بضربة جزاء هزّ ميسي مرمى المنتخب الفرنسي ودخل التاريخ من أوسع أبوابه بهذا الهدف، ثم أتبعه الهدف الثاني الذي سجله دي ماريا في الشوط الأول من المباراة. دي ماريا هو الذي تسبب في ضربة جزاء لمنتخبه، وسجل الهدف الثاني، قبل أن يتم استبداله لاحقاً. رشاقة لاعبي المنتخب الأرجنتيني جعلتهم يتقدمون على الخصم بفارق هدفين دون مقابل في الشوط الأول.
ثلاثة أهداف تقاسمهما ميسي وزميله دي ماريا قبل ركلات الترجيح، وبتلك الأهداف خلقا الفوضى في مرمى منتخب فرنسا، وبحضور ماكرون وفي الدوحة لقن ميسي ورفاقه درساً كروياً قاسياً للفرنسيين وللقارة الأوروبية بأكملها، وأعادوهم بالدموع إليها. فالأرض التي أقيمت عليها البطولة عربية، وصاحب اللقب من أمريكا الجنوبية، لم يحقق المنتخب الفرنسي في هذه البطولة أي نتيجة، وذهبت تصفيقات ماكرون في الهواء.
وارتدى ميسي لباساً عربياً، ورفع التاريخ بين يديه، وشاهد العالم بأسره دموع الفرح، وقد استحق المنتخب الأرجنتيني الفوز في هذه البطولة التي لعب فيها بكل قوة وهمة. ولحظة الفوز هي كل ما يبقى في التاريخ، والفوز لا يأتي إلا بعد عمل طويل وشاق، ها هو النجم ميسي يُغادر الساحة العالمية تاركاً خلفه تاريخاً عريضاً من البطولات، والأهداف.
تناقضات الثقافة الغربية
استضافة دولة قطر لبطولة كأس العالم خلقت دهشة في الثقافة الغربية والعقلية الأورربية، فهذه الشعوب لم تخرج بعد من أوهام عصر التنوير وشعاراته، ولم يفهموا الخصوصيات الثقافية وتعدد المجتمعات والهويات الموجودة في العالم. فقد تعودوا فرض ثقافتهم على الآخر، وذلك النهج هو نتاج متراكم تتداخل فيه السياسة الاستعمارية. والمفاجأة في هذه البطولة لم تكن سارة لأفراد المجتمع الأوروبي.
فقد علّمتهم قطر احترام الخصوصيات الدينية والثقافية، وعلمتهم أيضاً دروساً أخلاقية لعلها تقلل من سلوكياتهم الفوضوية، كشرب الخمور فوق المدرجات ومنع شعارات المثلية، وخصصت لهم بعض الأماكن لشرب الكحول، وخارج الملعب علمتهم الشعوب العربية مفهوم التكافل الاجتماعي، وحسن الكرم والضيافة، ومفهوم الأخوة والإنسانية، كل ذلك شاهده الإنسان الأوروبي والمشاهد الأوروبي طوال البطولة.
ولم تستوعب العقلية الأوروبية مدرجات خالية من شعارات المثلية، كما لم يستوعبوا التشجيع دون خلع الملابس، وشرب الكحول فوق المدرجات، ولكن الحياة دروس، وقد تعلموا هذه الدروس الأخلاقية طوال فعاليات كأس العالم التي استضافتها دولة قطر. وقد تعلموا أيضاً مكانة القضية الفلسطينية عند الفرد العربي ومكانتها في وجدانه.
وعلمناهم أيضاً كيف يرتبط تحقيق النصر بالعقيدة الإسلامية، وبالسجود على الأرض، ولقد علمناهم ذلك بتقبيل رؤوس الأمهات والرقص معهن وتقبيل أيديهن عند الفوز. وبذلك قدمنا للعالم عموماً ولأوروبا خصوصاً مكانة الأم في مجتمعاتنا العربية المسلمة المحافظة، وبذلك تتضح مكانة المرأة في مجتمعنا والدور الذي تقوم به.
وقد سمعت الجماهير الغربية أيضاً الأذان يرفع، والمسلمون يلبون ذلك النداء ويقيمون فريضة الصلاة، وهنا تتضح علاقة الفرد بخالقه، فهي مبنية على الطاعة، وبالتالي أصبح الفرد المسلم مقيداً في سلوكه وفي أخلاقه، والعبادة هي من تروّضه؛ وبذلك يتعامل مع الكون والمجتمع والإنسان بنظام واحترام وأخلاق كأنه في صلاته.
