في مساء يوم الثلاثاء أطل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي من على قناة الشرقية في حديث عن آخر المجريات السياسية على الساحة العراقية ومرور شهر على حكومة السوداني الإطارية. التي كلفت الإطار التنسيقي سنة كاملة من الأخذ والجذب فيها فعلٌ وقولٌ.
تصاعد النزاع إلى نقطة الاقتتال الدامي على أسوار المنطقة الخضراء. مع التيار الصدري المنافس الأشرس. والمتمرد على البيت الشيعي على خلطة "العطارة الشرقية". التي لم يعد يستسيغها الصدر ويقبل بها بشكل نهائي.
يعقب المالكي عن سؤال هل حكومة السوداني ستمضي بشكل سليم من دون أي معوقات.
يرد بقوله أنا اعتبر نفسي المسؤول عن هذه الحكومة. ويجب أن نقدم التنازلات في سبيل أن تمضي بالشكل الصحيح الذي اتفقت عليه قوى الإطار، ومن هذه التنازلات التي أفصح عنها: المناصب الأمنية والعسكرية.
وهنا يقصد منصب رئيس جهاز المخابرات. فشدد أن يكون المرشح لها شخصية مستقلة عن الأحزاب السياسية، وبالأخص تلك التي تمتلك فصائل مسلحة.
فمنصب وزير الداخلية، والدفاع قد حزمت حقائبها ضمن معادلة تقطيع الكعكة ما بين البيت الشيعي والسني. ولكن المختلف عليه في منصب جهاز المخابرات العراقي. هو أنه مستقل عن النفوذ الأحزاب المقربة من إيران، والتي لديها فصائل مسلحة.
ثانياَ والأهم هو أن هذا الجزء من المنظومة الأمنية تم إنشاؤها على يد القوات الأمريكية ما بعد 2003 وإسقاط النظام السابق. كما أن الجزء الأكبر من كوادره. تم تدريبه وتسليحه من قبل الأمريكيين.
وهذا ما تنظر له القوى السياسية الفصائلية بعين الريبة والحذر. والاتهام بالخيانة ، والعمالة لصالح أمريكا بالنسبة لجهاز المخابرات الوطني. جهاز مكافحة الإرهاب هو الآخر ايضاً يشترك مع جهاز المخابرات بنفس المشاعر الكره، والنظرة المشككة بولائه. في العراق لا يوجد ولاء للعراق نفسه. وإنما الولاء عند الكثير من القوى السياسية هو عابر للحدود الوطنية.
هذه الحملة المتواترة منذ أسبوعين. تعتبر مقدمة لمشروع تريد الفصائل أن تتمه، بعد انقطاعه في حكومة عبد المهدي المقالة. على أثر قتل المحتجين السلميين، التي كانت مطالبهم الأساسية هي مكافحة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة. الذي أعاقة تحقيق العدالة الاجتماعية ولو بالمقدار القليل.
هذه الحملة هي متفاوت في انطلاقتها. واستهدافها لهدفها المتمثل بكُل من جهاز مكافحة الإرهاب والمخابرات، أن الشرارة الأولى للاحتجاجات التي أنهت حكومة عبد المهدي (الفصائلية) كانت بعزل قائد جهاز مكافحة الإرهاب عبد الوهاب الساعدي،وأحالته على دائرة الأمرة في وزارة الدفاع.
خاض قائد هذا الجهاز بالموازاة مع الفصائل المسلحة حرب إعلامية ضارية. في حرب تحرير الأراضي العراقية من سيطرة تنظيم الدولة.
حيث لم تنجح الفصائل في مسعاها لحجب صورة عبد الوهاب الساعدي، بل أخذت سيرة الساعدي بالتصاعد بشكل مطرد مما أقلقها من انحسار صورتها على الساحة الإعلامي.
غير مدركين لعواقب قرار حكومة عبد المهدي بعزل الساعدي، والرد بالعنف والقتل على المتظاهرين السلمين. فكانت القشة التي كسرت ظهر الفصائل، ومشروعها المتمثل بدولتها العميقة، يشترك الجهازين بنفس النصيب من مشاعر البغض والعداء. الذي تكنه الفضائل لهما.
فالمخابرات ورئيسها، ورئيس الوزراء الأسبق مصطفى الكاظمي اتُّهِمَ من قبل الفصائل بضلوعه في عملية اغتيال كُل من قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. بما يعرف بـ"عملية المطار".
