عبر فتحة صغيرة في الجدار، وبعض الشقوق في الباب الخشبي، وفتاة لم يتعد عمرها 14 عاماً، قدّمت لنا المخرجة الأردنية من أصل فلسطيني دارين سلام قصة حقيقية عن النكبة الفلسطينية، وذلك من خلال فيلمها الطويل الأول "فرحة"، والذي عُرض للمرة الأولى أثناء اختتام فعاليات مهرجان أيام فلسطين السينمائية الدولي في دورته التاسعة، ومؤخراً تم عرض الفيلم على منصة نتفليكس العالمية، وهو الأمر الذي أثار غضب دولة الاحتلال الإسرائيلي. فما هي قصة هذا الفيلم؟ ولماذا أثار حفيظة إسرائيل؟
النكبة الفلسطينية عبر عيون الفتاة الصغيرة فرحة
تبدأ أحداث الفيلم خلال عام 1948 من إحدى قرى فلسطين؛ حيث نشاهد الفتاة الصغيرة فرحة، التي أدت دورها ببراعة الممثلة الموهوبة كرم طاهر، وهي تذهب إلى الكتّاب بصحبة صديقاتها، وفي الوقت الذي تفكر فيه كل الفتيات بالزواج تحلم فرحة بالتعليم وتلح على والدها المختار حتى تلتحق بمدرسة المدينة، يوافق والدها على مضض ويرضخ لطلبها، يملأ استمارة التقديم ولكن الحلم لم يكتمل؛ حيث اجتاحت القوات الإسرائيلية القرية الصغيرة التي تسكنها فرحة.
تتسارع أحداث الفيلم وتقتحم القوات الإسرائيلية بيوت الفلسطينيين، ترفض فرحة الهروب من القرية وتقرر أن تمكث بصحبة والدها الذي يخاف عليها ويخبئها في غرفة الخزين الملحقة بالبيت، ومن خلال تلك الغرفة المعتمة تشاهد فرحة آثار الاجتياح وترى جنود الاحتلال وهم يقتلون أسرة فلسطينية كاملة من أب وأم وثلاثة أطفال.
لماذا أثار فيلم فرحة غضب دولة الاحتلال الإسرائيلي؟
مع بداية شهر ديسمبر/كانون الأول من هذا العام قررت شبكة نتفليكس عرض الفيلم الأردني "فرحة"، وهو الأمر الذي أثار غضب دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث غرد أفيغدور ليبرمان، وزير المالية في الحكومة الإسرائيلية المنتهية صلاحيتها، وقال: "من الجنون أن نيتفليكس قررت بث فيلم هدفه كله خلق ذريعة كاذبة والتحريض ضد الجنود الإسرائيليين". كما ذكر ليبرمان أنه سينظر في سحب دعم الدولة للمسرح العربي العبري في يافا، وذلك بسبب عرضه للفيلم.
وفي سياق متصل قال هيري تروبر وزير الثقافة الإسرائيلي إن عرض الفيلم في دور السينما الإسرائيلية يبعث على العار، الغضب العارم لم يقتصر على وزراء الدولة؛ حيث أعرب الكثير من الإسرائيليين عن غضبهم وقاموا بإلغاء اشتراك نتفليكس، حيث قال أحد المشتركين: "كيف تدعم نتفليكس هذا المشهد المروع وغير الواقعي الذي يتنافى مع الأخلاق الإسرائيلية؟"، في إشارة إلى المشهد الذي قام فيه جنود الاحتلال بقتل كل أفراد العائلة الفلسطينية.
إلغاء اشتراك منصة نتفليكس لم يكن رد الفعل الوحيد على الفيلم؛ حيث قام الكثير من الإسرائيليين بوضع تقييمات سلبية للفيلم على موقع Imdb، وذلك من خلال حملة ممنهجة بغرض تخفيض تقييمه، هذا وقد ذكرت مخرجة الفيلم دارين سلام في بيان لها أن "فيلم فرحة يتعرض لهجوم عنيف من قبل مسؤولي الحكومة الإسرائيلية ووسائل الإعلام الإسرائيلية، وكذلك من قبل أفراد إسرائيليين على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات".
