كيف أقنع أولادي بالابتعاد عن السوشيال ميديا دون إجبار أو شعور بالحرمان؟

تم النشر: 2022/12/10 الساعة 12:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/10 الساعة 12:48 بتوقيت غرينتش

قد لا تصدّقون أن ابني الكبير لم يقتنِ موبايلاً حتى دخل الجامعة، فهكذا كانت سياستنا التربوية: "ألا نعطي أولادنا أجهزة خاصة، حتى يتجاوزوا الـ18 سنة"، واخترتُ هذا العمر لكي يكونوا قد بلغوا ورشدوا، وأصبحوا فاهمين وعاقلين، ومسؤولين أمام الله وأمام الناس عن سلوكهم.

وكان أولادنا -والحمد لله- مقتنعين جداً بهذه الفكرة، وموافقين عليها، ومدافعين عنها أمام زملائهم وأقرانهم.

ولكن، وبالمقابل لم نحرمهم؛ فكان النت متوفراً في البيت، وكان لدينا بالبداية جهاز كمبيوتر واحد فقط، فكان أولادنا الـ5 يتعاقبون عليه، فيكون لكل واحد منهم ساعتين باليوم، وكانت مدة كافية جداً: (1) لقلة الشغف وقتها، (2) لقلة البرامج والألعاب في ذلك الزمن. وكان هذا هو الحل الأمثل للمرحلة الأولى (في مواكبة تلك التكنولوجيا التي طرأت علينا).

ومر الزمن، وتغيّرت الدنيا، وانتشرت الأجهزة وتطورت، فتغيرنا نحن المربين معها (وهذا الصواب في عملية التربية)، وانتقلنا للمرحلة الثانية، فأحضرنا لكل طفل شاشة وجهازاً، وأصبحت غرفة الجلوس في بيتنا وكأنها مقهى إنترنت. وكنا نجلس فيها كلنا معاً، فيلعب الأولاد، وأقرأ أنا ونتسامر قليلاً، ونعلق على ما يفعلونه على النت وما يتعلمونه، وفي ساعة محددة نقوم كلنا ونترك الأجهزة (للطعام أو لزيارة أو للتسوق أو للنوم أو ليساعدوني بعمل البيت).

وكانت هذه نظريتي التربوية الثانية المُعَدَّلة: "أنه لا بأس أن يكون لكل طفل جهاز خاص، ولكن ثابت وكبير، فلا يمكنه نقله من غرفة لأخرى، أو إخفاؤه"، وليس له كلمة سر، وهو مكشوف لنا، نحن أهل البيت، وكلما دخلنا الغرفة رأينا ما يصنع كل ابن، وماذا يعمل وأي لعبة يلعب وأي موقع يفتح، ونراه بشكل عفوي وطبيعي، لأن الشاشات كانت مواجهة لنا.

هذا الوضع كان رائعاً ومرضياً لجميع الأطراف، فلا يوجد حرمان للصغار من الأجهزة ومن الألعاب، وبنفس الوقت لا توجد خصوصية ولا هواتف خلوية، ولا رقم اتصال، فالطفل حصل على حرية معقولة، وبقي –بنفس الوقت- تحت رقابة الأهل، وتحت قوانين عامة تمنعه من الجلوس على الجهاز طول النهار.

وهكذا حتى وصلنا للمرحلة الثالثة التي عجزنا أمامها؛ فكانت أكبر عائق أمام استمرار هذه الخطة التربوية الناجحة، حيث اتفقت علينا جهتان توسمنا منهما التعاون معنا، فكانوا –وللأسف- ضدنا:

– الطرف الأول بعض "المدارس"

حيث جعلوا التواصل بين الأستاذ والتلاميذ ومتابعة الوظائف والدروس عن طريق الواتساب، فتسببوا بمشاكل تربوية خطيرة، حين اضطر الأهالي للاستجابة لهم، وشراء رقم هاتف خاص للصغير، فأصبح بيد كل طفل جهاز صغير يخفيه في جيبه، ويتحكم فيه كيف يشاء، ويرافقه أينما ذهب. وكانت هذه الحركة غريبة من تلك المدارس، وهم يُعنون بالتربية مع التعليم!