الحملات الإعلامية الغربية على قطر
ما طرحته في هذه السطور لم تقبل به المؤسسات المدنية الغربية ذات المرجعيات الليبرالية، والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وبدلاً من احترام هذه القيم والامتثال بها، بكل وقاحة أعلنوا نقدهم لقوانين الدولة المضيفة لكأس العالم، وطالبوا بإلغاء هذه القوانين، ولو بشكل مؤقت، واستئنافها بعد انتهاء بطولة كأس العالم، وقد قرأنا تقارير منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ونقدهم اللاذع وحملاتهم الإعلامية.
وشاهدنا وقاحة المنتخب الألماني داخل الملعب، وردود الأفعال سواء على الجانب الإعلامي أو الرياضي وحتى السياسي، جميعهم يسيرون في الاتجاه ذاته، محاولين فرض ثقافة أوروبا على مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة، وهنا ينكشف لنا بسهولة تناقض الحضارة الغربية عندما تتصادم مع باقي الحضارات والمجتمعات الإنسانية.
نهاية الحضارة الغربية
ذلك المشروع التنويري الغربي العقلاني قد انتهى به المطاف إلى اندلاع حربين سُحق فيهما الإنسان، وتلك الشعارات الديمقراطية لم تكن في حقيقتها إلا مشروعاً استعمارياً عالمياً لاستلاب الشعوب، وانتهى إلى أداة عقلانية بيروقراطية وظيفتها الهيمنة.
الشعوب الغربية مازالت تعيش في أوهام التاريخ، وتحاول فرض تلك الأوهام التاريخية في عصر تراجعت فيه القيم الديمقراطية الزائفة، واتضح فيه الوجه المتوحش للحضارة الغربية، التي لا تُفرّق ما بين الإنسان والإنسان،ـ لأنها تسحق الإنسان، وتجعل منه إنساناً استهلاكياً ذا بعد واحد، ثم ينتهي مصير ذلك الإنسان إلى عالم الاستهلاك والرأسمالية المتوحشة، وتلك إذاً هي نهاية الحضارة الغربية، ولعل اضمحلال الحضارة الغربية كما يتصورها اشبلنجر، ابن تلك الحضارة، كان صادقاً وقتئذ.
لا أريد فتح تلك المسائل المعقدة في التاريخ الأوروبي، وفي ذات الوقت لن يخدعني شكل تلك المنظمات وتلك المؤسسات المتناقضة في جوهرها، ومن يتابع المشروع النقدي لمدرسة فرانكفورد سيفهم العقلانية الأداتية للعلم، ومدى ابتعادها عن الأخلاق، ولا أظن أن العلم والتطور التكنولوجي إذا لم تصاحبهما بعض القيم والأخلاق فلن يشكلا الغاية النهائية في سبيل خدمة البشرية، بدلاً من الهيمنة والتمركز والتوسع.
يبدو أن مشروع الحداثة الأوروبية لم يكتمل بعد نتيجة هذا التناقض، بحسب تعبير هابرماس، وأظن أن العقلانية الأداتية هي كل ما أنجزته أوروبا منذ نهضتها. ولم يكن لها أصل وجوهر حقيقي إلا الأسطورة التي قام عليها مشروع التنوير، وهنا أتفق بالجملة مع هوركايمر وتيودور في هذا السياق المتعلق بجدلية الأنوار وأوهامه.
وبالجملة بطولة كأس العالم انتهت بدون شعارات المثلية، رغم الحملات الغربية الداعمة لهذا التيار، وعلى الغرب أن يفهم أن ذلك التاريخ الذي كانت فيه المركزية الغربية قد انتهى، وعليهم أن يستوعبوا الخصوصيات الثقافية للمجمعات الأخرى، وعلى منتخباتهم أيضاً أن تفسح الطريق للمنتخبات الآسيوية والإفريقية.
وإن كان منتخب فرنسا قد انتصر على مُنتخبنا المغربي، فقد شاهدنا البارحة الأرجنتين يخترقون شباكهم بكل سهولة ورشاقة، وفي النهاية انتصرت الأرجنتين بركلات الترجيح، وعبرت إلى التاريخ أمام أعين إيمانويل ماكرون.
تلك إذاً من عجائب هذه المستديرة ومنطقها الساحر والمدهش، فكيف سيكون خطاب وزيرة الخارجية الفرنسية بعد هذه الهزيمة؟ أنقول لها إن الحلم الفرنسي لم يتحقق بعد؟ وبهذا نكون قد رددنا عليها بنفس منطقها الوهمي والغارق في الذاتية الغربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.