لا يتعلق الأمر بدعم القضية الفلسطينية.. لماذا قررت شبكة نتفليكس عرض فيلم فرحة؟
خلال العقد الأخير عرضت منصة نتفليكس الكثير من الأعمال الإسرائيلية مثل مسلسل "فوضى" و"الملاك" والمسلسل الوثائقي Inside The Mossad ومسلسل الرهائن، وذلك بغرض ترويج ونشر الرواية الصهيونية؛ ففور أن تدخل على المنصة وتكتب كلمة إسرائيل سوف تنهمر عليك الأعمال الفنية الإسرائيلية المتاحة بكل اللغات، تلك الأعمال التي تستهدف دوماً تلميع صورة إسرائيل السياسية وتجسيد الشخصيات الإسرائيلية كأبطال حرب ضحوا من أجل وطنهم.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فمسلسل "فوضى" على سبيل المثال، يقارن بين المجتمع الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي؛ فالمجتمع الإسرائيلي منظم وذكي ومسالم لا يعتدي على أحد، ويلتزم طوال الوقت بالأخلاق النبيلة، على عكس المجتمع الفلسطيني الذي يتسم بالعشوائية والتطرف والإرهاب، ومن هنا ندرك أن الأعمال الإسرائيلية على المنصة ليست بغرض الترفيه ولا تحمل حتى طابعاً تجارياً، ولكنها أعمال سياسية بحتة لها غرض واحد وهو ترويج صورة كاذبة عن دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وسط كل هذا الدعم المبالغ فيه الذي تقدمه نتفليكس لدولة الاحتلال الإسرائيلي كان موقفها من فيلم "فرحة" غريباً وغير مفهوم؛ فلماذا قررت نتفليكس أن تغضب إسرائيل وتعرض فيلماً يوضح حقيقتها أمام العالم بأجمعه؟ في هذا السياق يقول سعيد أبو معلا الناقد الفني والمحاضر في الجامعة الأمريكية إن منصة نتفليكس عرضت الفيلم لأنها تهتم بالجانب التجاري والربحي، ولأن أغلب الجمهور العربي متعاطف مع القضية الفلسطينية، ولذلك فهي تركز على جذب هذا الجمهور.
ويضيف الأستاذ أبو معلا قائلاً إن نتفليكس منحازة بالفعل للجانب الإسرائيلي، ولكن مؤخراً حدث تحول سياسي في النظر للقضية الفلسطينية بالولايات المتحدة، خاصة بعد أحداث الشيخ جراح ومعركة القدس؛ ففي ذلك الوقت وعبر مواقع التواصل الاجتماعي أدرك الكثيرون بالخارج أن من حق الجانب الفلسطيني أن يروي القصة من جانبه.
وجهة نظر الأستاذ أبو معلا عن اهتمام نتفليكس بالجانب الربحي تؤيدها تصريحات مديرة الاستحواذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتركيا لدى نتفليكس نهى الطيب، والتي قالت: "أنا شغوفة جداً بتنويع محتوى منصتنا، حيث تسعى Netflix لتصبح موطناً للسينما العربية، يستطيع أي شخص في العالم الوصول إليه للاستمتاع بأفلام ومسلسلات عربية متميزة".
دارين سلام.. تحديات العمل الطويل الأول
في ذاكرتنا الجمعية ترتكز أغلب أعمال القضية الفلسطينية على تناول النضال الفلسطيني؛ أطفال الحجارة، مآسي اللجوء والمعابر، الاحتياج والمجازر والجدار العازل، كنا نرى دوماً الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها القضية الفلسطينية، ولكن دارين سلام اختارت هذه المرة موضوعاً مختلفاً؛ قررت أن تحكي لنا القصة من بدايتها، الصفحة الأولى من ذلك الصراع، وهي النكبة.
والحقيقة أن موضوع النكبة شديد الصعوبة؛ كيف يمكن أن تحكي عن ترحيل أكثر من 800 ألف فلسطيني؟ انطلقت دارين من قصة شديدة البساطة وشديدة الصعوبة في الوقت نفسه، قررت أن تحكي قصة صديقة والدتها، الفتاة التي تُركت في غرفة الخزين وشاهدت النكبة عبر مقتل عائلة فلسطينية كاملة.
من وجهة نظري كان العمل شديد الصعوبة على المخرجة، فمن ناحية كيف ستحكي عن النكبة بشكل إنساني دون صخب ودون أن تجعلنا نذرف الكثير من الدموع، وفي الوقت نفسه تجعلنا ندرك عمق الأزمة النكبوية، ليس هذا فحسب، التحدي الأصعب كان في خط سير الفيلم؛ فهناك أكثر من 50 دقيقة من أصل تسعين دقيقة هي مدة عرض الأفلام لا توجد فيها أحداث؛ مجرد فتاة محبوسة في غرفة مظلمة؛ إذاً نحن أمام عمل طويل تدور أغلب أحداثه في وقت قصير ودون حوار، وعلى الرغم من ذلك لم يتسرب لنا الملل إلا لوقت قصير، ثم أحكمت دارين قبضتها على العمل؛ حيث استعاضت عن الحوار بصوت المطر والرصاص وبكاء الطفل الصغير، حبسة فرحة في العتمة وحدها جعلتنا ربما ندرك الألم والوحدة التي كانت تشعر بهما، فتاة فقدت كل شيء، تجلس في الظلام، ومن العبث أنها تحمل اسم "فرحة"، ذلك الاسم الذي اختارته المخرجة عن عمد ليعكس التناقض مع القصة من جهة، وليوضح لنا أن الشعب الفلسطيني فقد فرحته بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.