قال “ما شاء الله” فهاجموه وحققوا معه.. سبب الأزمة الحقيقية بين الدين والدولة في فرنسا

عدد القراءات
1,166
عربي بوست
تم النشر: 2022/12/10 الساعة 13:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/05 الساعة 09:53 بتوقيت غرينتش

زاد الحديث هذه الأيام حول موضوع عادات وأعراف العرب والمسلمين في وسائل الإعلام الغربية عن حجمه المعتاد، عادة ما يركّز هذا الإعلام في تعاطيه مع الإرهاب والفساد، والمهاجرين ومشكلة اندامجهم في المجتمع الغربي "المتحضر" المتمدن، والهجرة غير الشرعية، وصولاً مؤخراً إلى تصريحات عنصرية، ما يعد استعلاءً صريحاً على قيم المجتمع العربي المسلم المحافظ المتديّن خصوصاً، وقيم الإنسان الشرقي عموماً، في محاولة تعميم ظاهرة المثلية في إعلامه ومجتمعه، بل حتى إدخالها إلى بيته ومدرسته. 

مونديال الصحوة والتصحيح 

هذا ما يأخذنا إلى مونديال قطر، كأس العالم فيفا 2022 لكرة القدم، والإنجازات التي حققتها دولة قطر، من تنظيم محكوم للعرس الكروي العالمي، سعياً إلى رعاية راحة وأمن وسلامة مئات آلاف المناصرين الذين توافدوا من كل أنحاء العالم لهذه الدولة الصغيرة الحجم، لكنها عظيمة الأداء، ما جعل الإنسان العربي يشعر بفخر واعتزاز بانتمائه للثقافة العربية-الإسلامية من نواكشط إلى مسقط، بسبب هذه الإنجازات الثقافية والرياضية والفكرية والعلمية، وحتى الاقتصادية، التي حققتها دولة قطر في زمن التقلبات والتحولات الجيو-سياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي. 

حيث كشف الرأي العام الدولي حقيقة صورة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا MENA، على عكس تلك الصورة النمطية التي هي مصدر للفوضى والفقر وعدم الاستقرار والأمن، خلال أسبوعين من عمر مهرجان الإنسانية، الذي جمع مليارات من محبي الكرة المستديرة من مدينة ملبورن (أستراليا)، إلى قرية اغمون (بجاية) الجزائر، ومئات الملايين من المشاهدين على الشاشة الصغيرة لكل مباريات الدورة، وعشرات الآلاف من داخل الملاعب الساحرة الثمانية، تلك التحف السحرية بمدرجاتها الأنيقة، وبساط ميادينها الأخضر المفروش. 

وممّا زاد هذا العرس الكروي العالمي جمالاً وإبداعاً بنكهته الشرق-أوسطية والخليجية، تأهُّل المنتخب المغربي للدور ربع النهائي، هذا التألق للمنتخب المغربي يعدّ بمثابة رد لاعتبار العرب جميعاً، حيث نجحت الكرة العربية فيما لم تستطع أن تنجح فيه السياسة في توحيد الكلمة، وبناء نظام عربي تكاملي منذ عقود طويلة. 

السؤال المحيّر: لماذا هذا الاستعلاء الغربي على الثقافة العربية-الإسلامية؟ 

أكيد هناك خفايا تاريخية ترجع أبعادها إلى حقبة الاستعمار، بعضها مبيت والآخر علني، على سبيل المثال عقب إقبال نائب فرنسي بالاحتفال بفوز منتخب المغرب على منتخب إسبانيا في الدور ثمن النهائي، مصرِّحاً على منصة التواصل الاجتماعي"تويتر"، "نعم، ما شاء الله". كلمة الله هي التي دعت بعض زملائه النوّاب في الجمعية الوطنية من حزب التجمع الوطني (حزب آل لوبان)، في الغرفة السفلى، وإعلاميين من اليمين واليمين المتطرف، إلى مساءلة النائب الفرنسي من حزب اليسار، حزب فرنسا الأبية، عن هذا التصريح، معللين ذلك بأنه يتنافى مع مبدأ العلمانية في الجمهورية العلمانية الفرنسية. 

الدين والدولة في فرنسا

في حين يتزامن تصريح النائب أورليان تاشي، مع يوم 9 ديسمبر/كانون الأول، اليوم الوطني للعلمانية، والتي أصبحت في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون مبدأ مقدّساً بأي دين للدولة، كما أكدت عليه في مرّات عديدة رئيسة الحكومة إليزابيث بورن أمام نوّاب الأمة في البرلمان الفرنسي، بأن العلمانية أصبحت المبدأ الرابع لمبادئ قيم الجمهورية الفرنسية، وهي: حرية، مساواة، أخوة وعلمانية (Liberté, égalité, fraternité et Laïcité). 

