انفضَّ موسم مونديال قطر 2022، الذي انتهى بمباراة تاريخية بين الأرجنتين وفرنسا، رافضاً أن ينتهي إلا بإشارات على مزيد من الخلافات الثقافية بين الشرق والغرب، تمثلت في الموقف الذي ألبس فيه أميرُ قطر البشتَ لميسي، وهو الموقف الذي أثار كثيراً من اللغط حول الهدف من هذا السلوك وتوقيته، ومدى ملائمته للثقافات المتنوعة التي مثَّلَهَا المونديال خير تمثيل، فهل أخطأت قطر عندما ألبست ميسي البشت؟
شاهدنا كيف نجحت قطر في إظهار الثقافة العربية بشكل رائع اعترف به العدو قبل الصديق، وسعدت به الجماهير من كل الثقافات، بما في ذلك الجماهير الأوروبية. ومن بين المواقف التي تُظهر الثقافة العربية كان هذا الموقف الأخير الذي ألبس فيه أميرُ قطر ميسي البشت، وهو زي تقليدي شفاف لا يُلبَس إلا في المناسبات الهامة مثل الزواج أو عقب الانتصار في معركة. يعني هذا كثيراً من الأمور:
(1) مَن ألبس اللاعب البشت ليس مساعداً شخصياً ولا زميلاً في فريقه، بل أميرُ دولة معترف بها عالمياً كدولة ذات سيادة.
(2) بدا اللاعب وهو يلبس البشت منتصب القامة، يواجه الجماهير لا الأمير، لا يبدي غضباً أو حزناً.
(3) البشت زي شفاف لا يحجب ما تحته إلا بقدر ضئيل، حتى إن ملابس ميسي بألوانها البيضاء والزرقاء لم تختفِ وكانت واضحة.
ومع هذا، تبارى الإعلام الغربي- وخاصة الألماني- في الادعاء بأن موقف إلباس ميسي البشت موقف غريب لأنه حرم اللاعب من الاحتفال بزيه الرياضي، وأنه إصرار قطري-عربي على إقحام زيه التقليدي على منتخب الأرجنتين.
وفي هذا الصدد، يمكننا أن نقول إن هذا الادعاء كاذب، لأن قطر لم تُلْبِس البشت للمنتخب الأرجنتيني بكامل طاقمه، وكان ظاهراً وواضحاً أن هذا التكريم الإضافي للاعب فقط وليس لكل اللاعبين في منتخب الأرجنتين.
ثم، ألم يكن من حق قطر أن تضع بصمتها الأخيرة على المونديال، وهي التي أهدت العالم نسخة مميزة من مونديال كأس العالم في كرة القدم، بتنظيم سيصعب كثيراً رؤيته مرة أخرى حتى في أغنى دول العالم وأكثرها تقدماً؟ نعم كان من حقها، ولم تأخذ هذا الحق عنوة، بل بطريقة ذكية، في خطوة تناسب ثقافتها وثقافة العرب من إلباس العباءة لمن يستحقون التكريم والاحتفاء، وهو تقليد عربي راسخ نقلته أوروبا عن العرب في الأندلس، كما لا يزال قيد الممارسة في ارتداء طلاب الجامعات، وخاصة طلاب الماجستير والدكتوراه لروب التخرج، وهو في أصله عباءة عربية.
هل فُرِضَ على ميسي عدم خلع البشت طيلة الاحتفال؟ لا، فلم يلبس ميسي البشت إلا خمس دقائق تقريباً، وعاد لزيه الرياضي، والتُقطت آلاف الصور له بالزي الرياضي لبلده مع زملائه وبحوزتهم كأس العالم، أي أن العالم لم يُعمه البشت عن أن هذا الكائن كان ميسي بشحمه ولحمه، أو أن الدولة التي حصدت اللقب ورفعت الكأس كانت دولة أخرى غير الأرجنتين.
وما يدعم قولي هذا قراءتي لعدد هائل من تعليقات القراء على بعض الصحف البريطانية، ومنها صحيفة الإندبندنت، وهي صحف لم تلتزم الحياد طيلة المونديال وقبله في تناول أخبار كأس العالم في قطر.
وما يهمنا هنا تعليقات القراء من غير العرب- كما تبدي أسماؤهم- التي جاءت في معظمها متفهمة أن إلباس ميسي العباءة كان تكريماً وليس محاولة لخطف اللقب، وأنه عمل يشبه وضع سيف ملك إنجلترا على كتف شخص ما لتكريمه، في حين يتخذ هذا الشخص وضعية أقرب للركوع، مع اعترافهم بأن إلباس العباءة يحفظ لمن يُكَرَّمَ كرامته بشكل أفضل.
واستنكر كثير ممن علَّقوا كذلك غياب الحيادية في طريقة صياغة الخبر، مؤكدين على أن الصحف الغربية تكيل بمكيالين فيما يخص أخبار مونديال قطر، وهذا أمر يستحق مقالة في حد ذاته، ويكفي دليلاً عليه آلاف الأخبار عن الحرب الروسية-الأوكرانية الدائرة وقصف غزة بين الحين والآخر.
انتهى مونديال قطر 2022، وأظن أنه نجح في سد ثغرات كثيرة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية بشكل كبير، ولكن هذا على المستوى الشعبي لا المستويات الرسمية التي تسير وفق أجندات ليس من بينها- على ما يبدو- نبذ الخلافات، بل صنعها إن لم تُوجَد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.