كعشاق لكرة القدم، ننتظر جميعاً بطولة كأس العالم كل 4 سنوات على أحر من الجمر، ونبدأ الحديث عن البطولة التالية، من اليوم الأخير للبطولة التي تسبقها. ننتظر وبداخل كل منا أمل أن يرى منتخب بلاده حاضراً فيها.
لم تكن كأس العالم طيلة تاريخها -ولن تكون- مجرد بطولة رياضية، تتنافس فيها الدول للحصول على الكأس في النهاية، ولكن معرض للقوميات، وساحة تبرز فيها الاتفاقات والخلافات السياسية والاجتماعية بين الدول.
لكأس العالم قصص تُروى، وتاريخ طويل، عن توحيدها للشعوب، ومن ضمن هذا التاريخ المثير، قصة لا تقل إثارة، عن شعب لم تلعب بلاده قط في البطولة، ويبدو أنه لن يحدث ذلك على الأقل في القريب العاجل. قصتنا عن شعب بنغلاديش الذي قرر طوعاً تشجيع منتخب الأرجنتين.
فكيف بدأت القصة؟
كراهية أبدية بين الراج البريطاني وحرب الفوكلاند
دعنا نبدأ القصة من خارج حدود كرة القدم. الراج البريطاني، أو الهند البريطانية، هي المرحلة التاريخية التي استُعمرت فيها الهند وباكستان وبنغلاديش وميانمار بواسطة الإمبراطورية البريطانية، منذ بداية القرن الـ19، وحتى منتصف القرن الـ20.
كانت بلاد البنغال من أغنى بلاد العالم منذ قديم الأزل، الأمر الذي جذب الإنجليز إلى غزوها، ونهب ثرواتها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كانت بريطانيا سبباً رئيسياً في واحدة من أبشع مجاعات التاريخ الحديث في بنغلاديش، عندما قرر رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرتشل، منع إرسال المساعدات الغذائية لإقليم البنغال الشرقي، عام 1947، في أوج الحرب العالمية الثانية؛ ما أدى إلى موت أكثر من 3 ملايين بنغالي من الجوع.
ولأن تاريخ إنجلترا الاستعماري والوحشي، يتفوق على تاريخها الكروي في بطولات كأس العالم بكثير، كانت هناك قصة مأسوية أخرى عام 1982، بينها وبين الأرجنتين، بسبب إقليمين واقعين في جنوب المحيط الأطلسي، وهما جزر الفوكلاند، وإقليم جورجيا الجنوبية، وهي الأقاليم التي كانت تطالب الأرجنتين بحق سيادتها عليها، مؤكدة أنها ورثتهما من التاج الإسباني عام 1767، وكان رد بريطانيا أنها تسيطر عليهما منذ عام 1833، ما أدى إلى اشتعال الحرب، التي عُرفت باسم حرب الفوكلاند، وراح ضحيتها آلاف القتلى، وانتهت باستلام الأرجنتين، مخلفة وراءها كراهية أبدية من الأرجنتينيين للإنجليز.
لذا؛ دعنا نقل إن كراهية الإنجليز، كانت السبب الرئيسي في تجميع شعبي الأرجنتين وبنغلاديش معاً.
في دكا وكأنك في بوينس آريس
نعتقد أن أحد المشاهد الخالدة التي سنتذكر بها هذه النسخة من كأس العالم، هو المشهد في الصور أدناه.
لطالما اشتهرت بنغلاديش، التي يبلغ عدد سكانها 169 مليون نسمة وتحدها الهند من الشمال والشرق والغرب، بالكريكيت أكثر من أي شيء يتعلق بكرة القدم. لهذا السبب تحديداً، تُعد الصورة الماضية غريبة.
ربما لو أخبرناك أن هذا التجمع كان في العاصمة الأرجنتينية، بوينس آريس، لمرّتَ الصورة مرور الكرام، لكن المدهش أنها في العاصمة البنغالية، دكا، والتي تبعد 17 ألف كيلو متر عنها، وفي الواحدة صباحاً بسبب فرق التوقيت.
لا تقف الأمور عند هذا الحد، بل تتزين العاصمة البنغلاية وكأنك في بوينس آريس حقاً، فأعلام الأرجنتين في كل مكان، في الشرفات، وفوق المنازل، وعلى أبواب المحلات، وكذلك صور ليونيل ميسي وديجو مارادونا.
كانت هذه المشاهد، حديث الصحافة الأرجنتينية، وهو ما جعل الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم يرسل رسالة شكر للجمهور البنغالي على هذه المحبة الغامرة.
