في مقالاتنا السابقة هنا حول المونديال، ذكرنا أكثر من مرة عبارة "عقدة النقص" وحذّرنا منها مراراً وتكراراً، باعتبارها هاجساً وكابوساً يقضّ مضجع كل من شاهد الحضور العربي في النسخ السابقة لكأس العالم، مع استثناءات قليلة سنأتي على ذكرها بالتفصيل لاحقاً.
قبل انطلاق صافرة البداية تساءلنا: هل ستلوح في الأفق بشائر تخلصنا من تلك اللازمة السوداء، ويمكن أن نبدأ من مونديال العرب نحو كسر العقدة وإشهار سيف التحدي أسوة بالآخرين، دون خوف أو ارتباك؟
كان الحذر يستبدّ بالجواب رغم كل الظروف المهيأة لمعانقة التألق من أوسع أبوابه، وإغلاق صفحات التخاذل ومحوها من القاموس العربي نهائياً؛ وبالفعل توالت الأخبار السارة من الجولة الأولى بالمفاجأة الكبرى التي جاءت بأقدام لاعبي الأخضر السعودي، الذين تفاعلوا مع صرخات الثعلب الفرنسي هيرفي رونار واستفزازاته الإيجابية، وغيروا نتيجة مباراة الأرجنتين وحققوا انتصاراً تاريخياً على رفاق ليو ميسي، أدخلوا به الشك لكتيبة المدرب سكالوني بعد أشهر من السباحة في العسل بسلسلة انتصارات حجبت الرؤية حتى عن عشاق التانغو ومن يحلمون بلقب جديد طال انتظاره.
ورغم النهاية التعيسة لكتيبة رونار، فإن المباراتين الأولى والثانية أمام بولندا جاءتا بمستوى مميز رأينا من خلاله اللاعب السعودي يقارع الأوروبي دون مركب نقص ولا خوف، وساهم هذا المستوى في محو الصورة الكارثية التي شاهدها العالم في نسخة روسيا 2018، ومع لعنة الإصابات التي طاردت أهم الأسماء في تشكيلة الأخضر على غرار ياسر الشهراني وسلمان الفرج، وإيقاف عبد الاله المالكي، وإصابة علي البليهي في اللقاء الأخير أمام المكسيك الذي جاء مخيباً للآمال، وكان بالإمكان أفضل مما كان، رغم إصراري الشخصي على أن مفتاح التأهل ضاع خلال لقاء رفاق الحارس تشيزني تحديداً.
ونجح نسور قرطاج أيضاً في كسر حاجز الخوف، وصمدوا أمام الدنمارك، وهزموا أبطال العالم فرنسا في اللقاء الأخير، ورأينا منتخباً منظماً دفاعياً، ولولا "استهتاره" في لقاء أستراليا لتغير الوضع كلياً ورافق الديوك للدور الموالي للمرة الأولى في تاريخه، وهنا لابد أن نؤكد أن أبناء جلال القادري أضاعوا أسهل فرصة لكتابة التاريخ وصناعة المجد لجيل شارف أغلب أسمائه على الاعتزال الدولي. وأول من بادر لفسح المجال أمام المواهب الشابة هو وهبي الخزري، وقد يلتحق به "النمس" يوسف المساكني، وفرجاني ساسي، وعلي معلول كما يقال إعلامياً؛ رغم أن ما ينقص السعودية وتونس في هذه النسخة كان يكمن في غياب واضح وفاضح لمهاجم قنّاص، لا يرحم أمام الشباك، وبغياب الفعالية ضاعت الأماني وانتهى الحلم مبكراً.
وأما منتخب قطر، المستضيف، فقد خانت التجربة لاعبيه، وأنهكتهم الضغوط، مما طمس نقاط قوته المجسدة في الثنائي أكرم عفيف والمعز علي، اللذين تشعر بثقل المسؤولية على كاهليهما، مما انعكس بالسلب على المردود العام؛ ولا يمكن البتة مقارنة تجربة المنتخبين سالفي الذكر بالعنابي الذي بالكاد يستكشف التجربة ونتمنى أن ينجح في الحضور للنسخة الثانية توالياً، كي نرى وجهاً مغايراً كلياً لما شاهدناه في الدوحة.
وختامها مسك مع أسود الأطلس، فحتى في نسخة روسيا كانوا الأقل معاناة مع "عقدة النقص"، بالنظر لتجربة أغلب عناصره في القارة العجوز؛ وما نعاينه اليوم من تألق منقطع النظير ورفع لراية العرب خفاقة في أدوار متقدمة للغاية ليس سوى استمرار واستكمال للحضور المميز في سنة 2018 مع اختمار تجربة أسماء مثل أشرف حكيمي وسفيان امرابط وحكيم زياش وغانم سايس وياسين بونو ومنير المحمدي ويوسف النصيري، وكلها عناصر خاضت غمار المونديال في التجربة الماضية، واستفادت من تلك الدروس المريرة التي يحفظها المتابع عن ظهر قلب.
ما نريد ايصاله هنا هو أن مونديال العرب نجح في قطع دابر الخوف، وبالأرقام تعتبر أفضل مشاركة للمنتخبات العربية التي استفادت من الحضور الجماهيري الغفير، وخلقت أجواء من الألفة والتآخي غير مسبوقة، وكان من المفترض أن يواصل منتخب على الأقل، ويقارع الكبار، وذلك ما تجلى في المنتخب المغربي الذي يرسم ملاحم ناصعة ستظل خالدة للأبد؛ لكن نرجو أن يكون مونديال قطر البداية ولا يشكل فقط "استثناء"، ونعود لعاداتنا القديمة؛ وبالتالي نقول وداعاً لمركّب النقص وإلى الأبد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.