في مباراة ربع النهائي لمونديال المكسيك 1986، التي دارت بين الأرجنتين وإنجلترا، برز الشاب دييغو مارادونا، بأسوأ وأروع ما فيه، يد اللص والقدم العبقرية.
حينما سجّل بيده، صاح المعلق الفرنسي الشهير ميشال لاركي شاتماً: "يا له من وغد حقير. لقد سجّل الشيطان بيده، لقطة لا تليق بلاعب محترف، بل بصعلوك الحارات. وحده الحكم بن ناصر لم يرَ المهزلة".
ثم، وبعد بضع دقائق، كان الشيطان يرتقي قديساً على عرش الكرة، حين تلقى الكرة بقدمه اليسرى ثم مرق كالسهم، مراوغاً وماسحاً نصف الفريق الإنجليزي وعيناه مثبتتان في الأرض.
وإلى اليسار كان يلمح زميله خورخي فالدانو متهيئاً للاستلام، لكنه ظل يتساءل "هل أمرّر أم أُكمل؟".
كان فالدانو يعتقد أنه لم يكن يراه وسط زحمة اللاعبين، وهذا خطأ، فقد كانت له رؤية محيطية قلّ نظيرها، سمحت له بلمحه، لكن تهافت المدافعين نحوه دفعه لتفضيل خيار الاختراق، ليجد نفسه أمام الحارس شيلتون، فراوغه بيسراه قبل أن يغمز الكرة بخارج القدم محرزاً هدفاً مذهلاً، لا، بل أسطورياً دفع زميله فالدانو لأن يقول له في غرفة الملابس:
"حُسم الأمر يا دييغو، ها أنت اليوم تتقاسم طعام المجد في طاولة واحدة مع الأسطورة بيليه".
صُنّف الهدف المونديالي العبقري هدف القرن، أما دييغو أرماندو مارادونا فصرّح:
"أهدي هذا الهدف الحلم، هدف حياتي، إلى شقيقي الصغير هوغو، المكنى بـ"التوركو"، لا، بل إن ذلك الهدف هو هدف شقيقي الأصغر دون سواه".
فما القصة يا ترى؟
1/ أهدر هدفاً مثالياً في ويمبلي فوبَّخه شقيقه الأصغر
أحدث لاعب أرجنتيني شاب عمره 18 سنة ضجة كبرى في مونديال الشباب باليابان 1979، فخرج يحمل كأس العالم بيد وجائزة أفضل لاعب بأخرى، وتميز بلعب خرافي وقدم يسرى سحرية، ومهارات عالية رغم أن طوله لا يتعدى 1.65 متر، لكن تلك الهيئة القزمية كانت إلى جانب ما تمتع به من موهبة وسرعة ورؤية محيطية شكلت أحد عوامل تفوقه الخارق، ذلك أن مركز ثقله كان قريباً من الأرض، فقدماه الطويلتان نوعاً ما عن باقي جسده وفرت له مرونة في الدوران والسرعة وتغيير الاتجاه من الثبات والحركة، ولذا كان من الصعب اعتراضه أو الوقوف حائلاً أمام قوة اختراقه.
في العام 1980 كان المدرب، سيزار مينوتي، يستدعيه للمنتخب الأول على خلفية بروزه اللافت في موندياليتو اليابان، لذا كان ضمن قائمة الأرجنتين في مباراتها الودية ضد إنجلترا في ملعب ويمبلي العريق، وطبيعي أن يحتشد الناس في الثالث عشر من شهر مايو/أيار، لمتابعة فريقهم ولمشاهدة الأيقونة الصاعدة في عالم الكرة بعد أن شاع اسمه وذاع صيته، ولم يخب ظن المتفرجين الإنجليز، لأن فريقهم هزم التانغو بثلاثة مقابل واحد، بل لأن القصير عزف لهم مشهداً سحرياً جاء به من عالم آخر لينثره بقدمه الذهبية فوق بساط الملعب، إذ أمسك الكرة واخترق المدافعين بسرعة البرق، قبل أن يخرج وجهاً لوجه أمام الحارس، مسدداً كرة بخارج القدم، مرت، لسوء الحظ، بجانب القائم ببضعة ملليمترات. لم يسجل يومها، لكن الجماهير وقفت تصفق لفصله المهاري غير المسبوق، أما هو فقد قال للصحافة التي استجوبته بعد نهاية المقابلة "لقد كان هدف حياتي الذي لم يسجل، لطالما حلمت أن أسجل واحداً من هذا الطراز، كنت سأسعد لو تم ذلك أمام الجمهور الإنجليزي وفي معبد الكرة الأول ويمبلي العظيم".