نُقلت هذه الرسائل من الصحافة الأرجنتينية باللغة البنغالية والإسبانية؛ حتى يتمكن جمهورهم في داكا من قراءتها، والأدهى أن مدرب المنتخب الأرجنتيني، ليونيل سكالوني، علق على هذا الأمر في أحد المؤتمرات الصحفية، ووجّه الشكر للجمهور البنغلاديشي.
والأكثر إثارة، أن جماهير الأرجنتين قررت القيام بشيء ما في المقابل. أنشأ أحدهم مجموعة على موقع فيسبوك يوم الجمعة الماضي لدعم فريق الكريكيت الوطني في بنغلاديش. وأطلقوا عليها "المعجبون الأرجنتينيون بلعبة الكريكيت في بنغلاديش" وقد أمضى أعضاؤه اليومين الماضيين يحتفلون بفوز الفريق على الهند في مباراة دولية ليوم واحد.
قد لا يكون لدى بعض المشاركين معرفة كاملة حول قواعد لعبة الكريكيت، ولكن طغى عليهم الحماس، لمساندة رفاقهم في دكا. والغريب أنه بعد 5 أيام فقط من إطلاق المجموعة، كان لديها 119 ألف متابع، والعدد في ازدياد طوال الوقت.
لكن هل هذه هي القصة كاملة؟
يد مارادونا التي انتقمت لبنغلاديش قبل الأرجنتين
ربما يكون ميسي وراء هذا الدعم المتزايد في هذه البطولة تحديداً، من الجمهور البنغلاديشي، خاصةً أنها البطولة الأخيرة له، لكن الأمر يعود لما هو أبعد من ذلك بكثير.
في أوائل الثمانينيات، لم تكن هناك أجهزة تلفزيون ملونة في بنغلاديش. بالنسبة للكثير من الناس، كانت الطريقة الوحيدة لمعرفة المزيد عن كأس العالم هي من خلال الصحف. ثم جاءت بطولة 1986، تزامناً مع دخول التلفزيون لبنغلاديش. وقف البنغلاديشيون وراء كل الفرق التي لعبت أمام إنجلترا، متمنيين هزيمة الإنجليز، لكنهم وقعوا في عشق مارادونا، ليس بسبب فنياته الخارقة، ولكن بسبب هدفه الشهير بيده في مرمى الإنجليز، الذي أقصاهم من البطولة في الدور ربع النهائي.
خرج آلاف المشجعين في شوارع بنغلاديش للاحتفال بانتصار الأرجنتين، وكأن يد مارادونا انتقمت مرتين، مرة لضحايا شعبه في حرب الفوكلاند، وأخرى لضحايا الشعب البنغلاديشي، في مجاعات الحرب العالمية الثانية.
يقول روي نمر، مؤسس Mundo Albiceleste، وهو موقع إلكتروني لأنصار الأرجنتين: "هؤلاء هم الأشخاص الذين يستيقظون في الساعة 2 صباحاً لمشاهدة الأرجنتين وهي تلعب، الأشخاص الذين يرسمون منازلهم بألوان الأزرق السماوي والأبيض لإظهار دعمهم. إنه أمر محير للعقل، وشرف عظيم لنا".
تحدث الناخب الأرجنتيني سكالوني عن الدعم الذي قدمه في مؤتمره الصحفي، عقب مباراة أستراليا قائلاً: "كان هناك أشخاص في بوينس آيرس يحتفلون بالفوز على أستراليا من خلال التلويح بعلم بنغلاديش. تخيل ذلك. يمكن للرياضة حقاً أن توحّد الثقافات المختلفة وتجمع الناس معاً".
في قطر تبروزت العلاقات إلى الأبد
في كأس العالم الحالية بالتحديد، دعنا نقول إن علاقة بنغلاديش بالمنتخب الأرجنتيني قد توطدت إلى الأبد، والسبب هو وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي أبرزت هذه القصة، والآخر هو العدد الضخم للعمالة البنغلاديشية الموجودة في الدوحة.
شركة El Destape، إحدى وسائل الإعلام في الأرجنتين، غطت مباراة بنغلاديش والهند الدولية للكريكيت يوم الأحد الماضي. وأعلنت المحطة بمرح: "من الأرجنتين، نهنئ شعبنا في بنغلاديش على هذا النصر الهائل".
قرأ أحد مقدمي البرامج التلفزيونية في بنغلاديش الأخبار في الأسبوع الأول من كأس العالم، بينما كان يرتدي قميص منتخب الأرجنتين، وصنع مواطن بنغلاديشي آخر علماً للأرجنتين -لا يمزح- يبلغ طوله أكثر من نصف ميل. قام هو وجيش صغير من زملائه بعرضها في شوارع دكا.
