الوحدة في التنوع.. دروس فردية وعِبر جماعية يجب تعلمها من مونديال قطر

عربي بوست
تم النشر: 2022/12/11 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/13 الساعة 09:52 بتوقيت غرينتش

يمثل مونديال قطر 2022 فرصة نادرة لتحرير الكثير من سكان هذه المعمورة من التداعيات السلبية لجائحة كوفيد-19 ومتحوراتها. وبعد أن اضطر ملايين البشر من لبس الكمامة، وما يتبع ذلك من هوس الخوف من الإصابة بالفيروس، أو الوقوع ضحية آثاره الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، اجتمع مئات الآلاف من البشر في دولة قطر لمشاهدة المباريات والاستمتاع بأجواء بطولة كأس العالم لكرة القدم، التي قد لا تكرر قريباً.

وقد تمكن آلاف مؤلفة من المشجعين من اكتشاف الثقافة العربية عن قرب والتعايش معها، فلبسوا الغترة والعقال الخليجي وأكلوا المكبوس ومحشي كوسة والمندي وغيرها من الأطعمة القطرية التقليدية، كما تناولوا الحلويات التقليدية كالخنفروش والخبيصة والبثيثة، وشربوا الشاهي والقهوة العربية في المطاعم والمجالس القطرية، واستمعوا إلى الأغاني العربية، أيقنوا أن هناك طريقة عيش أخرى تختلف عما درجوا عليه، ويجب احترامها والتعايش معها بصورة إيجابية دون الوقوع في خطأ الانجرار إلى الصورة النمطية السلبية التي تُرسم عن العرب.

كما تمكن مئات الآلاف من المشجعين العرب، من قطريين وغيرهم، من معاينة ثقافات أخرى بسبب وجود الجمع الغفير من مشجعي دول العالم في قطر مع أعلام بلادهم وملابسهم الوطنية ونغمات آلاتهم الموسيقية، وما تصاحبها من أغانٍ وأهازيج ورقصات. إن هذه العروض الموسيقية والفلكلورية تستدعي من العرب التيقن بأن هناك عوالم أخرى غير العالم العربي، ويجب احترام ثقافاتها وأديانها والتعاطي معها بالندية، بعيداً عن الاستعلاء أو الدونية أو الحكم السريع على الآخرين بسبب مظاهرهم ورقصاتهم خلال هذا المونديال الذي يمثل فرصة كبيرة للكثيرين من كسر أغلال كوفيد-19 و"روتين" سنوات العمل المضني.

كما ساعد المونديال الكثير من المشجعين على معرفة بعض أسماء بلدان العالم وأعلامها وأناشيدها الوطنية، ما يبعث على احترام هذه الدول والرغبة في زيارتها، حتى وإن فازت على منتخبهم وسببت هذه الدول في رفع ضغط دمائهم، أو في إضرابهم عن الطعام بعد الخسارة، أو في طرد النوم عن فراشهم ليلة الخسارة.

وأيضاً يشكل المونديال فرصة فريدة للمشجعين بالتنفيس البريء والصريح عما يدور في خلجات نفوسهم من مشاعر الفرح والترح والإحباط والأمل، تبعاً لنتائج منتخباتهم. ولا أظن أن حدثاً آخر يمكن أن ينتزع هذه الأحاسيس المتعارضة، التي غالباً ما يكبتها الإنسان لا شعورياً في أحشائه، لاسيما حينما يمتزج الفرح بالترح والأمل بالإحباط: فرحان حين يسجل منتخبه هدفاً، وخائف من تعادل الفريق المنافس، ومحبَط حين يحدث ذلك أو حين يخسر فريقه أو يخرج نهائياً من المونديال. كم من دموع فرح وترح سُكبت خلال المباريات وبعدها، وكم من خطوات رقص وألحان موسيقى شهدتها الفعاليات الترفيهية والاحتفالات الغنائية للتعبير عن فوز المنتخب دون خجل. فطبيعي للإنسان أن يعبّر أن مشاعره، لكن يصعب إظهار الأحاسيس المتعارضة خارج لعبة كرة القدم.