عندما عاد مارادونا إلى الأرجنتين، دارت بينه وبين أفراد عائلته أحاديث عما فعله في تلك المباراة، وعن ذلك الهدف المهدور، غير أن شقيقه الأصغر هوغو ذا الملامح التركية، وكان بالكاد طفلاً في تمام العاشرة من العمر، شذ عن الجميع، حينما خاطبه بلهجة مستفزة خادشة لكبرياء شقيقه الأكبر: "كان عليك أن تراوغ الحارس يا أحمق، كنت تستطيع أن تعبر بسهولة لتنفرد بالمرمى وتضع الكرة مثل تفاحة في السلة، غير أنك تسرّعت فأهدرت هدفاً أسطورياً حين سددت بتلك الطريقة".
وقد رد دييغو على شقيقه المستفز بعبارات غاضبة: "أغلق فمك.. أنت تبالغ كثيراً"، قبل أن يضيف لأقاربه: "يا له من ثرثار، خانني الحظ فقط، لقد لعبنا في يوم النحس الجمعة 13، وهذا كل ما في الأمر".
2/ عندما تدرّب الشيطان على أهداف "يد الرب"
لن يدوم الود طويلاً بين إنجلترا التي دعت الأرجنتين، قبل عامين لمباراة حبية في ملعب عاصمتها لندن، فما إن حل العام 1982 حتى هوت العلاقات بينهما إلى الحضيض بسبب ما جد من تطورات حادة تعلقت بالنزاع السيادي بين البلدين حول جزر الفولكلوند الواقعة جنوب المحيط الأطلسي.
تطور الصراع الدبلوماسي إلى حملات إعلامية متوحشة تجاوزت المعقول لتنتهي بنزاع مسلح، عرف بحرب المالوين، تلك التي انتهت بهزيمة عسكرية ساحقة للأرجنتين، وطبيعي أن يثار اللغط الإعلامي بعد أن وضعت قرعة مونديال المكسيك البلدين في مواجهة كروية، دارت رحاها في ملعب الأزتيكا يوم 22 يونيو/حزيران 1986.
خيل للجميع بأن مقابلة ربع النهائي ستكون مجزرة أقدام، قبل أن تصبح واحدة من أكثر المباريات جدلاً وإثارة على مر الأيام.
بعد شوط أول أبيض، جاء الشوط الثاني سريعاً، إذ لم تنقض منه سوى 6 دقائق، حتى كان مارادونا يمرر في الدقيقة 51 لبوروتشغا غير أن مدافعاً إنجليزياً رد الكرة المقطوعة داخل صندوق العمليات، كانت كرة هوائية ساقطة قفز إليها مارادونا في تماس مع الحارس شيلتون الذي حلق بغية إبعادها بالقفاز، سبقه مارادونا محنياً رأسه وملاصقاً يده اليسرى بها، ولأنها كانت عالية فقد أسقطها بلدغة بقبضة سريعة في المرمى، قبل أن يجري رافعاً يديه معلناً إحراز الهدف، لم يتفطن أحد للقطة الاحتيالية سوى المدافع المحوري الذي رفع معترضاً على التسجيل، ثم تبعه الحارس، أما اللاعب الأرجنتيني باتيستا فقد ركض نحوه، وهو يقول "لكنك وضعتها باليد"، نهره دييغو: "اسكت أيها الأخرق عليك أن تعانقني فقط. عانقوني مثل ممثلين جيدين، وإلا سيتفطن الحكم ويلغي الهدف".
أما اللاعب المحتال فقد أظهر أنه صادق لما أعترف بأنه خدع الجميع: "لم يرَ 90 ألف متفرج أني سجلت بيدي، فكيف للحكم أن يرى ذلك، لا، بل حتى الحارس شيلتون لم يلمح شيئاً، إنها يد الرب".