أما جهاز مكافحة الإرهاب فهو له حصة الأسد من هذه المشاعر. أولٌ ولأنه عمل إلى جنب القوات الخاصة الأمريكية، في تنفيذ كبرى العمليات التي أطاحت بكبار قادة الفصائل.
وأطلق عليه تسمية "الفرقة القذرة" في ذلك الوقت. بسبب أن أسلوب العمل الذي انتهجه الجهاز. كان قاسي جداً في تنفيذ عمليات المداهمة والاعتقال.
وهذا لطالما حظي جهاز المخابرات الوطني العراقي بمكانة مميزة لدى العراقيين كمنظمة تتمتع بالكفاءة وتستحق الاحترام. فعقب إنشائه عام 2004، نأى هذا الجهاز بنفسه عن المشاركة في عمليات الاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب التي تعرض لها العراقيون،والتي أصبحت شائعة بعد إطاحة الولايات المتحدة بالرئيس صدام حسين (1979-2003).
وتم تعزيز هذه الصورة التي لم تتلوث في أكتوبر/تشرين الأول 2019، حين لم يلعب هذا الجهاز دورًا في قمع حركة الاحتجاج المناهضة للحكومة. هذا النأي والاستقلالية في العمل لم يأتِ من العدم، وإنَّما كان يساند ويدعم من قبل سلطة القوات الأمريكية أثناء تواجدها في العراق، بعد خروجها من العراق ضمن اتفاقية الأطر الإستراتيجية.
عند تتبع مدراء هذا الجهاز منذ لحظة التأسيس في سنة 2004 وحتى خلوا المنصب في الوقت الحالي. كل الذين تولوا هذا المنصب هم مقربين من (C.I.A). فرئيس الجهاز الأول الفريق "محمد الشهواني" كشف فصول رحلته في معارضة النظام السابق، والعمل مع الأمريكان وفي عام 1991 على تأسّيس تنظيماً معارض يضم بين صفوفه عسكريين ومدنيين، غايته القضاء على نظام صدام حسين. وكان هذا التنظيم برعاية من وكالة المخابرات المركزية.
للقيام بانقلاب تكلل بالفشل. أدى بأن يعدم ثلاث من أولاده ضمن أربعة مائة مقاتل آخر ينتمي للتنظيم الذي أسسه الشهواني.
حاولت حكومة بغداد مرات عديدة الهيمنة على جهاز المخابرات. وأخضعاه لسيطرتها. إلا أن هذه المحاولة السابقة كانت تصطدم بالفيتو الأميركي. والتي تريد حاليا الاستحواذ عليه ألان.
استقال الشهواني احتجاجاً على يوم الأربعاء الدامي. فأصبح نائبه وزميله زهير الغرباوي، بعد استقالة الشهواني رئيس للجهاز. ولكن هذه المرة لن يتفرد الغرباوي بقيادة الجهاز. فعمل المالكي على تعين مساعد له وهو شاكر جودة، ثم قاسم عطا.
حتى إقالته من قبل رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي. ثم ليعين مصطفى الكاظمي من يونيو/حزيران 2016 رئيس للجهاز الذي أصبح فيما بعد رئيس للوزراء.
لتنتهي الرحلة بالقاضي رائد جوحي الذي تم إعفائه مؤخراً. لكن ماذا يعني أن يصل أحد المحسوبين على الفصائل أو شخصية متحزبة لهذه المناصب. هو إن السيطرة على جهاز المخابرات الوطني العراقي، الذي يتعاون بشكل وثيق مع الدول الإقليمية والولايات المتحدة، مرغوبة للغاية نظرًا إلى ما تقدمه من قدرات ومكانة، ويمكن أن تغير ميزان القوى داخل الإطار التنسيقي الشيعي.
من ناحية أخرى، فإن تغيير إدارة الأجهزة يمكنه أن يزيل بشكل فعال أحد العوامل المزعجة الرئيسية لبعض الجماعات المسلحة العراقية.
فلقاء المالكي على قناة الشرقية، أذاً لم يكن من أجل الحديث عن مجريات حكومة السوداني (الإطارية). بل كان من أجل نقل جدل استحواذ الفصائل على هاتين المؤسستين. من الكواليس إلى الفضاء والعام. وإعادة تكرار رسالة التحذير. بعد الذي تم الحديث عن مخاطر هذا العمل في برنامج مع ملال طلال من أن الذي تمضون فيه سوف يقود إلى الانهيار مرة ثانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.