كما نتعلم من المونديال تقبل الخسارة والفشل بعد المحاولة الجادة للنجاح؛ لأن كرة القدم لعبة كسائر الألعاب، لا بد فيها من فائزين وخاسرين خلال البطولة، وفي النهاية لابد من فائز واحد فقط، حيث إن من المستحيل أن تتمكن كل المنتخبات الـ32 من الفوز بكأس العالم، فهناك منتخب واحد يتم تتويجه في 18 ديسمبر/كانون الأول، لكن جميع المنتخبات المتأهلة قامت بواجبها، وقانون اللعبة والروح الرياضية يستدعيان الخسارة وما يتبعها من حسرة وندم، والتمرن على تقبل الفشل بصورة إيجابية، ثم معرفة نقاط الضعف والاستعداد إلى تحسينها في المباريات القادمة، دون الحاجة إلى لوم لاعب ما أو مدرب بعينه، حيث إنهم أحرص  الناس على الفوز، لأن مستقبلهم الرياضي والمهني يعتمد أساساً على كرة القدم، لكن أمنياتهم وجهودهم قد لا تتكلل بالنجاح دائماً وهذا قانون كرة القدم. وهذا المبدأ ينبغي تطبيقه في حياتنا اليومية والمهنية، "لا عيب في الفشل بعد المحاولة، لكن العيب في عدم المحاولة".

على المستوى الجماعي، فالمونديال فرصة لتثبيت مبدأ "الوحدة في التنوع"، لأن قوة الشعوب تكمن في وحدتها، والوحدة هي في التنوع الإثني واللغوي والديني. فقد لاحظ الجميع التنوع الثقافي والعرقي داخل ملاعب الكرة وداخل المنتخبات الوطنية من مدربين ولاعبين، وينبغي ألا تنقطع هذه الصورة الإيجابية بعد المونديال، بل يجب العمل على تفعيلها وتثبيتها لخدمة الأوطان والشعوب، لا سيما الأجيال الشابة التي تطمح إلى الانفتاح على الآخر، وعلى العالم بمستوى أعلى مما درج عليه أسلافهم من التقوقع على الأنا أو على العائلة والعشيرة أو على المنطقة، لأن العالم اليوم ليس مثل القرون التي خلت التي فرقت فيها الجنس البشري تحت مبررات الانغلاق الثقافي والديني والجغرافي. فقوة البلدان والشعوب، بل وقوة المنتخبات الوطنية، تكمن في تعايش الجماعات الإثنية والدينية واللغوية بثقة مع بعضها البعض، كما يجب على الشعوب والقادة التركيز على الوحدة ونبذ الصراعات العرقية والقبلية والمذهبية والدينية والسياسية التي تفرق الشعوب وتضعف الدول.

بغضّ النظر عن الفائز في هذه البطولة، فالأهم هي الدروس والعبر التي ينبغي تعلمها بصورة فردية أو جماعية من هذه اللعبة العالمية الفريدة، فقد تمكن ملايين المشاهدين من مشجعين وغيرهم من اكتشاف الثقافة العربية بصورة صحيحة تختلف عن الصورة النمطية السلبية التي ألفوها في الأفلام وسمعوها في وسائل الإعلام، وهذا يستدعي احترام العرب وثقافتهم وطريقة عيشهم. كما اكتشف الكثير من العرب عوالم أخرى غير العالم العربي، وبالتالي يجب احترامها وبذل جهود إضافية لفهم ثقافاتها وآدابها ولغاتها للتعاطي معهم بصورة صحيحة ومجدية. وأخيراً تعلمنا من المونديال أن دولنا رغم صغرها متعددة الأعراق والأديان والمذاهب ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل هذه الحقيقة أو تناسيها بعد المونديال إن أردنا الالتحاق بركب الدول المتقدمة التي تعتمد أساساً على مبدأ "الوحدة في التنوع".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالعزيز غي
أستاذ في جامعة ولاية بنسلفانيا الأمريكية
كندي الجنسية، حاصل على الليسانس والماجستير والدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة جنيف بسويسرا، وعلى دبلوم عالٍ في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، وشهادة الليسانس في اللغة العربية. عاش 5 سنوات في الشرق الأوسط، و12 سنة في أوروبا، وأكثر من نصف عقد في أمريكا الشمالية. مهتم بحوار الأديان والثقافات والشعوب، وحالياً يعمل أستاذاً لدراسات الأديان واللغة العربية في جامعة ولاية بنسلفانيا وفي كلية نازاريث في أمريكا.
تحميل المزيد