بعد سنوات كشف خورخي فالدانو سراً طريفاً وغير متوقع فاجأ الكثيرين عندما اعترف لتلفزيون أرجنتيني: "كان دييغو يتدرب مرات على هذه الحركة خلال حصص التحضير، كانت له طريقة خاصة في نقر الكرة بيده محنياً رأسه ليغطي عليها. كنا نراه يكرر ذلك من حين إلى آخر، وكنا نضحك أما هو فيرد "لمَ تضحكون مثل البلهاء؟ إنه هدف".
وطبعاً، ما من أحد توقع أنه كان يعد العدة ليفعلها حينما سنحت الفرصة في مباراة الإنجليز، فقد كان مستعداً للتحالف مع الشياطين والملائكة لكسب تلك المباراة، التي كان يظهر فيها أمام كاميرات التلفزيون ما يضمره داخل غرف التبديل والرواق المؤدي للملعب، ففي العلن يصرح: "هي مجرد مباراة في الكرة. لا دخل لنا بالسياسة"، أما في السر فقد ظل يشحذ عزيمة زملائه بحماسة ووطنية" عليكم أن تقاتلوا من أجل الفوز، تذكروا أن الإنجليز أبناء… قتلوا جيرانكم أو أقاربكم في حرب الفولكلوند".
3/ تلك النصيحة "الأخوية" التي صنعت هدف القرن
لم تمضِ غير 4 دقائق حتى كان مارادونا يمسك الكرة أسفل خط المنتصف، سحبها بباطن قدمه مراوغاً لاعباً، قبل أن يستدير حول نفسه ماسحاً لاعباً آخر، ثم تلاعب بثالث، وتجاوز الرابع عند خط العمليات، قبل أن ينطلق داخل الصندوق بالسرعة القصوى، مواجهاً الحارس شيلتون، وفي تلك اللحظة بالذات كان عليه أن يقرر في جزء من الثانية ما الذي سيفعل، قبل أن تخطر له تلك الجملة التي قرعه بها شقيقه الأصغر هوغو قبل 6 سنوات..
"كان عليك أن تراوغ الحارس يا أحمق، كنت تستطيع أن تعبر بسهولة، وتنفرد بالمرمى بدل أن تسدد بتلك الطريقة".
وفعلاً، فقد كان مارادونا ينفذ بتوافق عصبي وبدني، ما نصحه به شقيقه باصماً على هدف حياته، يشرح: "في تلك اللحظة تفكرت مشورة أخي، كان الأمر شبيهاً بالبرق الخاطف"، أما زميله كانيجيا الذي شاهد الهدف على شاشة التلفزيون فأعرب: "تلك المراوغة كانت تبدو لي غير حقيقية، وقريبة من أفلام كارتون الأنيمي اليابانية"، لكن التاريخ سيسجل طريقته في قطع جدار الدفاع مثل سكين في قالب زبدة، بمسمى الدمغة المارادونية. وحقاً فقد حطم الفتى الذهبي 5 لاعبين، بيتر بيردسلي وبيتر ريد، وتيري بوتشر، وتيري فينويك، وبيتر شيلتون، في فاصل سريع جرى فيه مسافة السبعين متراً، ولم يستغرق غير 11 ثانية بين لحظة المراوغة الأولى ودك الكرة في العرين.
بعد العودة من المونديال والتتويج باللقب العالمي، سُميت كأس عالم 1986 بكأس مارادونا، نظير ما أبلى فيها، فقد قدّم تمريرات حاسمة بينها التمريرة النهائية لبوروتشاغا التي جلبت هدف الفوز على ألمانيا خلال الأشواط الإضافية بـ3/2، وسجل 5 أهداف رائعة، بينها ذلك الهدف الخرافي الذي صار لدى الأرجنتينيين أهم من التتويج بكأس العالم، لأنه أعاد لهم كبرياءهم المهدورة في حرب المالوين، وثأر للوطن من هزيمته العسكرية أمام الإنجليز.
أما هو فقد أهداه لشقيقه "هوغو" بأن أطلق عليه مسمى "شكراً التوركو".
في العام 2002، اختارت "فيفا" هدف "شكراً التوركو"، أفضل هدف في القرن، أما القميص رقم 10 الذي حمله الفتى الذهبي، في تلك المباراة، والمعروض حالياً، في متحف مونديال قطر 2022، على سبيل التأجير من مالكه الذي اشتراه، قبل أعوام، في مزاد علني، بمبلغ 8.94 مليون دولار.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.