لا شيءَ يُعْجبُني
يقول مسافرٌ في الباصِ: لا شيء يعجبني
لا الراديو
ولا صُحُفُ الصباح
ولا القلاعُ على التلال
انخفاض غير مسبوق لقيمة الجنيه المصري أمام الدولار، وقفزات هائلة لأسعار الذهب، وضابط طيار يعتدي على ممرضات في مستشفى حكومي فيُفقد إحداهن جنينها، ثم اعتداء ضابط آخر على صحفي استقصائي بقيمة إسماعيل الإسكندراني أثناء ترحيله، هذا بعد وفاة ما زاد عن 15 معتقلاً في السجون المصرية لسوء ظروف الاحتجاز في الأشهر الستة الأخيرة.
الخوف.. لم يعرف المصريون شعوراً آخر في شهرهم الأخير غير الخوف؛ الخوف من اليوم، والخوف على مستقبل الأبناء. الخوف من الاحتفاظ بمدخراتهم، والخوف من صرفها أيضاً! الخوف من عواقب الاعتراض، وكذلك الخوف من عواقب الصمت أكثر من ذلك.
وفي وسط كل هذا الخوف، استيقظ المصريون صباح اليوم الخامس من ديسمبر/كانون الأول على خبر بدّل ذلك الخوف بالحزن؛ حزن عميق مجرد، حزن لفقدان الصحفي المصري الأهم في الألفية الجديدة: محمد أبو الغيط.
فلماذا شعرنا جميعنا بكل هذا الحزن في أيام لم نعرف فيها إلا شعوراً واحداً اسمه الخوف؟
تقول سيّدةٌ: أَنا أَيضاً، أنا لا شيءَ يُعْجبُني
دَلَلْتُ ابني على قبري، فأعْجَبَهُ ونامَ، ولم يُوَدِّعْني
يقول الجامعيُّ: ولا أَنا، لا شيءَ يعجبني
دَرَسْتُ الأركيولوجيا دون أَن أَجِدَ الهُوِيَّةَ في الحجارة
هل أنا حقاً أنا؟
توفي أبو الغيط بعد أيام قليلة من إتمامه لعامه الرابع والثلاثين. عمر صغير بتجربة شديدة الثراء غزيرة الإنتاج. إنتاج جعلنا جميعاً لا نتوقف عن تخيُل جمال ما كان سيقدمه أبو الغيط لو استمر معنا أكثر من تلك المدة القصيرة؟
الأمر الثاني هو الجرأة التي تمتع بها في حياته بعد التخرج. يشعر معظمنا برغبته في ترك مجاله الذي فرضته عليه الظروف، وتغيير مسار عمله لمجال يحبه بصدق. نتراجع عن الفكرة بعد سنين من التردد خوفاً من فقدان الاستقرار الذي توفره لنا الوظيفة المضمونة.
أما أبو الغيط فكان من القلة الجريئة، التي قررت أن تفعل ما تحب ولا شيء غيره. ترك عمله كطبيب بشري في مستشفى إمبابة بمصر عام 2012؛ ليتفرغ للعمل الصحفي، فبرع فيه كما لم يفعل غيره. لذا يشعر ملايين الشباب بالحنين الشديد لتلك التجربة.
رائحة يناير
بعد وفاة دكتور أحمد خالد توفيق -رحمه الله- خرج علينا الإعلامي المصري بصوته الجهوري، متعجباً من ثورة الحُب تلك، وحاقداً على رمز جيلنا الذي توفاه الله. لم يفهم أديب أو غيره لماذا نشعر بذلك الحزن على الدكتور أحمد خالد توفيق، أو على محمد أبو الغيط.
لم يفهم أديب، وفي أغلب الظن أنه لن يفهم، لأنه لم يتمنَّ مصرنا يوماً كما تمنيناها، لم يفهم معاناتنا عندما فشلت أحلامنا، لم يحلم بيوتوبيا ناصعة البياض التي حلمنا بها لبلدنا بعد ثورة 25 يناير. لن يصدق أن تلك المشاعر حقيقية؛ لأنه كغيره لا يعرف غير المصلحة لغة يتحدث بها.
سنشعر بذلك الحزن كلما سقطت ورقة من شجرة 25 يناير، وسيستمر أديب ورفاقه يتعجبون من المشهد.
أمل الصحفيين
يقول جنديٌّ: أَنا أَيضاً، أَنا لا شيءَ يُعْجبُني
أُحاصِرُ دائماً شَبَحاً يُحاصِرُني
تواجه مهنة الصحافة في مصر ظروفاً لا يمكن وصفها إلا بالمجحفة في السنوات العشر الأخيرة؛ مواقع محجوبة، وصحفيون مقيدون في اختيار أفكار كتاباتهم، يكتبون بأسماء مستعارة خوفاً من الملاحقة الأمنية، ورواتب هزيلة، ومن تحمله موهبته للعمل في موقع مرموق خارج مصر، يتحايل على استقبال أي حوالة دولارية قادمة من الخارج كمن يسرق، لا يتقاضى أجره. هم دائماً يحاربون شيئاً لا يرونه!
جاء نموذج أبو الغيط للصحفيين، كالضوء الذي ذهب إليه منذ ساعات. الأمل الذي يتشبثون به حتى لا يفقدوا إيمانهم بإمكانية نجاح الرحلة في النهاية. النور الذي يمكّنهم من إكمال طريقهم، بدلاً من اعتزال المهنة تماماً طمعاً في الأمان المزعوم.