– والطرف الثاني كان "الأهل":

1- حيث ركبهم اعتقاد بأن منع صغارهم عن الجوالات حرمان خطير، وقد يدمر نفسيتهم (خاصة أن أقرانهم يقتنونها).

2- وتخيل بعض الآباء أن هذه الأجهزة يمكن أن تُعوِّض صغارهم عن غيابهم الطويل عن البيت، فعوّضوا الحرمان المعنوي بالعطاء المادي، وهذا غلط تربوي كبير.

3- ومع ازدياد التحرش والفساد، فإن من الآباء من رأى الأجهزة أكثر أمناً من خروج الأطفال للعب مع الأصدقاء بالحدائق؛ فساهموا بإدمان أطفالهم على السوشيال ميديا.

4- ومنهم من وجد بالهاتف طريقة ممتازة لتعقب تنقلات أولادهم، والاطمئنان عليهم وهم خارج المنزل.

وبالطبع كلها حجج واهية، ويمكن الرد عليها:

1- فحين يمنع الأهل أولادهم عن الموبايلات لأسباب صحية وتربوية، فهذه حسن تصرف وذكاء، ومحافظة على القيم (وليس حرماناً).

2- الحرمان المعنوي لا يعوض عنه المادي، بل هذا يقطع العلاقات الأسرية، ويخفف العواطف، ويشجع العزلة ويكرس للمادية.

3- صحيح أن التحرش والفساد قد ازدادا، ولكن ما زالت هناك أمكنة آمنة، وأشخاص يوثق بهم، ولا بد أن يختلط الطفل بالناس ويخرج لكي يتعرف على الحياة ويعد نفسه لمفاجآتها ويحذر منها.

4- وأما تعقب الأولاد، فيمكن أن نشتري هاتفاً خلوياً إضافياً، من أرخص وأضعف الأنواع، ونعطيه لأي طفل من أولادنا حين يخرج، ونسترجعه منه حين يعود، فيكون فقط للاطمئنان، وليس خاصاً له.

وبذلك وضعت هاتان الجهتان الأجهزة والنت المفتوح بأيدي أولادهم وطلابهم، ثم بدأ التشكي والصراخ، من إدمانها ومن أخطارها!؟

وهكذا حوصرنا! وأصبحت السوشيال ميديا سيلاً هادراً جارفاً، فلا يمكن السباحة بعكسها، ولا يمكن حتى الوقوف في وجهها، وكان الحل الأفضل هو المشي مع هذا التيار، وفي ركبه، ولكن بقارب آمن وبمسار مدروس وبذكاء وفطنة، بحيث نأخذ خيرها وندع شرها، ونحولها لأداة فاعلة وحافزة، فإن وسائل التواصل أصبحت ضرورة، ولا شك أن إيجابياتها عظيمة، ومنها:

1- التعرف على الثقافات المختلفة (والله جعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف).

2- زيادة خبرات الطفل وذكائه، وتوسيع مداركه وثقافته في حال أدمن على المواقع العلمية.

3- ومع الحروب والأمراض وتفرق العائلات في شتى البلاد، فلا شك أنها الوسيلة الوحيدة لتعزيز الجانب الاجتماعي مع الأقرباء والأقران.

وبعد كل هذه التفصيلات، ما الحل؟ وكيف نتصرف كأمهات وآباء؟

1- التشكيل والتنويع

فالإسراف في أي شيء في هذه الدنيا مذموم، ويضر بالصحة والمال والوقت، ومن واجبات الأهل تعليم الأولاد هذه القاعدة، ومساعدتهم على توزيع وقتهم:

فيستعملون وسائل التواصل، ويلعبون بالبساتين، ويهتمون بدراستهم، ويحرصون على الجلوس مع أهليهم، ويأخذون قسطاً من الراحة…

وعلى كل أم وأب محاولة صرف أولادهم عن الأجهزة بلطف وتدرّج: بممارسة الأنشطة والألعاب المسلية لهم، والمتوفرة حيث تعيشون: مثل السباحة، تسلق الأشجار، اللعب بالكرة، وإشغالهم بالهوايات، وتحبيبهم بالكتب سيجعلهم يصرفون عليها وقتاً كبيراً عليها…. وإن كنت لا أخفيك أن كل هذه الوسائل التي تبدو ممتعة لن تصرفهم عن جاذبية أجهزتهم! إلا أنها ستساهم في تخفيف المشكلة، وتقليل جلوسهم عليها.

