كتب مؤخراً المهندس المصري المهتم بالشأن العام، ممدوح حمزة، على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، منشوراً، أثار كثيراً من الجدل في الأوساط السياسية المصرية، افتراضياً على الأقلِّ، يقدم فيه مضموناً اعتذارياً عن مشاركته في مشهد 30 يونيو/حزيران 2013، باعتباره الحدث الّذي اجترَّ على البلاد ما تتجرَّعه حالياً من ذلٍّ، ربما يكون غير مسبوق، بهذا الشكل، في التاريخ المصري الحديث.
للوهلة الأولى، سيبدو لك، من موقع المشاهد، أنّ في إقرار حمزة الصريح بكارثية المشاركة في ذلك الحدث شجاعةً استثنائية، وفي ذلك شيء من الصحة والصوابية؛ فالرجل، من جهة، يعترف ويسجل خطأه تاريخياً، ومن جهة أخرى يفتح على نفسه الباب، مجدداً، للنَّقد من كلِّ الأطراف تقريباً.
غير أنّ، هذا الاعتراف المتأخر، بعد عقد تقريباً من الانخراط في المشهد الَّذي أدى لاحقاً إلى ردَّةٍ شاملة، لا عن قيم وأهداف ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وحدها، وإنما في أصل ومعنى نضالات أجيال من المصريين، نخبة ومجتمعاً، ضد كلِّ استعمار، حقيقيٍّ أو مقنَّع، والكفاح من أجل وطن صحيٍّ سليم وراشد، يتحرك بسلاسة في التاريخ، بأقلِّ قدر من العُقَد ومسببات التخلف..
هذا الاعتراف المتأخر، من أحد الوجوه البارزة نخبوياً والتي كان لها باعٌ في الحركة على الأرض خلال أعوام ما قبل الانقلاب العسكري 2013، يعيدنا بدوره أيضاً، طالما أنَّ السياق هو سياقُ مراجعة في ظلِّ غلبة العجز وقلة الحيلة وعدم القدرة على الفعل، إلى التفكير، نقدياً، في طبيعة "الوجدان السياسي" المراهق لتلك النخب، وكيف يمكن لخطأ، يبحث أصحابه عما يكفره حاليا، أن يؤدي إلى توريط أمة كاملة في مسار كارثي.
تساؤلات مشروعة
بينما أطالعُ التعليقات والجدل الدائر في ذلك المنشور محل النقاش، وجدتُ تعليقاً غاية في الذكاء والبلاغة، فبينما يُدنْدن المشاركون حول وجاهة الصفح عن حمزة من عدمه؛ كتب أحدهم معلقاً، ببصيرةٍ نافذة: "لو أن الأيام عادت، لشاركتَ مجدداً في المشهد يا دكتور ممدوح"، وفي ظني، هذا هو لبُّ الموضوع.
فباستعارةٍ من مالك بن نبي، الذي قال، في معرض تفكيكه لحالة الاستعمار الغربي للشرق تاريخيا، إنّ هناك مجتمعات أكثر "قابلية للاستعمار" من غيرها، فإنّ النخب المصرية الحالية، للأسف، تتسم ببعض السمات السَّلبية، الّتي تجعل من التنبؤ بخطواتها ومواقفها أمراً سهلاً ولا يحتاج إلى مجهود، وعلى رأسها، إلى جانب السذاجة والمراهقة، ما يمكن تسميته بـ"القابلية للاستعباط"، خاصة من جانب الدولة.
فعلى مدار الأعوام الأخيرة، وقبل اعتذارات مشابهة من بعض النخب، ظلت الأسس الّتي يتخذ بناء عليها كثير من رموز الشأن العام في مصر مواقفهم، والّتي يترتب عليها، بنظرية تأثير الفراشة على الأقل، كثير من معالم المشهد السياسي، غاية في الغرابة والسّذاجة الطفولية.
فبينما ينتمي التفكير في السياسة، بطبيعة الحال، إلى الدهاء والمكر وسوء الظنِّ والتّحسُّب للأسوأ، بما يخدم الغاية الأهمَّ أخلاقياً، وهي خدمة المجتمع والصّالح العام؛ كانت تلك النخب تتحفنا بمسوِّغات مدهشة لتفسير وتبرير مواقفهم غير المسؤولة.. فهذا بلال فضل، الكاتب الموهوب، يقول إنّ معياره السياسي، للاصطفاف يميناً أو يساراً، مبنيٌّ على بوصلة سكينة فؤاد! إذ في تقديره، وهو شخص مصنف تقدُّمياً، فلا يمكن لموقف تكون فؤاد جزءا منه أن يكون خاطئاً.
وذاك حمدين صباحي، بعد 2013، يصرُّ على الترشح لانتخابات الرئاسة الصُّورية أمام السيسي، الذي كان في أمسِّ الحاجة آنذاك، بعد عام من انقلابه، لصورة ديمقراطية أمام العالم الذي كان يترقب مآلات الوضع في مصر؛ مبرراً تلك الخطوة وذلك القرار الأحمق، بأنه محاولة إلى كسر جمود المشهد السياسي وبث الأمل في النفوس. ألا يتأتى الأمل بغير تلك التكلفة الفادحة ونفس الأخطاء السابقة؟
وهو ما تكرر، بحذافيره، في مشهد الاستفتاء على التعديلات الدستورية 2019، والتي بُّح صوتُ خبراء السياسة خلالها بدعوة النخب والمجتمع إلى مقاطعتها، لأنها، بمقتضى الحال، ستمر لصالح السيسي، ومن الأفضل قطع الطريق عليه أمام الاشتراك في مشهد مزيف تعود على صناعته، ولكن المكابرة والقابليَّة "للاستعباط" والخلط بين مفهوم المشاركة السياسية الفعالة، وهو غرض نبيل، وبين أن تكون أداة في يد السلطة، قادوا إلى النتيجة التي نعرفها جميعاً: مشهد مصنوع، وأرقام قياسية كاذبة، وواقع جديد أسوأ من ذي قبل.