فمارلين شيابا، الوزيرة المنتدبة للمواطنة، التي تعد الوزيرة المدلّلة للسيدة الأولى بفرنسا بريجيت ماكرون، بات استعمال مبدأ العلمانية كسلعة انتخابية رابحة تستعملها إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون، كحجة لاحتواء خطاب الكراهية المعادي للعرب والمسلمين من طرف أحزاب اليمين واليمين المتطرف وإعلامهم المتغطرس، على غرار حزب التجمع الوطني برئاسة جوردان بارديلا هو الأكثر تطرفاً من آل لوبان في هذا الموضوع، وحزب استرجاع بقيادة الصحفي المثير للجدل المتطرف آريك زيمور، وصحف وقناة راديو وتلفزيون لا ينقطع صوتها ولا صورها، سعياً لتشويه صورة المسلمين والعرب في فرنسا، ورسم صورة سوداء ضد قطر، البلد المنظم لمونديال كأس العالم فيفا 2022 لكرة القدم. 

بعد مرور 115 عاماً من اليوم، بعد اعتماد قانون الفصل بين الكنيسة والدولة، قدمت الحكومة، في 9 ديسمبر/كانون الأول 2020، مشروع قانون "يعزز احترام مبادئ الجمهورية". وفي صيف 2021 صوّت نوّاب حزب الجمهورية إلى الأمام (حزب النهضة حالياً)، وهو حزب الرئيس إيمانويل ماكرون، ليصبح قانون "مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية"، والذي يهدف للحفاظ على الهوية العلمانية لفرنسا، مع فرض قيود على بعض الرموز والطقوس الدينية.

قانون في الأصل يهدف إلى تعزيز مبدأ العلمانية في مواجهة التهديد الأيديولوجي والأمني، الذي أصبح يشكله الإسلام السياسي حسب مارلين شيابا، ووزير الداخلية جيرارد دارمين، هي سياسة شد الخناق على المسلمين المتدينين، خاصة مع المحجبات. إن هذا السلوك الأيديولوجي غالباً ما يجمع بين التّخبط القانوني والاستغلال السياسي الحزبي الضيق. 

قانون 1905 هو "قانون فصل" للكنائس عن الدولة، ولكنه أيضاً قانون يضمن حرية العبادة وبالتالي هو قانون حياد الدولة في الشأن العقائدي- حتى لو كانت هذه الأخيرة هي من تنظّم أحكام وقوانين الممارسات الدينية- وزير الداخلية في فرنسا هو أيضاً وزير للأديان، ووفقاً للمادة 1 من قانون فصل الدين عن الدولة، فإن الجمهورية تضمن حرية التعبير، من بينها الحرية الدينية. قد تم فعلاً فرض قيود لصالح النظام العام ومحاربة التطرف الديني والانفصال الهوياتي. فمنذ عهد الجمهورية الرابعة (1946-1958) تم ّتكريس مبدأ العلمانية على رأس مؤسسات الدولة. حيث تنص المادة 1 من دستور الجمهورية الخامسة عام 1958: "فرنسا جمهورية غير قابلة للتجزئة وعلمانية وديمقراطية واجتماعية (…)"، وبذلك تكرر الشروط المحددة للمادة 1 من دستور عام 1946. الجمهورية العلمانية، كما يتضح من استمرار نظام التوافق على التراب الفرنسي، وحتى في المقاطعات المستعمرة من وراء البحار. 

علمنة المجتمع 

يبقى معنى العلمانية التقليدي، وهو الحياد الديني للدولة وعدم التدخل في حق الأفراد وليس في الفضاء العام، أي المجتمع، وبالتالي فكرة الصالح العام تخضع لاحترام مبدأ العلمانية وليس داخل محيط الفضاء العام، كما جاء حكم قاضي مجلس الدولة في قضية ما يُعرف في الأوساط الإعلامية الفرنسية، بل حتى الدولية، بقضية "البوركيني". ومع ذلك فإن تحديد نطاق تطبيق مبدأ العلمانية يتضح أنه بات مسألة شائكة بشكل متزايد. 