وللتحفيز والتشجيع، يمكن وضع مكافآت وهدايا لكل ناشئ يحسن توزيع وقته على نشاطات متعددة.

وإن أولادنا متعلقون جداً بهذه الأجهزة، ولذلك لا أنصح أبداً بتحديد ساعات للجلوس عليها، فهذا سيشعرهم بالقيد والحرمان، وقد يكون في تلك الساعة شيء مهم على النت فيفوتهم فيحزنون. ولكني أنصح بتعليم كل طفل أن يطبق نظرية 20/20/20: فيترك جهازه من نفسه كل ثلث ساعة 20 ثانية، وينظر للأفق على بُعد 20 متراً، ويمشي خلالها قليلاً في أنحاء البيت، أو يساعد أمه في أي عمل… ليريح جسمه وعينيه، ولو استطاعت الأم إطالة هذه الاستراحة كل مدة، فهذا هو الحل الأمثل، بأن تناديه ليساعدها بحمل شيء أو إنجاز مهمة، أو ليأكلا طعاماً يحبه، أو ليخرج مع والده…  فكل هذا يبعده قليلاً عن جهازه.

ولا بأس لو حددت ساعة كل يوم، يتم فيها إيقاف النت، أو منع الأجهزة عن كل سكان البيت، حتى عن الأم والأب، فهكذا سيشعر الصغير أنها قاعدة عامة للجميع، لأجل الراحة والسلامة، وليست عقاباً، ولا قيداً عليه وحده، فهنا سيقتنع وسيستجيب، وسيستثمر تلك الساعة بشيء مفيد.

ولا بأس من بعض القوانين الصحية العامة: كمنع الأجهزة داخل غرف النوم، أو قبل الرقاد بساعة.

والفكرة إذا أردت أن تطاع، فاطلب ما يُستطاع!

وهنا سأستطرد لمسألة مهمة جداً:

أولادنا أصبحوا متعلقين بأجهزتهم كتعلقهم بأمهم وأبيهم، وارتباطهم بها أصبح عميقاً وعاطفياً وقوياً، وهي دخلت في ملكهم وتعودوا أنها تحت تصرفهم؛ فإياكم أن تسحبوا الهواتف من أولادكم لتقنين الوقت، أو تجعلوها وسيلة للعقاب فتصادروها ولو لساعة… بحجة أن الصغير أخطأ أو قصّر بالدراسة، أو لأي سبب: فهذا سيشعره بالاضطراب والذعر كما لو ضاع في الصحراء.

2- استعمالها للفائدة

ولا شك أن الأطفال يحبون اللعب والركض والمغامرات، واللعب ضروري وجيد، ورغم ذلك لا نوفره لهم؛ فالآباء مشغولون بالعمل والتكسب، ومنهم من يمنع الأم من الخروج بأولادهن للحدائق القريبة، فضلاً عن الملاهي والألعاب المدفوعة لغلائها وتكلفتها الباهظة. فلا يجد الأبناء متنفساً سوى الألعاب الإلكترونية.

ولذلك ينبغي تفهم حاجة الصغير الماسة للعب، وهذا في عمره ليس مضيعة للوقت، بل أفضل استثمار لصحته، ولا بأس أن يقضي الطفل كل نهاره باللعب، ولا يشبع!

وإذا كان المؤسف أن اللعب تحول للأجهزة، فإن المطمئن أن الصغير ومع مرور الأيام سينمو عقله، وستقل ساعات اللعب تلقائياً، وعلينا هنا أن نحببه ببرامج اللعب مع التعليم، ثم وحين يصبح فتى ناشئاً نفطنه لأهمية الوقت.

وبالتدريج سيدرك الناشئ أهمية الإنجاز، وسيحرص عليها حين يعرف قيمة الثقافة والاطلاع، وكيف سيحصل من ورائها على الوجاهة والاحترام بين الناس، وبالتالي النجاح بالحياة.

