي يأتي بعده؛ لأنني لم أتيقن وقتها ألفاظ تلك الكلمات القوية ومعانيها، وأتحمس مرة أخرى وأعيد وراءها عندما تصل الى مقطع: (هل رأى الحب سكارى.. سكارى مثلنا؟).
رجعت لأغنية الأطلال قبل عشر سنين، خلال سهرات جميلة مع أصدقاء قاموا بتعريفي مجدداً على هذه الأغنية الرائعة، ولكن هذه المرة اكتشفت فيها كنوزاً لم أدركها في صغري.
ليومنا هذا أبحث على الجوجل Google عن معانٍ وتفسيرات لكلمات أغنية الأطلال للشاعر الكبير إبراهيم ناجي، وللعلم فكلمات الأطلال عبارة عن مزيج من الأبيات الشعرية التي تم اختيارها من قِبل أم كلثوم وأحمد رامي من قصيدتي "الأطلال" و"الوداع" لشاعرنا الكبير. أحتار في تفسير مقاطع بالكامل منها، فماذا قصد إبراهيم ناجي بالضبط عندما قال: (وبريقٍ يظمأ السـاري لـه أين في عينيك ذيّاك البريق)، وكذلك عند قوله: (أيـن منـي مجلـسٌ أنـت به… فتنة تمت سناء وسنى)؟ ما الفرق بين السناء والسنى؟ أما بالنسبة لأداء أم كلثوم لتلك الأغنية فلا غبار عليه، وأتساءل كيف استطاعت غناء تلك الطبقات العالية بمنتصف الستينات من عمرها، وأعتبر إنجازها ذلك وبكل صدق، إعجازياً.
هذه كانت فقط مقدمة لما أود أن أقوله عن القوة الدافعة الكبرى وراء ذلك العمل الجبار، رياض السنباطي. قام السنباطي بتلحين هذه الرائعة كتحدٍ للموجة الغنائية الجديدة، ولكن في خطوته هذه، حقق ما يمكن أن يقال عنه، المستحيل، فقد أعاد أم كلثوم إلى الجادة الأصلية والأصيلة، كما في عصرهما الذهبي، حتى إنه تخطى ذلك، وأضاف للغناء العربي تألقاً ما كان غيره قادراً على تحقيقه لتفرده بالحس المرهف والثقافة الموسيقية الاستثنائية، فقفز من قديمه الكلاسيكي البديع إلى جديده الحيوي العاطفي، ولكن لا يختلف اثنان على أن الأسلوبين كانا في أعلى درجات التكامل.
برأيي المتواضع كالعادة، فإن الجمل اللحنية التي تحتويها الأطلال لا تقل روعة عن موسيقى نيكولاي ريمسكي-كورساكوف (Nikolai Rimsky-Korsakov) في سيمفونية شهرزاد (Scheherazade) أو موريس ريفل (Maurice Ravel) في المقطوعة الموسيقية بوليرو (Boléro)، والتي تأثر بها السنباطي عند كتابة لحن أغنية "حديث عينين" لأسمهان، ويقال إن ريفل تأثر بالأنغام التي ترافق الذِكْر الصوفي عند كتابتها. لن أبخس أيضاً حق "من أجل عينيك عشقت الهوى" و"حيرت قلبي معاك" و"عودت عيني"، فجميعها دُرَرٌ نستمتع بسماع ألحانها الفريدة ليومنا هذا، وأحتار فيها، فيما إذا كانت موسيقى كلاسيكية عربية أم صوفية، أم خليطاً من الاثنتين.
لنرجع للأطلال، فالذي يميز هذه الجوهرة عن غيرها من ألحان السنباطي أو ألحان منافسيه من كبار الملحنين، كما قال السنباطي نفسه: (أنا أشكر الله على كل ما وفقني له، بس القصيدة دي بالذات، كان فيها يعني لمسة غريبة، غير القصائد الثانية اللي لحنتها لأم كلثوم، كان فيها لمحة غريبة، كان فيها بقاء، كتب لها البقاء والخلود، معنى وصوتاً ولحناً، لو أسمعها كل ساعة وكل يوم ما أملش ابداً، لأنها كاملة من جميعه).
بعد وفاة أم كلثوم في عام 1975، ساد الوجوم حياة السنباطي، بعد فقدانه لملهمته الوحيدة لأربعة عقود متتالية، فقد كان يقول عنها: (قصة حياتي هي أم كلثوم). ظن الجميع أن اليأس قد دخل إلى قلبه، وأن الرجل قد انتهى ومات فنياً بموتها، لحسن الحظ، لا حزن يستمر، فقام بتلحين بعض الأغاني لميادة وعزيزة جلال ووردة، ولكن للأسف، لم يستطع تنفيذ مشروعه الكبير لما بعد الفترة الكلثومية.
كانت المطربة فيروز قد بادرت بالاتصال بالسنباطي بعد انفصالها عن الرحابنة في عام 1978، وأرسلت له قصيدتين من شعر "جوزيف حرب" هما "أمشي إليك" و"بيني وبينك خمرة وأغاني"، فقام بتلحينهما، وأضاف لهما لحناً ثالثاً لقصيدة اسمها "آه لو تدري بحالي" للشاعر عبد الوهاب محمد.
سافر إلى بيروت في عام 1980 ليقابل فيروز لكي يعملا على الألحان الثلاثة الجاهزة، وبعد لقائه الأول معها، قال: (ما تبقى من عمري لفيروز). لكن ظروف الحرب اللبنانية الصعبة ووفاة موسيقارنا الكبير في شهر سبتمبر/أيلول من عام 1981، حالا دون تحقيق الأمنية الأخيرة له، وأهملت فيروز القصائد الثلاث ولم تصدر أسطواناتها مع أنه تم تسجيلها في عام 1983 تحت إشراف الموسيقار "وليد غلمية".
كما قلت سابقاً، لم تكن شخصية رياض السنباطي ساحرة مثل بليغ حمدي، ولم يكن حضوره طاغياً مثل محمد عبد الوهاب، ولكن افتقاره لذلك لم يمنع أو يخفي تألق وعظمة ألحانه، فهو الموسيقي العربي الوحيد الذي نال جائزة اليونسكو العالمية عام 1977، وقد جاء في رسالة اليونسكو التكريمية له: (أنه الموسيقِّي المصري الوحيد الذي لم يتأثر بأية موسيقى أجنبية، وأنه استطاع بموسيقاه التأثير على منطقة لها تاريخها الحضاري، وأحد خمسة موسيقيين فقط نالوا هذه الجائزة على فترات متفاوتة، لمحافظته على التراث العربي القديم وأصالة الموسيقى العربية). قرأت مرةً عن ألحان السنباطي: (كأنها الجبال الرواسي، تحرس عالم النغم، وتحتمي بها الموسيقى الشرقية من كل محاولات التغريب ومسح الهوية الموسيقية العربية وإضعافها).
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.