هكذا تم التأكيد على ديناميكية توسيع مبدأ الحياد الديني خارج نطاق مؤسسات الإدارة العامة الحكومية، فيما يتعلق بمستخدمي المدارس العامة (القانون رقم 2004-228 المؤرخ 15 مارس 2004). ومَن وراء هذا التّوجه الأيديولوجي والهوياتي للتيار العنصري المتطرف تجاه العرب والمسلمين، يرى البعض أن ظهور تيار علماني جديد متطرف، ما جعل أفكار وسلوكيات هذ التيار تنتقد تارة، وترفض تارة أخرى من قبل صحف دولية معروفة، على غرار صحيفة نيويورك تايمز، وصحيفة الواشنطن بوست الأمريكيتين، رغم سقوط صحيفة نيويورك تايمز هي الأخرى في فخ الاستعلاء الثقافي، حيث عنونت في صحفتها الأولى بعد فوز منتخب المغرب على منتخب إسبانيا، في الدور ثمن النهائى لمونديال قطر، كأس العالم فيفا 2022 لكرة القدم: "المجاعة تبدو على وجوه المشجعين المغاربة،" هذه أيضاً صورة نمطية استعلائية على الإنسان الشرقي، لم تعنون الصحيفة بعنوان كهذا لمشجعي المكسيك أو صربيا! 

تميل هذه الهستيريا السياسية والإعلامية، التي يغذيها العديد من الفاعلين: نخب وساسة وإعلاميون، لاستعمال مبدأ العلمانية والحرية لنزع محتوى المعنى الحقيقي العميق للعلمانية -الفصل بين السياسة والدين- بل حتى فصل الرياضة عن الدين، كان من الأجدر أن تسعى هذه الأفواه والأقلام ألّا تخوض في موضوع علاقة قطر (كونها بلداً عربياً مسلماً) بالحريات الفردية، يكفي لقطر أنها قدمت خدمةً يشهد لها العدو والصديق، بالتنظيم الجيّد لهذه الدورة، رغم حملات الجمهور الفرنسي لمقاطعة مونديال قطر، بسبب القوانين الصارمة لدولة قطر (اتضح في مباراة الدور ثمن النهائي بين منتخب فرنسا ومنتخب بولندا، مشاهدة أكثر من 40 مليون متابع المباراة على قناة التلفزيون الفرنسية الخاصة TF1- وتستعد كل قاعات حفلات البلديات بالمدن الفرنسية، هذا المساء، لبث مباراة الدور ربع النهائي بين المنتخب الفرنسي والمنتخب الإنجليزي.

المسألة ليست بين الدين والدولة في فرنسا، بل أصبح صراعاً حاداً بين التيار المتطرف العنصري، المتمثل في أحزاب اليمين واليمين المتطرف والإسلام. لذلك فإن جدلية ربط الإقليم والهوية والدين هي "بعبع" سياسي، بات يستعمله اليمين واليمين المتطرف، وبعض النخب اليسارية المتشددة ضد الدين عموماً، خوفاً من التفكك الاجتماعي وظهور مجتمع متعدد الثقافات، الذي سيقضي على مبدأ العلمانية، وبالتالي شد الخناق على المفهوم القائم للهوية الوطنية الفرنسية، سواء أكانت الكاثولوكية أو قيم الإنسانية Universalime نحو منح أكثر من الحرية والمساواة والوحدة، حسب التيار اليساري النخبوي. 

وفي النهاية، يبقى موضوع جدل مبدأ العلمانية عموماً، سواء أكانت معتدلة أو متطرفة، مرتبطاً برغبة مئات الآلاف من العرب والمسلمين المتدينين المقيمين بفرنسا، ومدى تصورهم لآفاق حياتهم الاجتماعية والمهنية، التي تبدو واضحة بأنها تبحث عن العدالة الاجتماعية، أي البحث في فرص العمل وحياة أفضل تضمن لها العيش الكريم. عندها تكمن العلاقة الجدلية بين العلمانية الإنسانية والمواطنة، والعلمانية النمطية الداعية للتهميش والعنصرية. هذا ما استطاعت دولة قطر أن تمحوه في مونديالها ومونديال العرب، الذي ليس كروياً فحسب، بل حضارياً بامتياز. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالنور تومي
كاتب وباحث جزائري
صحفي متخصص في شؤون دراسات شمال إفريقيا في مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام). حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة تولوز في فرنسا. له مقالات تنشر في صحيفة ديلي صباح اليومية التي تصدر باللغة الإنجليزية في تركيا. عمل محاضراً في قسم دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في كلية بورتلاند كوميونيتي. وفي الوقت نفسه كان عضواً في مركز دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة ولاية بورتلاند.
تحميل المزيد