في الدوحة، أحد الأسباب التي تجعل مشجعي الأرجنتين يحتمل أن يكون لديهم أكبر وأعلى متابعين من أي فريق في كأس العالم هذه، هو العدد الكبير من بنغلاديش الذين يعيشون في قطر. المشجعون البرازيليون موجودون هنا أيضاً بشكل جماعي، ويتمتعون بدعم كبير من المجتمع البنغلاديشي المحلي.
لكن يظل هناك سؤال مهم، بالرغم من كل هذا العشق اللامتناهي لكرة القدم، أين تقف كرة القدم في بنغلاديش؟ وما حال منتخب بلادهم لكرة القدم؟
وعود واهية وفساد مُستشرٍ
تمتلك كرة القدم بالفعل قاعدة جماهيرية ضخمة في بنغلاديش. كل ما يحتاجه البلد هو التخطيط السليم، والرؤية السياسية السليمة لتحقيق ذلك.
تحتل بنغلاديش المرتبة الـ192 (من أصل 211) في تصنيفات الاتحاد الدولي لكرة القدم، بل كانت في مرتبة أقل من ذلك، ولم تقترب أبداً في تاريخها من التأهل لكأس العالم.
في 14 يونيو/حزيران 2014، أعلن رئيس الاتحاد البنغالي لكرة القدم، كازي صلاح الدين، عن "رؤية 2022″، حيث أعلن أنه بحلول عام 2022، ستلعب بنغلاديش في كأس العالم.
لكن ما حدث كان النقيض تماماً، فمنذ ذلك الحين، تراجع فريق الرجال البنجلاديشي بشكل أكبر في الترتيب الدولي، واحتل حالياً المرتبة 192، وفشلوا في الفوز بأي لقب دولي كبير، ولم يظهروا بعد في كأس أمم آسيا.
والسبب وراء هذا التخبط لم يكن لدى الاتحاد البنغالي لكرة القدم أي خطط فعلية في سبيل تحقيق ذلك، فلم يستطيع من تحسين جودة الدوري الممتاز، أو إنهاء الفساد في الدوريات الدنيا، أو العثور على لاعبين جدد ورعايتهم أو إحراز أي تقدم كبير في البنية التحتية، بالإضافة إلى الانشغال في تحقيق أكبر قدر من صناعة بيع القمصان، والتي يتربح منها المسؤولون عن كرة القدم ولكن بصفة غير رسمية، وهي صناعة كبيرة، يشكلن النساء الغالبية العظمى بين العاملين فيها، إذ يشكلن 8 من كل 10 عمال.
للمفارقة الغريبة، أن الزي الأغلى لمنتخب في كأس العالم الماضية روسيا 2018، كان زي منتخب الإنجليزي، الذي كان يُباع حينها بـ160 جنيهاً إسترلينياً، والمشين في الأمر أنه كان من صناعة باكسينية، فحسبما ذكر موقع تلغراف أن الزي الإنجليزي في المونديال، يباع بمبلغ 160 جنيهاً إسترلينياً، بينما يحصل العاملون الذين صنعوه على مبلغ 21 بنساً في الساعة، وحوالي 1.68 جنيه إسترليني في اليوم.
وقالت حملة "The Clean Clothes " التي تهدف لتحسين أوضاع صناعة الملابس حول العالم: "يبلغ الحد الأدنى للأجور نحو 47 جنيهاً إسترلينياً، لذا فإن عمال صناعة الملابس في بنغلاديش هم من أكثر العاملين فقراً في هذه الصناعة بالعالم".
وأضافت: "هناك تناقض صارخ بين الحرمان الذي يواجهه العاملون، وبين مشهد كأس العالم، حيث يتم استخدامها".
يمكننا القول إن هذا مشهد آخر من مشاهد كأس العالم والشعب البنغلاديشي، وسبب أدعى لأن يدعم هذا الشعب منتخباً عانى أهله مثلهم من الظلم والقهر الاستعماري، وينظر إليه من دول الجنس الأبيض أنه فئة أقل من البشر.
سيظل يحمل كأس العالم رسائل مثل دعم البنغلاديشيين للأرجنتين، إلى أن يأتي اليوم الذي تلعب فيه هذه الدول ليس في البطولة فحسب، ولكن في مباراتها النهائية، فإلى أن يتحقق كذلك، وتكلل مساعينا بغير الهزيمة ذات مرة، فكل الدعم للمنتخبات التي تحمل آلامنا، وآمالاً مماثلة لآمالنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.