ودورنا أن نوجد الشغف والقناعة لدى أولادنا، لكي يصبح الدافع داخلياً، فنضمن ثباتهم على المعالي التي ربيناهم عليها؛ ولعل التحفيز والتشجيع يحقق هذا، فيجعل الأهل لمن يصرف وقته على شيء مفيد (كفيلم وثائقي، أو تعلم مهارة أو لغة) مكافأة أو هدية محببة.

وبالمناسبة فإن أولادي الخمسة فعلوا هذا، واستثمروا وسائل التواصل باللعب والفائدة، فقد كانوا ضعافاً جداً باللغة، ومن النت تعلموا الإنجليزية وهم بالابتدائية، وتعلموا البرمجة وأموراً متنوعة، واشتغلوا وربحوا وهم لا يزالون صغاراً.

3- الانضباط الذاتي

لا يمكننا مراقبة صغارنا كل الوقت، ولا حظر رفاق السوء، ولا يمكننا حجب المواقع المشبوهة وهم أشطر منا بفتحها… وإن الذي سيحمي صغارنا عن المفاسد والمواقع الإباحية شيء واحد هو "الوازع الداخلي، والتقوى"، فيجب علينا أن نجعل لهم من أنفسهم رقيباً عليهم بتقوية إيمانهم وخوفهم من الله.

ومن المهم تعريفهم بالأضرار الصحية والنفسية لإدمان الأجهزة، وكيف أنها تسبب لهم التوتر والقلق، وصعوبة النوم.

ومن الضروري مراقبة الصغار عن بُعد، ومتابعتهم، والإجابة عن كل تساؤلاتهم بصدق وبما يناسب أعمارهم، ومناقشتهم باستمرار لمعرفة ما يقتبسونه من عادات، وما يخزنونه من أفكار، قبل أن تنضج وتترسخ فيصعب تغييرها.

وأنصح بضرورة الجلوس كل مدة بجانب الطفل، والاهتمام بما يتابعه، وتوضيح بعض الأفكار ليميز بين الحقيقة والخيال.

4- وإن الحل الحاسم للتخلص من إدمان الإنترنت "أسرة دافئة"، فيها حب واهتمام بحاجات الصغار، وفيها تفهم واسترخاء، وجلسات عائلية تحتوي على قصص جذابة وذكريات قديمة، وموعظة خفيفة وتوجيه مبطن، وفيها مشاركة جماعية بكل نشاط يكون في البيت حتى الأعمال المنزلية.

ولا بأس في بعض المرات أن تعد الأم لسهرة جميلة، أو يحضر الأب طعاماً يحبونه، ثم يبلغان الأولاد أنه في الساعة كذا عليهم الحضور جميعاً لغرفة الطعام بلا أجهزة، ولتكن جلسة غنية ولطيفة، بحيث تنسي الصغار حاجتهم للعالم الافتراضي. وفي النت أفكار جميلة يمكن اقتباسها لإسعاد الأولاد وصرفهم عن الأجهزة، سواء كانت مسابقات أو بألعاب أو قصص أو ألغاز أو مقالب مرحة وطبعاً غير مرعبة ولا مؤذية ولا سمجة… بحيث يكون تطبيقها هيناً على الأم والأب، وتناسب ميول الصغار .

والخلاصة:

الإنترنت ووسائل التواصل أشياء لا بد منه، ولا يمكنك منع طفلك عنها مهما فعلت، ولكن الأمر ليس مخيفاً، فوسائل التواصل كأي شيء في هذه الدنيا، فيها "الشر والضرر" وفيها "الخير والفائدة"، ولذلك لم تعد مهمتنا تنفير صغارنا منها، ولا منعهم عنها، ولا جعلها وسيلة للعقاب، وإنما التحكم بها، لتكون مادة للاستفادة وللنجاح بالحياة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عابدة المؤيد العظم
أستاذة الفقه والشريعة الإسلامية
عابدة المؤيد العظم، مفكرة إسلامية وباحثة في الفقه وقضايا الأسرة
تحميل المزيد