عن الماضي، لا أعرف تحديداً ما الذي كان يتوقعه حمزة من المؤسسة العسكرية، التي سأله أحد أبرز قادتها الميدانيين إبان الثورة، اللواء سعيد عباس، جاداً في ميدان التحرير، عن الشيخ القرضاوي: "لماذا لم تقتلوه؟" فتلعثم حمزة حينها، وعن وجاهة الاعتذار ومستقبله ومدى تعلُّم النخب المصرية من أخطائها، فما أعرفه يقيناً، وهو موثق على صفحته، فإنّ حمزة كان يعرض خدماته الاقتصادية ونصائحه، على النظام المصري، مجاناً، حتى أيام قليلة مضت، وقت المؤتمر الاقتصادي، مطالباً بالسماح له بالنزول إلى مصر آمناً، معتبراً أنه بذلك يخدم الشعب لا النظام!
المركب تغرق
أمَّا عن التوقيت، ومن إحسان الظن الشديد في النخب المصرية افتراض أنها تتحرك وفق معطيات ما، فالراجح، أنّ هناك استشعاراً عاماً أنّ المركب قد تغرق قريباً، وبالتالي، سيسعى الكثيرون إلى القفز منها، أو على الأقلِّ، ترك مساحة، فيزيائية ونفسية، للاستعداد إلى القفز منها.
هنا تجدر الإشارة والنظر إلى حمزة باعتباره تقنياً بارزاً، مهندساً استشارياً رفيعاً، لا مجرد مهتم بالشأن العام، وللرجل في تلك المساحة تحليلات مهمة، بعضها غاية في الخطورة، عن تفنُّن السيسي ومعاونيه في إهدار مليارات الدولارات الّتي حطت عليهم بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، من هنا وهناك، في مشروعات غير إنتاجيَّة، حتى وصلت البلاد إلى تلك النقطة الحرجة، حيث الاستعداد إلى فعل أيِّ شيء، مهما بلغت قسوته على الوطن والمواطن، طمعاً في تأخير الإفلاس والحصول على 750 مليون دولار، الدفعة الأولى العاجلة من قرض صندوق النقد الدولي.
والحقُّ أن التحذير من غرق المركب، من جهة العجز عن توفير السيولة الدولاريَّة لشراء حاجات المجتمع الأساسية ودفع أقساط الديون، ليس جديداً، وإنما تصاعدت حدته بوضوح خلال الأشهر القليلة الماضية، من جانب الداعم الخليجيِّ؛ إذ نذكر جميعاً حزمة المقالات التي سطرها عماد أديب، المقرب من الممول السعودي، محذراً خلالها من تغييرات سياسية واجتماعية حادة في البلاد غير النفطية، تأثراً بارتفاع كلفة الاستيراد وتفاقم الديون، ويكفي في هذا السّياق أن تعلم أنّ هناك عجزاً شديداً في الأسواق المحلية في بعض السلع الاستراتيجية غير المستوردة من الخارج أصلاً، مثل أرز المائدة.
وكان السيسي نفسه، قبل دعوات النزول في نوفمبر/تشرين الماضي، وبعد ذلك، قد هيّأ المناخ العام إلى حالة من الهلع والقفز من المركب، عندما تحدث، في مداخلته المهمة مع يوسف الحسيني، عن احتمال هروب رجال الأعمال ورموز المجتمع خارج البلاد على الطائرات، حال حدوث أي اضطرابات سياسية قريبة، فيما لن يبقى فيها، على حد قوله، إلا الفقراء، الذين زادتهم سياساته فقراً، وهي تصريحات معبرة عن نفاد صلاحية الوعود والخطابات وإمكان الاقتراض، فلم يبق إلا الحقيقة والواقع: تحملوا، لئلا تتسارع معدلات الانهيار.
بالعودة إلى اعتذار حمزة، فإنّ الاعتراف بالحق فضيلة، في المسائل الشخصيَّة، وأغلب الظن أنّ أمراض النخب المصرية مستعصية على العلاج، وأكثر ما أخشاه، وعلى ذلك شواهد كثيرة، أنّ المخيال السياسي المسيطر على وجدان السيسي حالياً، هو استعداده لحكم مجتمع جائع ودولة منزوعة السيادة، مستنداً إلى أدواته القمعية الحديثة التي أنفق عليها مليارات الدولارات ومخططه لهندسة المجتمع والعمران أمنياً، بفضل عاصمته المحصنة وسجونه العملاقة وقوات مكافحة التمرد الّتي دشنها، فيما أسميه بـ"مأسسة حالة الاستثناء". حينئذ، سيكون النقاش عن وجاهة وجدية اعتذار حمزة أو غيره، عن الـ30 من يونيو، دون معنى، لأن الوقت قد فات على هذا الترف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.