نرى التأثر الشديد به من أبناء جيله بالطريقة التي ينعونه بها. الكل ينعيه بطريقته نفسها في الكتابة التي علمنا إياها. يخبرك ذلك المشهد بما تركه محمد أبو الغيط في نفوس جيله.
التواضع غير المتكلف
في عام 2014، وأثناء عمله في قناة الحُرة، تواصلت مع محمد أبو الغيط بعدما رشحني صديق مشترك بيننا لمحمد، لتصوير تقرير عن الاستاند أب كوميدي وورش الكتابة الساخرة، والتي كانت لي فيها محاولات عشوائية في تلك الفترة من حياتي.
اتصل بي أبو الغيط -رحمه الله-، وبعد دقيقة واحدة شعر بالارتباك في صوتي، وكان شعوره صحيحاً. كنت مرتبكاً لأنها تجربتي الأولى من نوعها، ولأني أكلم واحداً ممن أتابع كتاباتهم بشغف شديد لأتعلم منها.
لا أنسى ما قاله لي حينها حتى اليوم: "مرتبك ليه يا صديقي؟ عادي كلنا بنحاول. أنا نفسي باحاول، وأي حد هيكلمك في حاجة شبيهة بيحاول. كلنا زي بعض بنحاول ننجح، فاتكلم عادي". تبدلت حالتي بعد تعقيبه وأصبحت أكثر راحة، وعممت تلك الجملة في أي مقابلة عمل لي بعد ذلك: "كلنا بنحاول ننجح. كلنا زي بعض".
تواضع أبو الغيط لم يكن متكلفاً، كان تواضعاً حقيقياً يصل إليك بعد ثوانٍ معدودة من الحديث معه، على الرغم مما وصل إليه في سلم الصحافة كأنجح صحفي مصري دولي أفرزته ثورة 25 يناير.
الانسيابية
أتمنى ألا تتهمني في السطور القادمة بالمبالغة في المديح لقسوة الحدث وما إلى ذلك. صدقني ما سأقوله هو قناعتي التامة منذ سنوات. أكثر ما كان يعجبني في شخصية أبو الغيط هي الانسيابية التامة.
يخدع ليونيل ميسي الجمهور واللاعبين، ويقنعهم أن كرة القدم سهلة وهي ليست كذلك. بهاء سلطان حين يمسك الميكروفون تشعر أن صوته العبقري هذا يخرج دون أية معاناة. يحاول المطربون تقليده، فيعجزون. يتحدث بليغ حمدي في لقاءاته التي تُذاع على ماسبيرو زمان عن ألحانه بشيء من التبسيط الذي لا يتوافق تماماً مع عظمة ما أنتجه!
أبو الغيط بالنسبة لي من هذا النوع نفسه من البشر؛ الإبداع الذي يخرج بانسيابية دون أية معاناة، حتى لو كان كل شيء حول صاحبه يحاول أن يجعله يعاني!
تمتع أبو الغيط بمخزون أدبي رفيع، ومخزون علمي لا يستهان به كونه طبيباً بشرياً. يتحدث عن أي شيء في الحياة، فيربط مهارته الأدبية تلك، بحصيلته العلمية، فيجعلك لا تمل من القراءة له ولو استمرت لساعات. يفعل ذلك بانسيابية تامة، غير مفهومة بالنسبة لي!
كرامة الأساطير
منذ عام 2014، واستقرار مقاليد الحكم في مصر لأبناء 30 يونيو، تباينت ردود أفعال أبناء 25 يناير من الصحفيين، والذين استفادوا أيما استفادة من حركة الرواج الفكري التي أعقبت الثورة.
منهم من قرر الحيد تماماً عن طريق الثورة، والانضمام التام لمعسكر 30 يونيو، ليتولى رئاسة تحرير موقع أو تقديم برنامج على إحدى القنوات التي صارت مملوكة جميعها للدولة. ومنهم من قرر الصمت والاكتفاء بحالة اللاسلم اللاحرب تلك.
أبى أبو الغيط، على صغر سنه، إلا أن يوضع في خانة الأساطير. أبى أن يهادن، أو أن يُقدم على أي وضع هو يعلم أنه سيكون مجبراً فيه على تقديم تنازلات مستقبلية. سافر للاستقرار في إنجلترا والعمل من هناك في التلفزيون العربي، وشبكة أريج للصحافة الاستقصائية.
رحل محمد أبو الغيط، وهو النموذج المتكامل للصحفي الدولي الناجح بأبسط الإمكانيات. رحل من أعطاني أنا وغيري الأمل. من علمنا أن الشغف واجب، وأن المحاولة مكفولة للجميع، وأن الصوت ما زال مسموعاً.
وكما قال أحد زملائنا في موقع مدى مصر، ننعي ابن جيلنا وهزائمنا واشتياقنا، وصديق رحلتنا على اختلاف التجارب، محمد أبو الغيط.
رحم الله محمداً، وألهم كل أحبائه وأهله الصبر على فراق علامة مؤثرة للغاية، لن يجود الزمن بمثله بسهولة بكل تأكيد.
يقولُ السائقُ العصبيُّ:
ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة
فاستعدوا للنزول
فيصرخون:
نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ، فانطلق!
أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا
أنا مثلهم لا شيء يعجبني
ولكني تعبتُ من السفَرْ..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.